منذ زمن طويل، يتجاوز العقد، وهذا السؤال يراودني ويضغط علي لطرح نفسه بإلحاح وحرقة. ولعل ما زاد حضوره أكثر، التسابق المحموم للدول والمنظمات والمستثمرين.. في إعطاء المجال السمعي البصري أولوية خاصة.. عبر الحضور من خلال التلفزيون، وإنشاء القنوات الخاصة. من كلاسيكيات وغايات وأهداف ومهام التلفزيون، الإخبار والتثقيف والترفيه. أكيد أن ذلك لم يعد قائما بحذافيره اليوم في ظل انتشار الباقات التلفزيونية، والقنوات المتخصصة سواء في المجال السياسي أم الثقافي أم التجاري أم الشعوذة أم الشَّاتْ.. لأن المجال الذي يتم إحداث القناة بموجبه، يبرر نشاطها، ويحدد مجالات اشتغالها، كما أنه، بطريقة أو بأخرى، يصب في إطار الأهداف النَّوَاتِيَّة للتلفزيون بمفهومه الكلاسيكي.. فضلا عن المشكل الفلسفي الذي يطرحه تصنيف ثلاثي كهذا، وصعوبة وضع الحدود والفواصل بين ما هو إخباري وتثقيفي وترفيهي. ألا نقرأ كتابا من أجل أن نثتقف ونرفه على أنفسنا؟ أليست المتعة هي الغاية الأخرى؟ وهل من الممكن ألا نعثر فيه عن أخبار؟ بعيدا عن إشكالات الفصل هاته، هل نحن بالفعل نحقق تلك الأهداف التلفزيونية بمعناها الكلاسيكي في المغرب؟ هل تلفزيوننا يخبر ويثقف ويرفه؟ هل يجد فيه كل مواطن ذاته من خلال ما يقدم؟ هل يعكس ما يجري في المغرب اليوم؟ قد نجزم بأن المغرب في حاجة ماسة إلى قناة تلفزيونية وطنية همها الأساسي الانكباب على تحقيق تلك الأهداف ولو برؤية كلاسيكية. فنحن لحد الآن لم نستطع خلق قناة وطنية تدور على مدار الأربعة والعشرين ساعة بصور وطنية كاملة الصنع بالمغرب.. كما أن نسبة الأمية، وضعف القدرة الشرائية لدى الطبقات الاجتماعية المسحوقة، والعزلة التي تعاني منها الكثير من المناطق.. تجعل أهمية تطوير قناة مغربية وطنية، أولوية وطنية ملحة: فالعديد من الناس لا يستطيعون توفير الصحون الهوائية المقعرة، ولا اقتناء أجهزة ال "TNT"، ولا تسعفهم أميتهم وجهلهم باللغات والتقنيات.. في تتبع برامج أخرى تبثها القنوات المغربية أو الأجنبية بلغات ومستويات تتجاوز حدود معارفهم! إن من مهام التلفزيون الوطني تسويق مواد تثقيفية وإخبارية وترفيهية يفهمها الناس، ويجدون فيها ذواتهم.. فنحن في حاجة ماسة إلى تصالح المغاربة مع أنفسهم، ومع واقعهم، ومع لغاتهم ولهجاتهم، عبر الصورة.. فلا سبيل لذلك إلا الانخراط بجدية في صناعة تلفزيونية يقع المغرب في بؤرة اهتمامها. لا أظن ولم أشاهد أن قناة فرنسية أو أمريكية أو إنجليزية أو ألمانية أو روسية أو.. أو.. تبث برامجها لأبناء شعبها بلغة أجنبية، ولساعات طوال! فلا يعقل أن تبث قنواتنا التلفزيونية جزءا كبيرا من برامجها بالفرنسية.. بل وما تكاد تنتهي من ذلك حتى تلحقه بالمسلسل المصري، وترتمي بعده في أحضان المسلسل المكسيكي أو التركي المدبلج.. أو المسلسل الفرنسي أو الأمريكي.. أو تقطع بينهما ببرامج وأفلام من الهند وغيرها، وهي برامج وأفلام قديمة ومهترئة من حيث الجودة، وليست ذات قيمة كبيرة على المستوى الفني والجمالي... ولا تساير ما يقع اليوم