أذكر واقعة تاريخية قريبة حدثت زمن كان الأستاذ العربي المساري وزيرا للاتصال، وكان المدير الحالي للتلفزيون ضمن مدراء الشركات الخاصة التي استدعتها الكتابة الخاصة للوزير من أجل مناقشة بعض قضايا المجال، وكنت حينها أمثل «زوايا».. فدعا السيد المساري إلى تغيير العقلية في التلفزيون. وأثناء النقاش، قلت إنه يمكن أن نغير كل شيء في الدار من بنيات تحتية وبنايات، ولكن تغيير العقلية أمر يحتاج إلى وقت؛ فقد ذهب السيد المساري إلى الأصعب: لا يمكن تغيير العقلية إلا عبر استراتيجية بعيدة المدى.. وكان المدير الحالي حينها من المدافعين عن إيجاد فرصة عمل لشركته مع تشكيه الواضح من التهميش والإقصاء، دون أن يهمه أمر مشاكل الوضع السمعي البصري في البلاد... وها هو الأستاذ المساري ينصرف دون أن يغير العقلية، وها هو الباحث القديم عن فرصة شغل والمدبر الجديد لحيز مهم من فرص الشغل في المجال السمعي البصري المغربي.. لم يستطع رسم معالم تلفزيون وطني، بل لم يترك بصمة خاصة يذكره بها التاريخ كما ذكر سابقيه. إن هذه الواقعة التاريخية تبين مدى عمق المشكل الذي يتخبط فيه المجال: فهل نحن أمام صراع فكري أم إننا أمام مشكل تعطيل للفعاليات الوطنية في المجال أم ترانا أمام رؤية استراتيجية للمجال ككل؟ 4 أظن أن مشاكل التلفزيون المغربي تفتقد من يتحكم فيها مهنيا، ويحدث خطابها وأساليب إدارتها للمجال السمعي البصري، ووضع ملامح وطنية لها تجعل المواطن المغربي يرتاح لبرامجها عبر فتح المجال أمام كل المهنيين المغاربة شريطة الاحتكام إلى الحِرَفية. لقد اقتصرت الصفقات على «شركات» محدودة وأشخاص محدودين، مع العلم بأن مؤسسة «وطنية» لا تشجع على الاحتكار باعتباره يضر بقيم التنافسية والشفافية.. بمعنى أنها يجب أن تكون مكانا يجمع المهنيين المغاربة، ويجب أن يحكمها القانون من خلال الإعلان عن الصفقات علانية، وإنشاء لجان مستقلة للقراءة ومراقبة الجودة والتتبع.. يعرفها الجميع، وتربطها علاقات وطيدة بالمجال وما يمتد إليه من حقول ذات صلة؛ فهل نتصور أن تلفزيونا يمرر صفقة إنجاز ثلاثين فيلما تلفزيونيا إلى شركة واحدة دون إعلان علني شفاف تطلع عليه الشركات المهنية، وطنيا؟ ألا يكرس ذلك قيم الاحتكارية والمزاجية والمحسوبية والانفراد بالقرار وتقويض مقولات الشفافية والديمقراطية ودولة الحق والقانون التي نطمح إلى بنائها؟ هل يعقل أن ينتج محور الرباطالبيضاء كل الصور الوطنية؟ أين الجهوية التي نطمح إليها؟ أين صور المغرب الأخرى؟ إذا افترضنا أن ذلك كان بنية صادقة، رغم أن النية لا تنفع في تدبير المرفق العام الوطني، فالمسألة لم تبين ولم تعكس أي تطور على الشاشة، خصوصا وأن التلفزيون شفاف بطبعه: يفضح كل شيء.. فتلك الأفلام لم تحدث «هزة» في الوجدان العام للمغاربة، ولم تساهم في تطوير مفهوم الجهوية التي انخرط فيها المغرب. ما هو الصدى الذي خلفته في صفوف الجمهور؟ أظن أنها لو وزعت على المهنيين المحترفين بشكل شفاف وعادل لساهم الأمر في إنعاش القطاع السمعي البصري عامة، وساهم في تشغيل أكبر عدد من الحرفيين، وأدمج عددا مهما من الشباب خريجي المعاهد المهتمة بالقطاع، خصوصا وأن الاستثمار في مجال التكوين السمعي البصري يتطلب إمكانيات مرتفعة، ويجب أن يأخذ المسيرون للتلفزيون ذلك بعين الاعتبار.. كما أن ذلك من شأنه أن يضخ دماء جديدة في التلفزيون، ويسهم في خلق حوار فني بين الأجيال، وينوع المنافسة الفنية التي يستفيد منها المتفرج، ويفتح أفق التعدد الجمالي على مستوى التلفزيون، ويطلع الناس على أكبر عدد من الخبرات الفنية والتجارب الجمالية... مع العلم بأن الكثير من المخرجين والمهنيين والممثلين يعانون من قلة فرص العمل، ويشتكون من انعدام تواصل القناتين التلفزيتين معهم.. ولاسيما بعد وضع ملفات مشاريعهم، وكأنهم يرمونها في واد سحيق! إذ من غير المعقول ألا يتواصل التلفزيون، باعتباره وسيلة تواصلية، مع المهنيين، ويبرر كتابيا أسباب رفض المشاريع المُقَدَّمَة إليه. أليست ميزة القناة الاحترافية هي التواصل مع محيطها؟ ألا يتعامل المحترفون المغاربة مع قنوات عربية ودولية، وترد في رقم قياسي على طلباتهم، سواء كان ذلك بالإيجاب أم بالسلب؟! 5 إن إدارة الأمور بهذه الطريقة ساهمت في تدهور التلفزيون المغربي، وأعاقت مشروع تلفزيون وطني يستطيع كل مشاهد له أن يكتشف خصوصيات الهوية المغربية، ورمته في دوامة الهواية في زمن من المفروض أن نرقى فيه إلى مصاف الدول الاحترافية. إن المتتبع للتلفزيون المغربي (بقنواته الأرضية والفضائية المترامية بشكل أحمق في أقمار صناعية مختلفة!) يلاحظ أن «جينيريكات» مختلف المواد المعروضة للمشاهدة تضم أسماء أشخاص لا نعرف مسارهم المهني في المجال السمعي البصري، سواء من باب الخبرة والتجربة أو من باب التكوين الأكاديمي.. بل حتى خريجو «المعاهد» (على قلتها، فالكثير منها لا يمتلك من المعهد إلا الاسم!)، من باب احترام أخلاقيات المهنة، لا بد أن يتدرجوا في المهن التي اختاروها، فالدروس النظرية، والقليل من التكوين المهني الذي تتيحه تلك المؤسسات، لا يمكنها منح الخريجين القدرة على ممارسة المهنة بطريقة مباشرة لأن المجال لا يرتكز على إتقان التقنيات فقط، بل المسألة تتعلق بصناعة وتوجيه الوجدان الجماعي وتمرير إيديولوجيا مغربية عبره، وهذه أمور لا تدرك بسهولة. نشير أيضا إلى بعض الأشخاص الذين يعدون ويكتبون ويخرجون برامج بعينها... في ظرف قياسي! وهذا ما يتنافى مع شرط التخصص الذي يطبع المجالات السمعية البصرية التي تحتاج إلى فرق متعددة المهام، كل حسب تخصصه، كي يتسنى الارتقاء بالجوانب المهنية والفنية. إن مثل هذه الظواهر، التي لا يمكن وصفها إلا ب«غير المهنية»، جعلت الكثير من التقنيين والفنانين والفنيين والصحافيين والمسيرين الأكفاء.. يرحلون إلى بلدان أوربية وأمريكية وخليجية، مفضلين الغربة على البقاء هنا، بل منهم من أصبح خبيرا في مجاله بفعل توفر شروط الاحترافية، تقنيا ونفسيا وإداريا وماديا.. ولعل الخاسر الأكبر هو المغرب الذي صرف أموالا كبيرة من أجل تكوينه، فتحول إلى رقم في سجل الأدمغة المغربية المهاجرة. 6 من المشاكل العويصة التي يعاني منها التلفزيون المغربي، وخصوصا القناة الأولى بالنظر إلى زمن تأسيسها، مشكل الأرشيف... وعندما نطرح ذلك، يتبادر إلى الذهن مشكل الذاكرة المرتبط أيضا بالهوية؛ فالتلفزة حفظ لذاكرة الشعب، وتأريخ لأحداثه وتحولاته الكبرى عبر الصورة والصوت، ورصد للذاكرة الجماعية، وصيانة لتطور نمط عيش الجماعات داخل المجتمع.. مما يعطي الأرشيف التلفزيوني الأولوية على مستوى العناية والحفظ من التلاشي.. وكم ضاع أرشيفنا التلفزيوني؟! هذه الوثائق التي لم تتم العناية بها كما ينبغي، سواء بسبب ضعف الإمكانيات المادية المرصودة لها أو بسبب عدم اقتناء التجهيزات اللازمة أو بسبب عدم القدرة على مسايرة الطفرة التكنولوجية الحاصلة في المجال وما يتطلبه ذلك من استبدال وتحويل ونسخ للحوامل الأصلية وملاءمتها مع الظروف التقنية الراهنة أو بسبب ضعف التكوين في مجالات التخزين والأرشفة والحفظ أو بسبب عدم توفر الكفاءات المؤهلة أو بسبب نقص الوعي بأهمية الأرشيف كإرث وثروة وطنية... إن الأمر يتطلب إعداد بناية خاصة تستوعب كل الأرشيف التلفزيوني، ولاسيما أنه إلى عهد قريب كان مشتتا في أماكن متفرقة، إن لم نقل في مدن متفرقة، ومسجلا على حوامل ودعامات متعددة منها ال«1 Pouce» الذي لم يهتم المسؤولون بتحويله إلى ال«Beta» ومنها إلى الحوامل الرقمية الجديدة.. فقد كنا نجد صعوبة كبيرة عندما نحتاج إلى تحويل مادة تلفزيونية مسجلة على ال«1 Pouce» إلى ال«Beta» بسبب مشاكل تقنية أهمها وضعية الآلة القارئة لها، وهذا ما كان يضطرنا إلى إرسالها إلى بعض مصالح وزارة الاتصال أو بريد المغرب! يتبع...