سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
كيف خرج الحوار بين محمد الدويري وإدريس السلاوي عن مساره الطبيعي في بث مباشر على التلفزيون دخل مدير الإذاعة والتلفزة إلى الاستوديو وظهر أمام المشاهدين وهو يحاول دعوة الرجلين إلى التعقل
ينبش الإعلامي محمد بن ددوش في ذاكرته الإذاعية قبل 60 سنة، ويسجل في كتابه «رحلة حياتي مع الميكروفون» مجموعة من الذكريات والمشاهدات التي استخلصها من عمله في مجال الإعلام السمعي البصري، وهي ذكريات موزعة على عدد من الفصول تبدأ بأجواء عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، وانطلاقة بناء الدولة المستقلة بعد التحرر من الاحتلال الفرنسي والإسباني، مبرزا موقع الإذاعة المغربية في خضم التيارات السياسية التي عرفتها الساحة المغربية في بداية عهد الاستقلال ومع توالي الحكومات الأولى وتعاقب المديرين الأوائل على المؤسسات الإعلامية. ويرصد الكتاب مكانة وعلاقة الملك الراحل الحسن الثاني بعالم الصحافة ومكانة الإذاعة والتلفزة في حياته، مع الانطباعات التي سجلها المؤلف خلال مواظبته على تغطية الأحداث الهامة التي عاشتها المملكة، وفي مقدمتها حدث المسيرة الخضراء وهيمنة الداخلية على الإذاعة والتلفزة، وضمن الكتاب وقائع تاريخية تنشر لأول مرة حول احتلال الإذاعة خلال محاولة الانقلاب التي كان قصر الصخيرات مسرحا لها في سنة 1971. وجاء يوم الندوة... في أحد أيام مارس 1963 وجاء الوزيران طبعا كل واحد بمفرده حيث استقبلهما مدير الإذاعة والتلفزة بكل ما يليق بهما. وكما جرت به العادة في جميع محطات التلفزيون، وقبل بدء البرنامج، خضع الوزيران لعملية (الماكياج) ولم يكن هذا العمل قد تطور كثيرا في التلفزة المغربية الوليدة، بل يمكن القول إنه كان غير خاضع للمواصفات المطلوبة لقلة الخبرة والإمكانيات، وهذا ما سيحول وجهي الوزيرين خلال المناقشة، وتحت تأثير الأضواء القوية إلى وضعية تثير الشفقة. انطلقت الندوة، وما هي إلا دقائق معدودة حتى بدأ (الصراع) وتطايرت «الشظايا» من فمي الرجلين، لقد تحولت المناقشة عن مسارها لتدخل مسار المهاترات والتهم المتبادلة والتهجم الشخصي بشأن التسيير، وكانت بعض التهم من الوزن الثقيل بشأن الفساد المالي وعدم الكفاءة. لقد وجدت نفسي فجأة في وضع لا أحسد عليه، فقد أصابتني الدهشة لهذا النوع من الحوار الذي أواجهه للمرة الأولى في حياتي المهنية، والبرنامج يذاع مباشرة، ومع ذلك حاولت إثبات وجودي، فحاولت بين الحين والآخر تهدئة الوضع والرجوع بالرجلين إلى صلب الموضوع المطروح للمناقشة. ولكنها كانت محاولات فاشلة، ومازلت أذكر أن السيد امحمد الدويري كان كثيرا ما يشتكي من احتكار السيد ادريس السلاوي للميكروفون ويتهمه بعدم تمكينه من الكلام، وفي الوقت ذاته يشهدني على هذه التصورات. وعلى حين غفلة والنقاش على أشده تقدم نحونا مدير الإذاعة والتلفزة عبد الله غرنيط واقترب حتى دخل