في العالم من تغيرات جوهرية، وتحمل في طياتها خطورة بالغة تهدد بالاستيلاب والاغتراب، إن لم تكن قد ساهمت فيهما نظرا لما نلاحظه من تحقير لدى المشاهد لكل ما هو محلي ووطني... أليس التلفزيون الوطني من المفروض أن يحبب الناس في وطنهم عبر إعطاء الأولوية للصور المغربية.. لا أن يساهم في إذكاء وخلق كراهية المتفرج المغربي لمنتوجات التلفزيون الوطني من خلال زرع روح المقارنة المُفَارِقَة للمنتوج المحلي بنظيره الأجنبي؟ إن برمجة غير متكافئة، وغير عقلانية، للمنتوج الأجنبي في أوقات الذروة لمن شأنها أن تساهم في تنمية روح الحقد، وتوليد نوع من الاستياء النفسي الذي قد يصل إلى حد الصدمة إذا علمنا أن للصورة أخطار كثيرة لدى المتلقي يجب أن يعيها المُسَيِّر للمرفق العمومي.. ماذا ننتظر من المشاهد عندما نقصفه ببنيات سمعية بصرية مختلفة الأطياف، ومتباينة المشارب، ومتعددة المرجعيات..؟ إذا تأملنا تحولات المشهد السمعي المغربي، نجد أن أشياء كثيرة قد تغيرت فيه لكن ذلك مجرد جعجعة... فالمجلس الأعلى للسمعي البصري كاد أن يتحول إلى هيئة مراقبة تُوقِفُ أو تُغَرِّم أو تقبل أو ترفض.. ولم تتمكن من تفعيل مخطط وطني يضع استراتيجية وتصورا للمجال، وأن يساهم في وضع مساطير هادفة لمراقبة الصفقات، ووضع توجهات عامة للبلاد في المجال السمعي البصري يرفع من قيمة المغرب ويضعه في مصاف الدول ذات الخصوصية الثقافية والحضارية المتميزة.. كما أن فتح المجال السمعي في وجه القطاع الخاص جعل منه فضاء لإنتاج الزعيق والنعيق، كما أن بعض الإذاعات توظف أشخاصا تكلفهم بإنتاج كل شيء مما أظهر الكثير من غير المتخصصين وغير الموهوبين، إلى درجة أضحت كل شقة قابلة لأن تتحول إلى "راديو" يدعي القرب والتخصص والمهنية والجودة والتنافسية دون أن نلمس ذلك على مستوى آذاننا... أما في المجال التلفزيوني، فقناة "ميدي سات" غرقت لولا تدخل فوقي أنقذها في انتظار أن نرى نتيجة ذلك.. كما أنني لا أعرف لماذا تصر هذه القناة على مخاطبتنا بالفرنسية في غالبية الأوقات بعد عدم تدخل الفرنسيين للمساهمة في القناة وإنقاذها؟ كما أن نسبة مشاهدتها ضعيفة جدا، ولم يظهر الرهان المتوسطي الذي راهنت عليه.. على أي، فالقنوات التلفزيونية التي من المنتظر أن ترى النور إن رأته يلزمها التفكير في المشاهد المغربي أولا وأخيرا، ويظهر أن شعار المغربة ضروري كأسبقية استراتيجية إن هي أرادت كسب ود المشاهد عوض أن تتحول إلى علب تتسابق على وصلات الإشهار.. وهذه نقطة أخرى لا بد من تدخل "الهاكا" لحلها سيما وأن المشاهد لم يفهم خلال شهر رمضان مثلا، بث القناتين لوصلات إشهارية يكاد يضاهي زمنها زَمَنَ ما يحتضنه! كما أن الكثير منها يفتقد إلى الإبداعية الإشهارية، فلا يمكن لكل من أنتج شيئا يمرره بدعوى أنه سيؤدي ثمن ذلك البث! فلا بد من استحضار البعد التربوي والفني.. وعنصر الجودة. يمكن أن نستفيد، نحن المغرمون بفرنسا، من الدرس الفرنسي في مجال التلفزيون، فلولا تدخل ساركوزي لإنقاذ بعض التلفزيونات عن طريق تنظيم حصص