نوري بوزيد هو أحد أبرز المخرجين التونسيين إلى جانب ناصر خبير والطيب الوحيشي ومفيدة الثرثلي، تميزت تجربته بالانفتاح على القضايا الحارقة وبإبداعياتها الرفيعة التي أهلته للحصول على العديد من الجوائز وحضر لأكثر من مرة في مهرجان «كان» وقد عاش تجربة الاعتقال السياسي، كما يعد من المدافعين الكبار عن الفاعلية الاجتماعية للفن. من أبرز أعماله «ريح السد» و«صفايح ذهب» و«بزناس» و«بنت فاميليا» و«عرائس الطين» و«آخر فيلم» هو عنوان آخر أعماله في هذا الحوار يكشف عن انشغالاته الفنية والاجتماعية وعن خصوصية إبداعه وفكره. - «آخر فيلم» هو آخر أعمالك وتبدو فيه كما لو أنك حسمت مع الأشياء التي شغلتك في عمل تجربتك، فما هي الأشياء التي كان يهمك التعبير عنها في هذا الفيلم؟. < لقد أحسست أنه لم يتبق لي حسابات شخصية أصفيها مع نفسي وقد أصبحت لي نظرة أكثر وضوحا للأشياء لهذا فكرت في الاشتغال على المقدسات والمعتقدات والحياة والموت، قبل أن أنتهي من عملي في السينما وأنتهي من الوجود ربما. فقد قلت إنه ربما يصعب علي أن أنجز فيلما آخر بعد هذا الفيلم. وقد صاحبني خوف من المس بالمقدسات وحذر كبير في معالجة الأشياء التي شغلتني في هذا العمل. لو أني كنت أتصور أن ردود فعل الجمهور المصري ستكون كما عبر عنها في قرطاج لذهبت إلى أبعد مستوى في ما يخص المعالجة، لكني أتمنى أن يكون هناك فيلم آخر لي أتعمق فيه في طرح القضايا التي ركزت عليها في «آخر فيلم»، هناك أشياء عديدة في أوطاننا يخيفوننا بها ونحن نسلم بها كما يريدون، ومن ذلك مسألة الحديث في الدين، وأن تجمع بين هذه الأشياء مسألة صعبة لكني اعتبرها قضيتي الآن وأسعى إلى طرحها كصيغة تتجاوز الحدود التي يرغبون أن نقف عندها دوما. وما طرحته في فيلمي الأخير له علاقة بهذه المسألة، إنه محاولة مساءلة قدر الخسران وعنوان «رجل من حجر». - هل لديك إحساس بتراجع العقلانية في مجتمعاتنا وبأن هناك حاجة إلى إعادة ترتيب علاقتنا مع المقدس خاصة الديني منه؟ < طبعا هناك تراجع كبير. شعوبنا استنفدت كل الحلول السياسية، وكل الإيديولوجيات من اشتراكية وقومية عربية وما أسموه بالجماهيرية إلخ، وهكذا لم يبق من ملجأ للناس غير الحل الديني وهذا فيه بعض الخطورة، لماذا؟ لأن التدين مسألة شخصية، ففي الشرق مثلا هناك أكثر من دين ولا يمكن أن تحل قضايا سياسية أو اجتماعية في الشرق العربي (فلسطين ولبنان بالانطلاق في نظرة وحيدة للدين لأن هناك تعددا على هذا المستوى. والاختلاف الديني مسألة يجب على كل أبناء هذه البلاد أن يتعودوا عليها، وقد تعودوا عليها ويجب البحث عن حلول للخلافات بعيدا عن هذا الأمر. أنا لست ضد اختيارات الناس على المستوى الديني والعقائدي إلا أن ما نرفضه هو أن يتم الانطلاق من الدين لإرهاب الآخرين. - لكن اختلال وضعنا العام ألا يرتبط بالآخر ورؤيته لأنه يختزل مكوناتنا وهويتنا في نظرته السلبية فقط؟ < نظرة الآخر فيها الكثير من العنصرية والحقد على الإسلام والسلبية والنزوع الاستعماري، مع استثناء مواقف ورؤى بعض المثقفين والأطراف المعادية للنظرة المركزية، وهكذا أصبح نقد الدين يأتي من الخارج وهذا غير مقبول لأن ما يهم هو أن نبني نظرتنا الخاصة للمسألة الدينية وكيفية التعامل معها. فالمشكل في المغرب أنهم يتسامحون مع الدولة الدينية باسم اليهود ويرفضون ذلك باسم المسلمين. أنا لا أقبل نقدا بذاته، وحين أقول علينا أن ننقد ذواتنا ونطرح بدائل لاختلالاتنا لاداعي إلى امتلاك إجابة لكني أومن أن فتح باب الاجتهاد في أشيائنا الجوهرية، وفي المسألة الدينية لا بد أن يثمر إجابات مفيدة للجميع. - اشتغلت في أفلامك السابقة على «المكبوت» و«الممنوع» والمقدس... ما الذي يجذبك لهذه القضايا؟ < لقد اكتشفت في تربيتي أن الشيء الذي يمنعني من أن أتقدم وأتطور هو الشيء الذي لا يسمح لي بأن أحكي عنه. ففي فيلمي الأول «ريح السد» سعيت إلى القول إن الحريات ضرورية لتقدم المجتمعات سواء الحريات السياسية أو الدينية أو غيرها. نحن كشباب عشنا الخوف من الاعتداء الجنسي وتحطيم الرجولة فكيف يمكن أن تطلب مني تحقيق الانتصار لاحقا. لقد انغرست الهزيمة في أعماقنا وتم تكسير كل طموحاتنا وقدراتنا وتم هزمنا بالقهر والاعتداء والتحطيم لهذا لم يكن لنا أن ننتصر. تحطيم المثقف في واقعنا يعني هزمه إلى الأبد وهذا ما أشرت إليه في فيلمي «صفائح ذهب». وفي فيلم «بيزناس» تحدثت عن الدعارة كواقع ومورد رزق لفئة اجتماعية، وعنصر جاذب للسياح وفي فيلم: «عروس الطين» تحدثت عن استغلال الخادمات صغيرات السن إلخ. إن هذه القضايا من صميم واقعنا وتمنع الإنسان في أوطاننا من التقدم ولهذا حاولت أن أتحدث عنها، وأعتبر ما قمت به بمثابة تعرية للذات- ذاتي أنا- بغاية علاجها. - هل يمكن الاستنتاج أن أفلامك قد ارتكزت بشكل كبير على سيرتك الذاتية؟ وهل أسعفتك تجربتك الحياتية في إبداع شخصيات أو ملامح تشبه بعض أوجهك؟ < السيرة الذايتة الخاصة تحيل عليها شخصيات أفلامي لأن شخصياتي أنا من أنتجتها ولهذا تأخذ بالضروري ملامح من مسيرتي، لكني أقول إن ما عشته شخصيا يشبه جيلا، وسيرة جماعية وأتبناها بشكل تام. هناك أشياء عديدة أشرت إليها في أفلامي لم أعشها، فالشخصية في «ريح السد» لها أطفال وأنا حين كنت معتقلا لم أكن متزوجا ولم يكن لي أطفال لكني حين أشرت إلى التعذيب كان ذلك لأني عشته وعانيت منه ومورس علي ولايمكن لأي كان أن يقول لي إن التعذيب غير موجود لأني عشته. - هل صفيت الحسابات مع واقع الاعتقال وصفى المثقف وتونس هذا الحساب مع هذا الواقع الذي عشت مرارته؟ < لا الحساب لم يصف لأن الاعتقالات مازالت موجودة لكن في اتجاه آخر. أنا لا أوافق الإسلاميين في آرائهم ومواقفهم لكني أطالب بحقهم في الحرية والتعبير. الاعتقال بسبب الأفكار يخدم الإرهاب، وحين تمنع فردا من ممارسة حقه في التعبير بشكل طبيعي يبحث عن صيغ للعمل في السرية ويتوجه نحو الإرهاب. لقد كنت ومازلت ضد اعتقال الناس بسبب أفكارهم والأفكار التي يجب التسامح معها هي الأفكار العنصرية والإمبريالية والمكرسة للاغتصاب كاغتصاب الأطفال. - كيف تستحضر تجربتك مع الاعتقال وكيف تعلق عليها؟ < سأقول لك شيئا قد يزعجك ربما، فأنا ربحت أشياء كثيرة من تجربة الاعتقال لأنها مكنتني من الدراسة والقراءة والاطلاع الواسع على الثقافة والتفكير، ومكنتني أساسا من بناء عالمي الداخلي، وهذا العالم الداخلي لم أستطع التخلص منه بعد انتهاء محنة الاعتقال وهذا ما شجعني على الكتابة، خاصة كتابة السيناريو، وهذا العالم الداخلي موجود في أفلامي، كما تمكنت من طرح مشاكلي مع المجتمع. لقد حررني السجن من قيود اجتماعية عديدة لم تكن تسمح لي بالتعبير عن الكثير من المعاناة، ولكن أعدت النظر في الكثير من الأشياء واكتسبت ثقة كبيرة بنفسي. في الفترة الأولى من تجربة الاعتقال عانيت كثيرا لكن لاحقا تعودت وهكذا أصبحت رؤيتي للأشياء ونظرتي لها أكثر فلسفية وأكثر مرونة ورصانة وأكثر إفادة، وهكذا بدأت أدرك أنني لم أخسر أشياء كثيرة. - نلاحظ تميزا كبيرا على مستوى بناء الشخصيات وإبداعيتها،مثل «فرفط»، و«روفا» و«الطفلة» وغيرها. ماهو التصور الذي يحكم اختيارك للشخصية ولبناء ملامحها؟ < شخصياتي عاشت الهزيمة والتحطيم والتمزق. والهزيمة لا تأخذ معنى الهزيمة السياسية والعسكرية فقط، بل معنى الهزيمة الشخصية كذلك. الهزيمة في واقعنا تعاش كواقع يومي وهناك واقع شخصي للهزيمة. فالناس في العراق يعيشون الهزيمة يوميا، وهذا ما حصل في العديد من أوطاننا. ربما عاشت شعوب أخرى هذا الأمر إلا أنها حولته لاحقا إلى انتصار وهذا هو حال اليهود مثلا، وما يغيب عندنا نحن هو استثمار الهزيمة لبناء الانتصار. يلزمنا نحن أن نكتشف هزيمتنا أولا، وشخصيا أنطلق دائما من هزائم الفرد ومن واقعه المأساوي ثم أعمل على تطوير صيغ التمرد التي قد تتحول إلى ثورة شخصية وقد يكفي ذلك لتغيير أشياء عديدة. طبعا حين أقول هذا لا يعني أني أومن بالحلول الفردية، أبدا لأن الهزيمة مسألة سياسية وعسكرية واجتماعية وليست مسألة وعي الشخصية بوصفها وهذا اعتبره جد إيجابي لأنه لا يمكنني أن أكرس وعيا خاطئا يقول بالانتصار عوض الهزيمة. فما يوجد كواقع هو الهزيمة وهذا ما أسعى إلى إبرازه. - نعيش في مجتمعاتنا وضع المهزومين والمغلوبين والمقموعين، فهل يسعفنا التركيز على بناء سيرة الهزيمة في سينمانا على بناء الانتصار واستنبات وعي الحاجة إليه؟ < أنا لست على استعداد لتقديم أشياء خاطئة للناس، ولا أحب أن أبيعهم أحلاما غير حقيقية. فبنظرك ما هي الأحلام التي يمكنك أن تبيعها للناس في العراق وفلسطين ولبنان؟ فهل دوري هو أن أبعدهم عن انشغالاتهم واهتماماتهم اليومية؟ طبعا أقبل أن أرفه عنهم بأشياء غير تافهة، لكنني لن أقبل نهائيا أن أتحدث عن الانتظار فقط. الحل برأيي هو التمرد، وهو التفكير في هذا الوضع والوعي بواقعنا المهزوم، ووعي الحاجة للخروج من هزيمتنا، وعدم نسيان الواقع. فلو لم يفهم الناس واقعهم في عهد الاستعمار بشكل جيد لما تمردوا عليه ولما كان الاستقلال لاحقا. ودوري أنا هو هذا أي التذكير بالهزيمة وبالحاجة إلى الخروج منها. لقد قلت كلاما بمصر أغضب الجميع وتحدث عنه الإعلام كثيرا وهو أن حرب أكتوبر لم تطفئ أبدا ولا جزئيا رجة وهزيمة 1967. هذا هو الواقع حرب أكتوبر لم تكن انتصارا بل كانت نقطة في معركة، وأن تستعمل هذه الحرب لتكريس الإهانة مسألة غير مفهومة. زمن الهزيمة كنت في ال21 من عمري وعشت رصد الهزيمة بشكل رهيب، فسعيت في البحث عن حل فكانت الماركسية هي الملجأ وهكذا عشت التمرد كالعديد من أبناء جيلي، وحين جاءت حرب أكتوبر استغلت لإطفاء نار التمرد والغضب لدى الضباط الجدد والعديد من أفراد الجيش الذي كانوا ناقمين لإطفاء نار التمرد والغضب لدى الضباط والعديد من أفراد الجيش الذين كانوا ناقمين ومشحونين بسبب هزيمة 1967. لكن في الواقع نتيجة حرب أكتوبر متساوية مع الهزيمة. - ما يروج الآن وما يكرس من ثقافة بصرية وبرامج تلفزية، هل بإمكانه أن يخدم بشكل ما وعي هزائمنا في الواقع؟ < إن أردت أن أصدر أحكاما قد أقول إن بعض القنوات تقدم خدمة مهمة خاصة على مستوى الأخبار، لكن في نفس الوقت يتوازى ذلك مع الفكر المحافظ، هذا ما نجده في قناة «الجزيرة» مثلا. وأظن أنه بِفَرَضِ الفكر المحافظ وتكريسه يتم تغييب الحرية الفردية وهذا أمر أساسي لأن حرية الفرد شيء أساسي. فلا يمكن أن نطلب من الأفراد الفعل في التاريخ ووعيه في الوقت الذي تغيب فيه حرياته الفردية في الواقع. هناك من يقول مثلا إن من لا يلبس الحجاب غير محترم ولا يستحيي وهذا غير صحيح، لأنه حين يكرس هذا القول كمنطق أو رؤية في الإعلام والواقع يتم إقصاء حريات الآخرين وهي المسألة التي أعتبرها ضرورية لحياة الناس والمجتمعات. فكل الحريات ضرورية باستثناء ما يضر بالغير وماله غاية استعمارية كما قلت سابقا. أن تكرس بعض الأفكار الوصاية على الآخرين مسألة غير مقبولة، أنا من عليه أن يحمي نفسه ولا يجب أن ننتظر من الآخر أن يحمينا. فالفتاة البالغة هي التي عليها أن تحمي نفسها والأساسي أن تمنح لها حريتها وهي من تتحمل مسؤولية اختياراتها. بناتي لديهن حريتهن التامة وهذا ما يسمح لهن باختيار الأشياء التي يرغبن فيها، فأنا لا يمكنني أن أقرر مكانهن لا بالنسبة إلى مشروع الحياة أو الزواج أو التعامل مع الناس. وحتى إن تألمت لاختياراتهن ليس من حقي التدخل فيها، وشخصيا أحس بإحراج كبير بالنسبة إلى إبداء رأي في اختيار شخصي لفرد لأن ذلك يرتبط بحريته الخاصة وبحقوقه الذاتية. أشياء عديدة في واقعنا تكرس الهزيمة. الدعارة أليست هزيمة؟ البكارة ألا تعني الهزيمة أيضا؟ ألم تدفع إلى خلق البكارة المصطنعة؟ هل هذا لا يعد إهانة؟ فما معنى الرجولة المبنية على بكارة مصطنعة! ماذا سنفعل بها؟ فمن الأكثر رجولة في الواقع هل الذي يحمي بنتا فقدت بكارتها أم الذي يعذبها؟ إنها أسئلة جديدة تحيل على هزيمتنا وتؤكد وتبين أننا ننسى القرن الذي نعيش فيه. هناك الكثير من الرؤوس والأفكار تدفع في اتجاه تكريس التمزق كواقع لا يرتفع. ما يهم هو أن لا يتم الاعتداء على المختلف. فالاختلاف موضوعي. ففي بلداننا الإسلامي يجب أن تتوفر له حرية التعبير والمتحرر يجب أن تحفظ له حريته كذلك. ونفس الأمر يقال عن الآخر فأن يتم نشر كاريكاتير مسيء للرسول مسألة غير مقبولة نهائيا. فهي مس لمعتقدات الآخر وأن تمس معتقداتي سأكون على استعداد للموت من أجل ذلك، فعدم الاعتراف بالاختلاف والتعدد هو دعم للإرهاب وما يجب أن نتعلمه في مجتمعاتنا هو القبول بالأمر والتعايش بين الإسلاميين وغير الإسلاميين وأن يقبل الإسلاميون باللائكية لأنه في غياب هذا سيبقى الخيار الوحيد هو الحرب الأهلية. وأظن شخصيا أن الكثير من الأشياء في الواقع تحيل على الجاهلية، وبالنسبة إلى الدين هناك أشياء متفق عليها من طرف الجميع أما ما يرتبط بتنظيم المجتمع فلابد من الاجتهاد فيها. - هل هناك وعي باحتياجات المرحلة التاريخية واحتياجات الشعوب في السينما المغاربية؟ < شخصيا أظن أنه من مهام المثقفين المساهمة بما يخدم الواقع فمثلا ليس من واجبنا خدمة جهات لا تخدمنا، فأنا شخصيا لا يمكن لي أن أحترم النظام العراقي الحالي، ولا يمكن لي أن أحترم من يخدم الغرب. طبعا لا أحترم النظام العراقي السابق لأنه كان دكتاتوريا لكنه كان قوميا ويعادي الإمبريالية. المسألة الثانية مهمة لكن توفر الحرية للناس أهم. أنا شخصيا يتهمونني بأني إنسان متغرب لأني أتحدث بالفرنسية ويحاولون تحطيم أفلامي بدعوى أني غربي. وأنا أعتبر أنني متشبع بالفكر المتقدم، وهذا الفكر ليس غربيا بل جاء إليهم مترجما عن العرب، وهناك أشياء كثيرة وصلت إليهم من اليونان عن طريق العرب. لقد وجدت أشياء عديدة متقدمة في تاريخنا، فعبر بيت الحكمة أوصلنا إلى الغرب الفكر الديمقراطي كما تبلور عند اليونان. فلماذا لا نعود إلى الأشياء الإيجابية في فكرنا وتاريخنا. أين نحن من إخوان الصفا والمعتزلة؟ أنا سأكون مناصرا للجهاد ضد المحتل لكن لا تقل لي إن ذلك يتم باسم الدين بل قل إنه يتم باسم معاداة الاحتلال ومقاومة الإمبريالية. فأن ينجز الجهاد باسم الدين مسألة غير مفهومة لأننا لا نتماثل على هذا المستوى، ففي فلسطين الكثير من المسيحيين وفي بلدان عربية أخرى فلماذا نحشرهم ولماذا نفرق بيننا وبينهم ولنا نفس المصير؟ - لماذا التركيز على التخييل أكثر من التسجيلي في تجربتك السينمائية؟ < المتخيل أخطر، لقد أصبحنا نخاف المتخيل لأنه أذكى. الواقع معروف أما المتخيل فيسبق الواقع والأحداث. عبر الوثائقي لا يمكنك أن تتحدث عن أشيائك الخاصة وأحلامك وسيرتك لأنك تستحيي ولا ترغب في إشراك الناس في ما هو خاص بك. الخيال أخطر من الوثائقي إذا كان يحترم الظروف الاجتماعية التي توجد فيها الشخصية. أنا لست ضد الجنس الوثائقي، وأعتبر أن الأنظمة العربية تخاف من المتخيل أكثر من خوفها من الجنس التسجيلي. فالمتخيل أصل الوعي والتمرد وليس من السهل التعبير عن استيائك من خلال التسجيلي على عكس المتخيل. الفيلم الروائي صيغة للاحتماء - كيف تقيم وضع السينما التونسية؟ < وضع السينما التونسية بالنسبة إلى الجيل الجديد متأزم، فظروف القاعات وتوزيع الأفلام متأزمة ونفس الشيء بالنسبة للإنتاج ولا يمكن أن نقارن ذلك بما يوجد في المغرب. في نفس الوقت هناك تعدد في الاتجاهات، فجيل 2000 ليس بمستوى جيل الثمانينات كما نتمنى أن يكون جيل 2010 حاملا للحل. وأعتبر أن هناك أزمة قضية عند الجيل الجديد، أحس بأن السينمائيين الشباب ليست لهم قضية. والقضية قد تكون ذات طابع شخصي بما في ذلك المسألة الجنسية أو الموقف من السيدا وحتى الحب. القضية لا تعني بالضرورة ما هو إيديولوجي. الناس تركز على موضوع وتريد أن نسميها مؤلفا لكن التأليف في ماذا؟ - هل قلت الأشياء التي كنت تود قولها بعد أن أنجزت كل أعمالك السينمائية؟ < قلت منها جزءا كبيرا، لكني قلت الجزء الأكبر في النقاشات الموازية لأفلامي. فلو لم تكن هذه النقاشات لقلت العكس، وأنا أعتبر أن دور الفيلم هو مخاطبة الفكر وإقلاقه، ففي كل أفلامي لا أعطي حلولا وذلك احتراما للناس فكل واحد بإمكانه أن يقترح حلا. النقاشات تسمح لي بطرح أشياء كثيرة لكن للصراحة التي أهاجم بها، بعد حضور أفلامي الثلاثة الأولى في كان أصبحت مصدر قلق والمشكل أن الجهات التي كانت تهتم بتجربتي أبعدتني، خاصة أنهم وجدوا عربا يساعدونهم أحسن مني في خططهم. والمشكل هو أنني أرى أن الراحل يوسف شاهين مثلا حين أصبح يساعدهم لم يعد يساعدنا. شخصيا أقول إن الغرب أراد أن يقبلني كما أنا فأهلا وسهلا، أما من يريدني على قياسه فلا. ففي فيلمي الأخير كان هناك شيئان على مستوى الحوار أولا حين يقول الإسلامي «الغرب قتل اليهود ورماهم إلينا ورمى علينا المسؤولية» فطلبوا مني أن أحذفها فرفضت. وما كان يهمني في الفيلم ليس أن أقدم شخصية لإسلامي يفكر مثلي بل أن أبدع شخصية لها ما يدعمها في الواقع. والمسألة الأخرى هي أن أحذف كلاما قلته هو «أني أساند حركات التحرر وأوافق على ما تقوم به مهما كان «فقالوا لي أنت مع الإرهاب فقلت لهم أكبر إرهابي هو الاحتلال، وأنا أتحدث عن المحتل والمحتل إرهابي» وليس المقاوم كما يريدون. - هل تسمح لك أجناس أخرى كالشعر بالتعبير عما تريد أكثر في السينما؟ < هناك حاجات أكتبها وليس في إمكاني إنتاجها لأنها بكلفة مثل قصة البحارة. وقد عبرت عنها بقصيدة زجلية من 80 صفحة وتدل على الحراكة أو على الفلسطينيين...وقد كتبت أشعارا كثيرة عن السجن والاعتقال، والأشعار الموجودة في أفلامي هي لي. فقصيدة : الحصان «في ريع السد» هي من أعمالي. لي أشعار كثيرة كتبتها عن الاعتقال ولم أتوقف عن ذلك إلا حين بدأت في إنجاز أفلامي ومن قصائدي ما كتبته حول المدن التونسية أقول فيها: معمورة عربان/ محروكة دخان/ في رمادة نعسان/ وبلاد السوس في بير/ الكاهنة وحسان بلحم وادي الليل/ المساكن كلاتهم سوسة / والشابة غارت من اللوزة/ وغمران أرقى ياعروسة باعوك لتاجروين/ سلبوك في الدهيبات/ والقصور والدويرات / تتكركر في الثريات/ تبراق الله متمدنين. إنها صيغتي الأخرى في التعبير خاصة حين لم يكن بإمكاني إبداع أفلام داخل السجن.