مجال الكاميرا يراه المشاهدون (مع أنه لم يكن جزءا من المشهد الأساسي) وانبرى باللائمة على الرجلين لهذا المشهد المزري وعلى هذه الصورة السيئة التي يقدمانها للمشاهدين ودعاهما وهو في حالة نفسية متوترة إلى متابعة الحوار بهدوء. كل هذا الكلام وكل هذا اللوم وهذا التوبيخ الموجه لوزير في الحكومة ووزير سابق كان منقولا بالصوت والصورة على الهواء إلى المشاهدين، لأن التلفزة لم توقف البث بل استمرت في النقل المباشر لكل أطواره إلى نهاية «المعركة». ولم أعرف إلى اليوم لماذا لم تقرر التلفزة إيقاف البث بعد أن وصلت الأمور إلى ذلك الحد. وعلى كل حال كانت لها الشجاعة على الاستمرار في البث، وربما كان ذلك (حاجة في نفس يعقوب) وطبقا لخطة مبيتة بعيدا عن المؤسسة الإعلامية. انسحب مدير الإذاعة خارج مجال الكاميرا، وتابعنا الندوة ولكن الدقائق الأولى، بينت أن ملاحظات السيد عبد الله غرنيط لم يكن لها أي تأثير وأن «اللسان بدون عظم» كما يقول المثل المغربي. فقد أخرج واحد من «المتصارعين» ذخيرته الثقيلة لحسم المعركة لصالحه، وما هي إلا لحظات وإذا بالسيد محمد الدويري يقوم من مقعده ويأخذ الميكروفون الوحيد المنصوب فوق الطاولة بيده ويبتعد به عن طاولة المناقشة مما أصبح متعذرا معه متابعة الحوار أو بالأحرى الصراع بدون ميكروفون وبدون وجود أحد الطرفين. لاحظت أن الحديث عن قصة المواجهة التلفزيونية بين امحمد الدويري وإدريس السلاوي بدأ يطفح على السطح الإعلامي بعد أن لفها صمت عميق دام عدة عقود من الزمن وهذا ما وردت الإشارة إليه في صحيفة «المساء»، في عدد 22 نوفمبر 2010 المخصص للحديث عن إدريس السلاوي في نطاق سلسلتها «وزراء حكموا المغرب». فقد ذكرني الكاتب ببعض ما ميز تلك المواجهة (كما سماها) حين أشهر امحمد الدويري وثيقة في وجه خلفه في وزارة المالية وشرع في عرض أرقام ذات طابع رسمي للدلالة على تراجع القطاع وعدم وفاء الحكومة بالتزاماتها. وبدل أن يواجه إدريس السلاوي انتقاد الوزير السابق في الاقتصاد والمالية بحجج بديلة، انقض عليه ونزع الوثيقة من بين يديه، ثم صاح في وجهه بما معناه هذه وثيقة رسمية وليس من حقك أن تستعملها وأنت لم تعد وزيرا بل ذهب به الأمر إلى حد مساءلته «كيف حصلت على هذه الوثيقة؟». هكذا أسدل الستار على هذه الندوة التي ظلت صورها مطبوعة في ذاكرة كل من أتيحت له فرصة مشاهدتها في ذلك الزمن الغابر. كان لهذه الندوة التلفزيونية التي لا يوجد لها تسجيل مع الأسف صدى واسع في أوساط المشاهدين الذين كانوا يتابعون باندهاش دفع عددا مهما منهم (ممن يسكنون العاصمة) إلى مغادرة بيوتهم والإسراع نحو مسرح محمد الخامس حيث مقر التلفزة والرغبة تحذوهم في الاقتراب من مسرح الحدث لعلهم يحظون بمشاهدة ما يجري داخل الأستوديو. ولم يكن الأمر مقتصرا على مواطنين عاديين بل انتقل إلى جوار التلفزة عدد من رجال السياسة والأحزاب السياسية والأحزاب يحذوهم أيضا فضول الوقوف