الإشهار في المجالين العمومي والخاص، لما كانت بعض القنوات التي ألفناها في عداد التاريخ التلفزيوني! وهذه إشارة قوية من طرف دولة قوية في المجال إلى صعوبة الرهان على القطاع الخاص لتمرير إيديولوجية الدولة، والحفاظ على مرتكزات وثوابت الوطنية.. وهذا ما يجعل التفكير بجد في التجربة المغربية لتفادى المفاجآت والانزلاقات: فالاستمرارية والاستقلالية لا يمكن أن تنبثا في أرضية تنافسية هشة! أما فيما يخص قناتنا الأولى التي تحولت إلى شركة خاصة أو شبه عمومية بغية استقلالية أكبر في عقد الصفقات، وأداء المستحقات، والتعامل المباشر مع المستشهرين وأظن أن هذه النقطة الأخيرة تشكل مربط الفرس في العملية ككل فقد عادت القهقرى.. وظللنا ننتظر قرابة عقد من الزمن، وما يزيد، التغيير الذي لم يأت: فالمستوى الفني قد تراجع، والهواية سادت على الاحتراف، وعدم الشفافية هي السائدة، والإقصاءات المتتالية لطاقات الدار وللفاعلين في المشهد التلفزيوني عامة تتصاعد، والجودة تضمحل.. إن المشكلة ليست في تحويل دار البريهي إلى قناة خاصة أو شركة عمومية أو شبه عمومية، وإنما المشكل في الرؤية التسييرية والتذبيرية والفنية والإيديولوجية.. وفي الهم الوطني الذي يجب أن تتحمله، وفي التدبير الفني لمواردها البشرية، وفي بنياتها وهياكلها الإدارية... أذكر واقعة تاريخية قريبة حدثت زمن كان الأستاذ العربي المساري وزيرا للاتصال، وكان المدير الحالي للتلفزيون ضمن مدراء الشركات الخاصة التي استدعتها الكتابة الخاصة للوزير من أجل مناقشة بعض قضايا المجال، وكنت حينها أمثل "زوايا".. فدعا السيد المساري إلى تغيير العقلية في التلفزيون، وأثناء النقاش، قلت بأنه يمكن أن نغير كل شيء في الدار من بنيات تحتية وبنايات، ولكن تغيير العقلية أمر يحتاج إلى وقت، فالسيد المساري ذهب إلى الأصعب: لا يمكن تغيير العقلية إلا عبر استراتيجية بعيدة المدى.. وكان حينها المدير الحالي من المدافعين عن إيجاد فرصة عمل لشركته مع تشكيه الواضح من التهميش والإقصاء، دون أن يهمه أمر مشاكل الوضع السمعي البصري في البلاد... وها هو الأستاذ المساري ينصرف دون أن يغير العقلية، وها هو الباحث القديم عن فرصة شغل، والمدبر الجديد لحيز مهم من فرص الشغل في المجال السمعي البصري المغربي.. لم يستطع رسم معالم تلفزيون وطني، بل لم يترك بصمة خاصة يذكره بها التاريخ كما ذكر سابقيه. إن هذه الواقعة التاريخية تبين مدى عمق المشكل الذي يتخبط فيه المجال: فهل نحن أمام صراع فكري أم أمام مشكل تعطيل للفعاليات الوطنية في المجال أم أننا أمام رؤية استراتيجية للمجال ككل؟ أظن أن مشاكل التلفزيون المغربي تفتقد إلى من يتحكم فيها مهنيا، ويحدث خطابها وأساليب إدارتها للمجال السمعي البصري، ووضع ملامح وطنية لها يجعل المواطن المغربي يرتاح لبرامجها عبر فتح المجال أمام كل المهنيين المغاربة شريطة الاحتكام إلى الحرفية. لقد اتسمت الصفقات على "شركات" محدودة، وأشخاص محدودين مع العلم أن مؤسسة "وطنية" لا تشجع على الاحتكار باعتباره يضر بقيم التنافسية والشفافية.. بمعنى أنها يجب أن تكون مكانا يجمع المهنيين المغاربة، ويجب أن يحكمها القانون من خلال الإعلان عن الصفقات علانية، وإنشاء لجان مستقلة للقراءة ومراقبة الجودة والتتبع.. يعرفها الجميع، وتربطها علاقات وطيدة بالمجال وما يمتد إليه من حقول ذات صلة. فهل نتصور أن تلفزيونا يمرر صفقة إنجاز ثلاثين فيلم تلفزيوني لشركة واحدة دون إعلان علني شفاف تطلع عليه الشركات المهنية، وطنيا؟ ألا يكرس ذلك قيم الاحتكارية والمزاجية والمحسوبية والانفراد بالقرار وتقويض مقولات الشفافية والديمقراطية ودولة الحق والقانون التي نطمح لبنائها؟ هل يعقل أن ينتج محور الرباطالبيضاء كل الصور الوطنية؟ أين الجهوية التي نطمح إليها؟ أين صور المغرب الأخرى؟ إذا افترضنا أن ذلك كان بنية صادقة، رغم أن النية لا تنفع في تدبير المرفق العام الوطني، فالمسألة لم تبين أي تطور على الشاشة خصوصا وأن التلفزيون شفاف بطبعه: يفضح كل شيء.. فتلك الأفلام لم تحدث "هزة" في الوجدان العام للمغاربة، ولم تساهم في تطوير مفهوم الجهوية التي انخرط فيها المغرب. ما هو الصدى الذي خلفته في صفوف الجمهور؟ أظن أنها لو وزعت على المهنيين المحترفين بشكل شفاف وعادل لساهم الأمر في إنعاش القطاع السمعي البصري عامة، وساهم في تشغيل أكبر عدد من الحرفيين، وأدمج عددا مهما من الشباب خريجي المعاهد المهتمة بالقطاع، خصوصا وأن الاستثمار في مجال التكوين السمعي البصري يتطلب إمكانيات مرتفعة، ويجب أن يأخذ المسيرون للتلفزيون ذلك بعين الاعتبار.. كما أن ذلك من شأنه أن يضخ دماء جديدة في التلفزيون، ويسهم في خلق حوار فني بين الأجيال، وينوع المنافسة الفنية التي يستفيد منها المتفرج، ويفتح أفق التعدد الجمالي على مستوى التلفزيون، ويطلع الناس على أكبر عدد من الخبرات الفنية والتجارب الجمالية... مع العلم أن الكثير من المخرجين والمهنيين والممثلين يعانون من قلة فرص العمل، ويشتكون من انعدام تواصل القناتين التلفزيونيتين معهم.. ولا سيما بعد وضع ملفات مشاريعهم، وكأنهم يرمونها في واد سحيق! إذ من غير المعقول ألا يتواصل التلفزيون، باعتباره وسيلة تواصلية، مع المهنيين، ويبرر كتابيا أسباب رفض المشاريع المُقَدَّمَة إليه. أليست ميزة القناة الاحترافية، التواصل مع محيطها؟ ألا يتعامل المحترفون المغاربة مع قنوات عربية ودولية، وتجيبهم في رقم قياسي على طلباتهم سواء كان ذلك بالإيجاب أم بالسلب؟! إن إدارة الأمور بهذه الطريقة، ساهم في تدهور التلفزيون المغربي، وأعاق تعطيل مشروع تلفزيون وطني يستطيع كل مشاهد له أن يكتشف خصوصيات الهوية المغربية، ورماه في دوامة الهواية في زمن من المفروض أن نصل فيه إلى مصاف الدول الاحترافية. إن المتتبع للتلفزيون المغربي (بقنواته الأرضية والفضائية المترامية بشكل أحمق في أقمار صناعية مختلفة!) يلاحظ بأن جينيريكات مختلف المواد المعروضة للمشاهدة، تضم أسماء أشخاص لا نعرف مسارهم المهني في المجال السمعي البصري سواء من باب الخبرة والتجربة أم من باب التكوين الأكاديمي.. بل حتى خريجي "المعاهد" [على قلتها، فالكثير منها لا يمتلك من المعهد إلا الإسم!]