تتعمق الغربة في نفوس المهاجرين عندما يحل شهر رمضان، فطقوس أيام الصيام لا يمكن أن يعيد المرء إنتاجها خارج الحدود الجغرافية للمغرب وباقي البلدان الإسلامية، أي تلك الصور التي تخزنها الذاكرة عن الشوارع التي تستحيل إلى صحاري بمجرد سماع الآذان وضربات المدافع، ورائحة الحريرة التي تنبعث من النوافذ، ثم الحركية التي تعرفها الشوارع بعد ساعة أو ساعتين عندما تبدأ حياة الليل التي لا تنتهي إلا في موعد السحور، إنها الطقوس التي لا يحس المغربي بقيمتها الحقيقية إلا بعدما يفقدها ويجره الحنين من شعره إليها. ورغم قساوة الغربة، يحاول مغاربة إسبانيا أن يخلقوا لأنفسهم أجواءهم الخاصة التي تجعلهم يعيشون في حدودهم الثقافية والدينية التي أنتجتهم بعيدا عن حتمية الجغرافيا، لذلك فالإحساس بالغربة يكون أقل عند المهاجرين الذين يعيشون بمعية عائلاتهم في شبه الجزيرة الإيبيرية، فهذا الصنف يؤثث منزله على الطراز المغربي، ويحرص على ألا ينقص مائدة الإفطار أي شيء، ويتابع بدوره المواد الفكاهية التي تقدمها القناتان المغربيتان، يضحك على تعبيرات محمد الجم وينتقد بعض السخافات، ويحاول أن يسافر نفسيا إلى بلد جاء منه بمعية أبنائه، أما العزاب فهم الأكثر إحساسا بالغربة لأنهم في الغالب يعيشون في منازل مع أوروبيين، يصومون طيلة اليوم ويعودون أحيانا إلى منازلهم بعد موعد الإفطار ليخرجوا من الرفوف ما بعثه أهلهم إليهم من حليوات رمضانية، وبعدها يخرجون إلى المقاهي التي يقصدها المغاربة بكثرة في الليل للتسامر وتبادل الأحاديث عن الصيام ومشاكل الهجرة والأهل. «إن رمضان مختلف هذا العام»، عبارة باتت تلوكها ألسنة عدد كبير من المهاجرين المغاربة بإسبانيا، بحكم أن الشهر الفضيل تصادف مع فصل الصيف الذي يعرف تقاطرا كبيرا للسياح الأجانب على إسبانيا، الذين يملؤون الشوارع بالصخب طيلة الوقت، كما أن عددا كبيرا من المغاربة وجد نفسه في بطالة إلى أجل غير معلوم بسبب الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد منذ شهور، بعضهم آثر أن يعود إلى المغرب وآخرون تخوفوا من أن تتخذ الحكومة الإسبانية إجراء معينا يمنع العاطلين من العودة، فاقتنعوا بأن أحسن حل هو أن يبقوا بين حدود شبه الجزيرة الإيبيرية في انتظار ما سيفعله سكان قصر المونكلوا بمدريد. المغاربة الذين عادوا من عطلتهم الصيفية لهذا العام كانوا على غير العادة مزودين بكيلوغرامات من «الشباكية» و«السفوف» أو ما يسميه المهاجرون ب«المؤونة»، أي تلك المأكولات التي تؤثث مائدة الإفطار، بيد أن هذه الحمولة خلقت بعض المشاكل لبعضهم خلال فترة العودة، خصوصا بالنسبة إلى أولئك العائدين جوا، وهو ما حصل لهشام. ب، الذي اضطر إلى دفع 700 درهم في المطار لشركة الخطوط الملكية المغربية بسبب أن المأكولات الرمضانية التي زودته بها والدته عند مغادرته زادت من وزن أمتعته. ويقول هشام متذمرا: «كدت أن أتشاجر مع المسؤولين في المطار، فما دفعته من مال في المطار يفوق ربما المبلغ الذي أعدت به والدتي حلويات رمضان، لكن هذا هو حال الأمهات، فهن لا يرتحن إلا بعدما يزودن أبناءهن بما صنعت أيديهن استعدادا لشهر رمضان، وحتى عندما أكون في بلاد المهجر فإنها تصر على إرسال «المؤونة» رغم أنني أخبرها بأن كل شيء متوفر هنا». مغاربة آخرون لا يضطرون إلى دفع هذا المبلغ كاملا ولا يلجؤون إلى خدمات شركات نقل الودائع، بل إلى خدمات سائقي الحافلات الذين يحملون «المؤونة» إلى المهاجرين في المدن التي يقطنونها، وما على المهاجر في هذه الحالة غير التنسيق مع عائلته وسائق الحافلة ليكون في الوقت المحدد في محطة الحافلات لاستلام ما سيمكنه من قضاء شهر رمضان والاستمتاع بطقوسه. يقصد بعض المهاجرين العزاب لقتل روتين الإفطار بعض المطاعم المغربية التي تنشط في بعض الأحياء التي يوجد بها مهاجرون مغاربة بكثرة مثل «لابابييس» في مدريد و«الرصافة» في فلنسية، فهذه المطاعم تبيع كل شيء ابتداء من «الشباكية» حتى «المسمن» بمختلف أصنافه و«الحرشة»، لكن أثمنة هذه المأكولات تساوي عشرة أضعاف ثمنها الحقيقي في المغرب، وهو ما يرى فيه عدد من المهاجرين المغاربة مبالغة من طرف هذه المطاعم التي يستغل بعضها الشهر الفضيل من أجل تحقيق ربح سريع، وهو ما يشتكي منه حسن بروكي، مهاجر مغربي الذي يقول: «أحيانا أفضل أن أصنع بنفسي الرغايف في المنزل عوض شرائها من هذه المحلات لأنني مقتنع بأن ثمنها خيالي، فالرغايف يصل ثمن الواحدة منها أورو واحدا أو أكثر، أي حوالي 12 درهما مغربيا، أكيد أن مستوى العيش يختلف بين المغرب وإسبانيا، لكن ليس إلى هذه الدرجة». ويضيف حسن قائلا: «قضيت سبع سنوات في إسبانيا، وكنت دائما أفضل أن أستفيد من عطلتي السنوية في شهر رمضان، لأن مسؤولي الشركة التي أعمل بها لا يراعون شهر الصيام، وكنت في أحيان كثيرة أظل مداوما في العمل حتى ساعات متأخرة ولا أتناول وجبة الإفطار إلا ساعة الانصراف، فبعض الإسبان لا يعرفون أنك صائم إلا بالصدفة أو عندما يطلبون منك أن ترافقهم لتناول وجبة الغداء، وتقول لهم إنك صائم لأنه شهر رمضان بالنسبة إلى المسلمين». وعلى عكس عدد كبير من الإسبان، كان الحرس المدني الإسباني هذا العام على علم باقتراب شهر رمضان، بحكم أنه اضطر هذه السنة إلى تنظيم رحلة عبور مزدوجة من وإلى المغرب في نهاية شهر غشت الماضي، ففي الوقت الذي كان فيه عدد من المهاجرين المغاربة في إسبانيا عائدين إلى شبه الجزيرة الإيبيرية بعد قضاء عطلتهم الصيفية بين ذويهم، كان آخرون يغادرون الجارة الشمالية صوب المغرب لقضاء شهر الصيام هناك، فبالنسبة إلى هؤلاء فرمضان ليس شهر الصيام والإكثار من الصلاة والاستغفار فقط، بل هو طقوس اجتماعية وثقافية يجب أن تعاش بمختلف تفاصيلها.