هل نقول إن الربيع العربي صار وجها لوجه مع خيار الديمقراطية في أكثر من قطر متحرر من وثنية الطغيان؟ هل أصبح على الثوار أن ينتقلوا من مفهوم أو مفاهيم الديمقراطية كأنها أحلام، إلى ابتكار (النظام) الواقعي الذي ينتظره مجتمع ما بعد التحرير؟ هنالك ثلاثة أقطار، هي مصر وتونس وليبيا، أمست متوقفة أمام سؤال صناعة الديمقراطية، وليس التجادل حول عناوينها ونظرياتها. ثلاثة شعوب عربية بدون طواغيت أصبحت باحثة عن كياناتها الدولتية الجديدة؛ فقد يظن الثوار أنهم تجاوزوا النضال السلبي وعليهم الشروع في البناء الإيجابي، غير أن المشكلة تبدأ ما إن يعتقد الثوار أنهم مجرد رأي واحد وأنهم يشكلون كتلة متجانسة، لكنهم كانوا فئات متعددة ومتباينة الأصول والنزعات، و(الطاغية) وَحَّدهم وراء هدف تدميره. وقد تمَّ إنجاز هذه المرحلة الأولى، غير أن أحدا من هؤلاء لا يملك بعدُ تصورا عملانيا عمّا تتطلبه مشاق النضال الإيجابي الجديد الذي ينتظرهم، فالجميع مدعوون إلى العمل الذي لا يعرفونه بعدُ، وعليهم أن يخترعوه. لا يكفي القول إن درب الديمقراطية أصبح سالكا ومنفتحا لكل من سوف يسير عليه، ذلك أن أعسر القضايا العامة هي تلك التي يقبل الفكر الانخداع بمظاهرها السهلة المباشرة، بأوصافها المتداولة. والديمقراطية هي من هذا النوع الذي يُختصر بعبارة السهل الممتنع. أقول هذا وتحت نظري دفعة أخيرة من كتب المفكرين الفرنسيين لهذا الموسم الراهن، تتصدرها عناوين الديمقراطية ومفردات مفاهيمها. فهذا العقل الغربي مازال مستغرقا في مفهمة الديمقراطية، يقرأ ويكتب ويعيد أسئلة الحرية كأنه يكتشفها لأول مرة. أريد القول إننا، نحن العرب، اعتدنا أن نختصر أعمق القضايا بترداد عناوينها فحسب، ولكن حين يضعنا تاريخنا المعاصر أمام نتائج الحدث الذي أتيح لنا أن نصنعه بإرادتنا وأيدينا، فإننا لا نحسن قراءة هذه النتائج إلا نادرا، وإن أحسنا لا نعلم كيف ستُبنى عليها وقائعُ جديدة تغنيها. سؤالنا اليوم عما سيفعله ثوارنا بانتصاراتهم، قد لا يقل خطرا وحسما عن سؤال أجدادهم عما فعلوه بهزائم ثوراتهم الفاشلة. هذا لا يعني أن النجاح أو الفشل متعادلان في المحصلة في ثقافة الثورة، لكنهما متشابهان فقط من حيث كونهما يفرضان على أصحابهما عنف التحدي في حسن أو سوء التعامل مع واقعهما. شعوبنا الثلاثة الخارجة من معركة كسر الصنم الأكبر الحاجز لحرية كل منها، تتطلع إلى تغيير ظروف حياتها جملة وتفصيلا؛ فما كانت تفتقر إليه، كغيرها من شعوب الأمة، هو حرمانها المزْمن من الحلم بإمكانية التغيير، وليس بالتغيير عينه، فأصبح تعلقها أخيرا بشعار الديمقراطية كأنه مفتاح سحري لكل الأبواب المغلقة، لكنه تعلق إنساني مشروع، وإن كان موضوعُه مجتمعا آخر لم يوجد بعد. وما لم يوجد بعد، عليه أن يسوغ كلَّ ما يُفعل باسمه منذ الآن. فالثورة المندلعة من غضب الشعوب قد لا تعرف لها سببا مباشرا يتخطى شعور الانتقام من ظالميها. ليست لديها مهلة التأمل في ما يلي انحطام أصنامها، ذلك أن الخلاص وحده من الشر المداهم قد يشكل سدرة المنتهى، إذ تصبح الثورة هي خشبة الإنقاذ أو هي المغامرة الكبرى التي لا خيار للإرادة الجماعية المحاصرة سواها، كأنما ينبغي أن يتخطى الجورُ والإذلال طاقةَ الاحتمال حتى يقذف بعضُ الناس بأنفسهم وسَط النار عينها التي تحرقهم، أملا في القدرة