لا تعنينا في هذه الفسحة فلسفة النهايات، لأنها لا تختلف في «كلبيتها» عن نظرية المؤامرة، حيث يتم الحسم في أمور معقدة بغير قليل من التبسيط. من ثم فإننا لا نبغي الانسياق مع أطروحة تودوروف، الزاعمة أن «الأدب في خطر» -وهي في ظننا ترجمة تفتقر إلى الدقة- لسبب بسيط هو أن زهرة الأدب لا تتبرعم إلا مع المخاطر، والأديب الحق هو من يعيش على الحافة لا من يستكين لليقينيات، المريحة. كما أننا لا نُحبّذ تقمص دور محامي الشيطان في الانتصار للأدب، طالما أن «للغاوين» أربابا يحمونهم، وإن كنا، من جهتنا، نحترم المجهود السجالي والمعرفي الذي بذله الصديق الدكتور عبد الرحيم جيران في مرافعة بديعة بعنوان «دفاعا عن الأدب». ونعتقد أن التساؤل عن جدوى الأدب غير ذي جدوى، بالنظر إلى كون الأدب -والفن عموما- ضرورة حيوية لاكتمال كينونة الإنسان. فمن غير مؤسسات رمزية لن يرتقي البشر عن مستوى السوائم. بيد أن المشكلة الأساس تكمن في سؤال: ماذا بوسع الأدب أن يُقدّم في اللحظات المفصلية من تاريخ الأمم والشعوب، كما هو الشأن بالنسبة إلى الهزّات العنيفة التي يشهدها عالمنا العربي اليوم، أي في طبيعة الأسئلة -وربما الأجوبة- التي يقترحها الأدب والأديب. وقد كانت لسارتر فضيلة إعادة طرح القضية، نظريا، من منطلق الشخص الملتزم الذي يدافع عن قضية ويُسخّر أدبه لها تحديدا. أما فنيا فإن الأدباء -وخاصة الشعراء- يعترفون ميتانصيا، وباستمرار، بكون العين بصيرة وأداة التعبير لديهم قاصرة، فكلما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة (النفري)، ومهْما علا سقف الأخيلة، بمجازاتها واستعاراتها، فإن سقوف واقعنا تبقى أعلى، هذا في مطلق الأحوال، أما في ظل «الانتفاض العظيم»، فإن محنة الأدب تكون مضاعفة، حيث لا يقوى على المضاهاة، لذا نرى قفزاته متواضعة جدا وبلاغته لا تخلو من تمحّل وافتعال. ولئن كان هذا قد يحدث في الآداب العالمية، فإن حدوثه لدينا من قبيل المؤكد. ولعل من يقرأ في روايات ماركيز وأليندي وأستورياس وكورتزار وسواهم، الواقعية السحرية والفاتاستيك، قد يحتاج إلى قراءة تواريخ بلدان هؤلاء الكتّاب، وهي تواريخ دموية، كي يدرك أمرا بسيطا وخطيرا في آن، وهو أنهم ما تخيلوا شيئا فريا، ما لم نقل إنهم ما تخيلوا قط. بل كانوا ينزفون وهم يشخصون أحوال شعوبهم، المحكومة بالحديد والنار، وما نقلوه، في نصوص راقية وجميلة، لا يمثل سوى قمة الجبل العائم من الفظائع العصية على الإدراك. ترى كم يلزمنا من وقت وجهد كي نكتب نصوصا تضارع سريالية مَحْيانا ومماتنا؟! فأمام ما يحدث، لن يحتاج أدباؤنا إلى سعة الخيال، إذ يكفيهم أن يفتحوا أعينهم جيدا وأن ينصتوا إلى نبض الحياة ويصيخوا السمع للمياه الهادرة تحت الجسور كي يبدعوا أدبا رفيعا... أما الخيالات المفارقة فلن تزيد وضعية أدبنا إلا عزلة ومأزَقَة.