على المشهد الغريب، شكلا ومضمونا والذي لم يسبق له مثيل. وظلت هذه الجموع واقفة عند باب التلفزة (الباب الخلفي لمسرح محمد الخامس) ولم يسمح لهم بالدخول من قبل رجال الأمن الذين سارعوا بدورهم إلى عين المكان للمحافظة على النظام، والملاحظ أن استوديو التلفزة لا يتوفر على مساحة رحبة تمكن من استقبال الجمهور للحضور (كما هو الحال الآن) كما أنه لم يخطر ببال المسؤولين عن التلفزة إذ ذاك دعوة الجمهور للحضور في البرنامج كما تقضي تقاليد اليوم في مثل هذه البرامج الحوارية. كان الجو الذي جرت فيه الندوة يعكس الجو السياسي السائد إذ ذاك في البلاد حيث النقاشات محتدمة حول مشروع الدستور الذي تمت المصادقة عليه قبل ذلك بقليل (دجنبر 1962) وحول الاستعدادات الجارية لانتخاب أول برلمان (17 ماي 1963). لقد ظلت هذه الواقعة طيلة عقود بعيدة عن اهتمام الإعلاميين وحتى لدى الذين عايشوها منهم، إلا أن الإعلامي الكبير الأستاذ عبد الله شقرون لم يغفل الحديث عنها في كتابه القيم (الإذاعة والتلفزة المغربية وقائع وذكريات) الصادر عام 1999 وقد سماها «المقابلة المباشرة الساخنة» و«المقابلة المعركة». ولم يكتف الأستاذ شقرون بالإشارة إلى الندوة وهو الذي كان شاهدا عليها في عين المكان بل إنه نشر في كتابه صورة تاريخية (لا للمناقشة وبطليها مع الأسف) ولكن لمجموعة أفراد، بعضهم ينتمون للإذاعة والتلفزة وبعضهم أجانب عن المؤسسة يتابعون وقائع الندوة داخل غرفة الإخراج ولعلها الصورة الوحيدة من نوعها. الملامح البارزة لوجود الأفراد الثمانية التي ظهرت في الصورة (التي أنقلها عن مؤلف الأستاذ شقرون) ملامح الاندهاش والاهتمام البالغ بما يجري أمامهم، لقد اشرأبت أعناقهم وشخصت أبصارهم نحو الأجهزة التلفزيونية المنصوبة داخل غرفة الإخراج وتجمدت أجسادهم في أماكنها. مخرج البرنامج المرحوم حسن الصقلي في مقعده الطبيعي، وخمسة من موظفي الإذاعة والتلفزة وجودهم في غرفة الإخراج طبيعي أيضا : عبد الله شقرون مدير التلفزة وعبد الحق السرايري رئيس مركز التلفزة في مسرح محمد الخامس والعربي الصقلي (حصافي) وأحمد أوزين (مهندس) وخلفهم المذيع إذ ذاك عبد الرفيع الجوهري واقفين وكأن على رؤوسهم الطير. ولكن الشيء غير الطبيعي مبدئيا وجود السيد أحمد رضا كديرة إلى جانب المخرج وبصحبته الفقيه الركراكي. لقد علمت فيما بعد أن السيد كديرة الذي جاء إلى التلفزة مرافقا لصديقه السيد ادريس السلاوي كان يقوم بدور مساعد المخرج إن لم يكن هو المخرج الحقيقي وكان يشير إلى مخرج البرنامج بانتقاء اللقطة التي تخدم صاحبه. وبعد مدة طويلة وبعد تحليل وقائع هذا الحدث، لم يعد لدي أي شك في أن العملية في مجموعها كانت مدبرة لغاية محددة. ظاهرها حوار بين مسؤولين سياسيين حول قضايا تهم المواطنين، وباطنها السعي إلى تشويه سمعة وزير سابق والتحامل عليه، وبالتالي الإساءة إليه وإلى الحزب السياسي الذي هو أحد زعمائه البارزين.