على إخمادها. الثورة والديمقراطية مفهومان مختلفان، وإن كانا متضامنين، لكنّ كلا منهما يبدو غاية في ذاته، فيحتاج المراقب لأحداثهما إلى المزيد من الحذر والتأني قبل إطلاق الأحكام. بمعنى أنه، مثلا، ليس محتوما أن تؤدي كل ثورة إلى الديمقراطية. تجاربُ النهضة العربية المغدورة قدَّمت نماذج عن تلك الثورات التي كانت تحطم أصناما استبدادية وتأتي بأصنام أخرى، بإرادتها أو قسرا عن منطوقاتها وحَدَثانها. كذلك الأمر بالنسبة إلى الديمقراطية، إذ هناك طرق كثيرة للتلاعب بحقائقها ومظاهرها، فيكون الظاهر البرّاق منها مجرّد أقنعة لوقائع أخرى تحرّفها أو تناقضها تماما. تاريخ النهضة العربية المغدورة حافل بألاعيب الظاهر والباطن التي دأبت على ممارستها ثقافةُ الإعلام الفوقي التي احتكرت أساليب الكذب الجماعي على الحقائق اليومية صباح مساء، حتى يعتاد الناس أن الكذب العلني هو نوع آخر من الصدق كذلك ما داموا ينسون أو يتناسون أن للصدق لسانا سوف ينطق به يوما ما. خلاصة هذا التاريخ الكئيب الذي لم يُكتب بعد، وتُمنع كتابتُه إلى أجل غير مسمَّى، أنه لم يَلِد ثورةً إلا وألحقها بشكل جديد من نظام الاستبداد عينه السائد، وأنه لم يبشّر مرة ببذل حفنة من حريات جماعية أو فردية إلا وأتبعها بفتح سجون إضافية. تلك هي منعطفات مظلمة لا يكاد يبرأ منها تاريخ معاصر ملتبس مازال ماثلا، مراكما كل هذا الكم الهائل من سقطاته التي صنعت أخيرا مركب الاستبداد/الفساد العربي، باعتباره صار صَنَمَ الأصنام الحاكمة جميعها. ومع ذلك، وبالرغم من أعباء هذه الذاكرة الكارثية، تفرض الثورةُ الشبابية الراهنة اختلافَها، ترفض أن تسمى بالثورة العائدة أو الثورة المصححة، عمّا كان سبقها، تكاد تفخر بأنها هي الثورة الحقيقية الأولى التي سوَّغت نفسها بالحرية وحدها، من دون أية مشتقات مطلبية أخرى أو مشروطيات عملانية، كانت رائجة في التداول السياسوي. ولأن ثورة الحرية هذه كان الجمهور الشبابي هو راعيها ومحركها الأول ومهندس تحقناتها في الشوارع والساحات العامة. لعلها هي الثورة المدنية الأولى المعاصرة كذلك. ولم يلعب العنصر العسكري في بعضها إلا شبه أدوار المساندة، كما في تونس ومصر، أو دور حامي السلطان المهدَّد، كما في ليبيا وسورية خاصة. لهذه الخواص البنيوية في طبيعة ثورات الربيع العربي، يمكن القول إن تضامنا إجرائيا، وليس مفهوميا فحسب، جعل من الثورة الجمهورية والديمقراطية وجهين لحقيقة واحدة، هي عمارة الحرية وقد أصبحت قابلة للانقيام في هندسة التغيير المجتمعي الجديد المنشود. ما كان يتطلع إليه الفكر الإنساني في منعطفات تقدمه هو ابتكار الأنظمة الاجتماعية المتصالحة مع نوازع الحرية للفرد والجماعة معا؛ ولقد تم التسليم بأن الديمقراطية هي النظام الأمثل لخلق الانسجام والتكامل بين إرادات المجموع، وذلك بعد أن استنفد الفكرُ قراءةَ التجارب الكارثية الكبرى التي مرَّت بها الأمم الناهضة والكابية على السواء، من جراء قانون اغتصاب السلطة فرديا أو فئويا بالضد من إرادة الأكثرية ومصالحها. هذا النظام تواضع الجميع على تسميته: الديمقراطية. وعالمنا العربي كله ينادي اليوم على هذا الاسم كأنه يحمل معه كل ما يعاكس واقع الحال لهذا العالم العظيم والبائس. ومرحلة ما بعد الثورة لها طريق واحد نحو الديمقراطية، هو ممارسة حق