تقول النكتة إن مواطنا حمصيا استفاق، في عهد الانتفاضة، فلم يسمع أزيز رصاص ودوي قذائف وصرير مجنزرات، فظن أنه استفاق... في هضبة الجولان المحتلة؛ نكتة أخرى تقتبس نداء صادرا عن أحد مواطني حمص، يقول: «إللي صافف دبابته في نصف الشارع يجي يشيلها، بدنا نمرّ»؛ والنكتة الثالثة تروي أنّ حاجزا أمنيا استوقف حمصيا وسأله إنْ كان قد شارك في مظاهرة، فأنكر، فطالبه عنصر الأمن بأن ينطق بأي عبارة لكي يتأكد من أن صوته لم يُبحّ من الهتاف، فردّد الحمصي: يا درعا حنّا معاكي للموت! وتبقى، بالطبع، تلك «النهفة» الحمصية بامتياز: «مغسل ومشحم حمص الدولي للدبابات: بسبب تكاثر الدبابات في شوارع سورية بشكل عام وحمص بشكل خاص، افتتحنا بعون الله المركز المدني الأول في العالم لصيانة الدبابات. يقوم المركز بكافة أشكال الصيانة من الغسل والتشحيم إلى غيار الزيت. خدمتكم تسرّنا»! ليس الأمر مصادفة، بالتأكيد، ولا تكفي لتفسيره حقيقة أنّ حمص مهد التنكيت الشعبي في سورية (على غرار ما يفعل كلّ بلد حين يختار منطقة ما، دون سواها، لتكون مادة مفضلة في تنميط السخرية)؛ إذ تنطوي علاقة المدينة بالانتفاضة السورية على معطيات شتى تصنع تلك الخصوصية، وتغذيها، وتنقلها بالتالي من عوالم النكتة المريرة إلى مستويات الواقع... الأمر، غالبا. يكفي، على سبيل الأمثلة، أن المدينة تتصدر سجل الشرف في أعداد الشهداء (قرابة 1500 شهيد)؛ وكان الحماصنة في طليعة المتظاهرين الذين بدّلوا شعارات الانتفاضة الأبكر، فانتقلوا إلى الشعار الحاسم المطالب بإسقاط النظام؛ كما كانوا بين أوائل أبناء المحافظات في تغيير اسم أهمّ معالم المدينة، ساحة الساعة، إلى «ساحة الحرّية»؛ وهنا، في حمص، شهدت الانتفاضة أوسع اصطفاف ضد النظام من جانب الطبقة الوسطى، وبعض التجار الكبار، وشرائح من المنضوين في «الأغلبية الصامتة» عموما. ذلك جعل كتائب الفرقة الرابعة وعناصر مختلف الأجهزة الأمنية وقطعان الشبيحة، فضلا عن أزلام النظام وأعوانه داخل المدينة، تنفّذ سلسلة من العمليات الأشرس ضد حمص والأشد وحشية همجية؛ وذلك منذ السادس من مايو الماضي حين استُخدمت صنوف الأسلحة كافة، بما في ذلك الحوّامات والطيران الحربي، وفُرض حصار على أحياء حمص وجوارها، من الرستن إلى تلبيسة إلى تل كلخ، ما يزال مفتوحا حتى اليوم. وكان طبيعيا أن يقترن هذا كله بحملة من طراز آخر، قوامها افتعال بؤر احتكاك طائفي بين أبناء المدينة، شاركت في تنفيذ سيناريوهاتها أجهزة النظام ذاتها، قبل أن تتولى تضخيمها إلى ما يشبه السردية المتكاملة: حمص، «قلعة الثورة السورية» كما في التسمية اللائقة بها تماما، صارت حاضنة أولى لاحتمالات حرب طائفية! ومن المحزن، والمفاجئ تماما، أن يقع في أحابيل تلك السردية بعض مناصري الانتفاضة، ممن اكتفوا بالحملقة في التفصيل الصغير العابر، فزاغ بصرهم عن المشهد الكبير الأهمّ؛ كما انساق إليها بعض أبناء حمص أنفسهم، وعلى رأسهم برهان غليون، رئيس المجلس الوطني السوري. ففي بيان صدر عنه، باسمه وباسم المجلس، طغت اللغة الإنشائية على كلّ فقراته ما عدا تلك التي تلقي باللائمة على الحماصنة وتجزم بأنّ «دفاعات» بعضهم قد ضعفت في «مواجهة مخاطر الانقسام والتصادم الطائفي»؛ بحيث «أصبحنا نشهد منذ أسابيع عمليات خطف واغتيال وتصفية حسابات بين أبناء الشعب الواحد، بل بين أبناء الثورة أنفسهم». ولأن النص قوبل بردود فعل رافضة ومستنكرة، فقد سارع المجلس إلى إصدار بيان ثانٍ عن حمص، أراد فيه أن يكحّل بيان رئيسه، فألحق به العمى عمليا؛ إذ ليس المطلوب تنزيه المدينة عن كل فعل طائفي، كما اعتبر البيان؛ ولا تأثيمها على نحو تهويلي يعيد إنتاج سردية النظام، بحسب بيان غليون. هذه مسألة سياسية بامتياز، قبل أن تكون ظاهرة فوات اجتماعي، ولم يكن من الحكمة أن يتخبط المجلس الوطني بين أقصى التنزيه وأقصى التهويل. لا أحد يدفع إلى التجييش الطائفي مثل النظام، من قمة مؤسسته الحاكمة الأضيق وحتى أوسع قواعده الموالية؛ ولهذا، لا حرب ناجعة ضد الميول الطائفية أكثر من تلك التي تُشن ضد النظام، أولا وثانيا وعاشرا. وأهل السنّة، في التاريخ البسيط كما في علم الاجتماع الأبسط، ليسوا «طائفة» في سورية، لأنهم ببساطة أغلبية الشعب الساحقة، ولا يصح توصيف ميول الأغلبية استنادا إلى المعايير ذاتها التي يخضع لها سلوك الأفراد، أو المجموعات المصغرة. هذا، غني عن القول، لا يلغي مفاعيل انتشار التشدد الطائفي لدى بعض أبناء السنّة، إسوة بشيوع التطرف أو الاعتدال، العصبوية أو التسامح، التدين أو العلمانية... وتبقى حمص عاصمة الانتفاضة السورية، «العدية» كما يصفها أهلها، والقلعة الحصينة التي صمدت طيلة أشهر ضد غزاة النظام. ومن المهين لأبنائها ولسجلها العريق الذي يغطي معظم التاريخ السوري القديم والوسيط والحديث والمعاصر، أن تُختزل إلى صورة مصغرة، تصنعها حوادث طائفية متفرقة، وأن تطمس صورتها الأخرى الأبهى: أنها طروادية في مقاومة الحصار، بل هي طروادة سورية الراهنة؛ وخارج حصونها الشعبية سوف يندحر أكثر من حصار، وعند أسوارها الوطنية سوف يخرّ أكثر من آخيل!