الاقتراع لكل مواطن، فأصوات الناخبين وحدها تقرّر لمن هي السلطة. المجتمع العربي في أي قطر لم يَبْنِ سلطته مرة واحدة في تاريخه المعاصر، لم ينشئ دولته الحقيقية بعد. فما هو قائم باسم السلطة أو الدولة ليس سوى أجهزة صدفوية بالية لإرادة التخلف وشرعنته. ومع ذلك، فليس لسلطات ثورية مفترضة أن تسوس مجتمعاتِها إلا من خلال هذه الأجهزة، الباقية إلى ما بعد انزياح حكامها الفاسدين، فأيا تكن طبيعة التشكيل السياسي الذي سيحكم، يساريا أو يمينيا، تقدميا أو إسلاميا، فإن تحقيقه لبرنامجه الإصلاحي أو الثوري لن يجيء اختلافيا عن ممارسة أجهزة الدولة عينها التي يزعم أنه يتخطاها. المطلوب تثويرُ الأداء الإداري في الوقت الذي يجري فيه تطبيقُ خطط التغيير لكل شأن عام. تلك قاعدة أولية عجزت عن إدراكها أو اتباعها ثورات الماضي الفاشل. نقول هذا لأن أصعب التحديات التي تواجه هذه الثورات العربية الناجحة، المستعدة اليوم لتسلم مقاليد الحكم في هذه الأقطار الثلاثة، هي في واقعها واحدة أو متشابهة. لن تتمكّن الفوارقُ الإيديولوجية بين مختلف التيارات (الثورية) أو السياسية المتحركة من إبراز مخططاتها واكتساب جوانب من الرأي العام المراقب إلا بقدر ما تثبت أن ثوريتها تتحكم في إدارة السلطة، وليس العكس، وأن مخططات التغيير تجاوزت صيغة (المشاريع) لتصبح متغيراتٍ ماديةً محسوسة في شروط المعيشة لغالبيات الشعب. التخوف من صعود بعض منظمات الإسلام السياسي لن يفترض حتما أن الدين أصبح وحده مكلفا بتحقيق الديمقراطية. أما الكلام عن تمييز إسلاميات معتدلة، كحزب «النهضة» التونسي المتسلم لحكم الجمهورية، عن سواها من السلفيات أو الحركات المتطرفة الأخرى، فلن يعطل الحقيقة البارزة للعيان، وهي أن الدين لا يزال هو المعبّر عن عودة الكتل الجماهيرية إلى عش الهوية التقليدية التي تحس بأنها تختصر شخصيتها المفهومية في عين ذاتها أولا. لكن التدين في عصر الثورة هو الذي عليه أن يتلاءم مع معطيات الثورة، وإلا جرفته أمواجها الطاغية. بعد أن أوقدت الثورةُ العربية المعاصرة شعلة الحرية فوق رؤوس الجميع، صار لا بد أن تقاس كل المفاهيم والتشكيلات والممارسات تحت معيار هذه الشعلة وتستضيء بأنوارها، وإلا ذهبت أصواتها أدراج الرياح. ولعلّ بعض القادة الإسلاميين الذين يحبون أن يُوصف بعضُهم بالمتنورين، يدركون مغزى التحول الكبير الذي يعم معطيات المرحلة العربية الراهنة، يتفهمون معنى الولادة الجديدة للحرية، إذ أصبحت لها وظيفة الآمرية الأخلاقية المطلقة على هذا الحراك الشبابي العظيم. سوف تمارس دور المعياريةَ النقية التي ينبغي أن تقاس بالنسبة إليها بقيةُ المعايير الأخرى من ثقافية وسياسية ودينية حتى. ذلك هو الأمل الممكن مع الحرية فحسب، وإن كان يظل مستحيلا من دونها. تونس الخضراء الرائدة لعصر الثورة الشبابية العربية، ستكون كذلك هي الرائدة في تجربة الديمقراطية المفتوحة، والقائمة على تعددية الأطياف الشعبية جميعها، بحيث يجتمع التحرير إلى التنوير، فلا تبقى لأدلجات مغلقة منافذُ للتحريف والتضليل، حتى ولو اعتصمت وراء توصيفات عمومية وتاريخية، آمريةُ الحرية وحدَها كافية لبناء سلطة الحقيقة، وفي السياسة أولا، فالجمهور الناهض المتنور هو الفاعل والشاهد والحاكم. وتلك أدوارٌ تحصدها شعوبنا من باكورةِ موسمٍ أول للربيع العربي..