، من باب احترام أخلاقيات المهنة، لا بد وأن يتدرجوا في المهن التي اختاروها، فالدروس النظرية، والقليل من التكوين المهني الذي تتيحه تلك المؤسسات، لا يمكنها منح الخريجين ممارسة المهنة بطريقة مباشرة لأن المجال لا يرتكز على إتقان التقنيات فقط، بل المسألة تتعلق بصناعة وتوجيه الوجدان الجماعي، وتمرير إيديولوجيا مغربية عبره، وهذه أمور لا تدرك بسهولة. نشير أيضا إلى بعض الأشخاص الذين يعدون ويكتبون ويخرجون برامج بعينها... في ظرف قياسي! وهذا ما يتنافى مع شرط التخصص الذي يطبع المجالات السمعية البصرية التي تحتاج إلى فرق متعددة المهام، كل حسب تخصصه، كي يتسنى الارتقاء بالجوانب المهنية والفنية. إن مجالا تظهر فيه مثل هذه الظواهر التي لا يمكن وصفها إلا بغير المهنية، جعلت الكثير من التقنيين والفنانين والفنيين والصحافيين والمسيرين الأكفاء.. يرحلون إلى بلدان أوروبية وأمريكية وخليجية مفضلين الغربة على البقاء هنا، بل منهم من أصبح خبيرا في مجاله بفعل توفر شروط الاحترافية تقنيا ونفسيا وإداريا وماديا.. ولعل الخاسر الأكبر هو المغرب الذي صرف أموالا كبيرة من أجل تكوينه فتحول إلى رقم في سجل الأدمغة المغربية المهاجرة. من المشاكل العويصة التي يعاني منها التلفزيون المغربي، وخصوصا القناة الأولى بالنظر إلى زمن تأسيسها، مشكل الأرشيف.. وعندما نطرح ذلك، يتبادر إلى الذهن مشكل الذاكرة المرتبط أيضا بالهوية. فالتلفزة حفظ لذاكرة الشعب، وتأريخ لأحداثه وتحولاته الكبرى عبر الصورة والصوت، ورصد للذاكرة الجماعية، وصيانة لتطور نمط عيش الجماعات داخل المجتمع.. مما يعطي الأرشيف التلفزيوني الأولوية على مستوى العناية، والحفظ من التلاشي.. وكم ضاع أرشيفنا التلفزيوني؟! هذه الوثائق التي لم تتم العناية بها كما ينبغي سواء بسبب ضعف الإمكانيات المادية المرصودة لها، أم بسبب عدم اقتناء التجهيزات اللازمة، أم بسبب عدم القدرة على مسايرة الطفرة التكنولوجية الحاصلة في المجال وما يتطلبه ذلك من استبدال وتحويل ونسخ للحوامل الأصلية وملاءمتها مع الظروف التقنية الراهنة، أم بسبب ضعف التكوين في مجالات التخزين والأرشفة والحفظ، أم بسبب عدم توفر الكفاءات المؤهلة، أم بسبب نقص الوعي بأهمية الأرشيف كإرث وثروة وطنية... إن الأمر يتطلب إعداد بناية خاصة تستوعب كل الأرشيف التلفزيوني سيما وأنه إلى عهد قريب كان مشتتا بأماكن متفرقة، إن لم نقل بمدن متفرقة، ومسجلا على حوامل ودعامات متعددة منها ال "1 Pouce" الذي لم يهتم المسؤولون بتحويله إلى ال "Beta" ومنه إلى الحوامل الرقمية الجديدة.. فقد كنا نجد صعوبة كبيرة عندما نحتاج تحويل مادة تلفزيونية مسجلة على ال "1 Pouce" إلى ال "Beta" بسبب مشاكل تقنية أهمها وضعية الآلة القارئة لها، وهذا ما كان يضطرنا إلى إرسالها إلى بعض مصالح وزارة الاتصال أو بريد المغرب! إن بإمكاننا أن نشغل تلفزيونا وطنيا بإنتاج مغربي خالص على مدار الأربعة وعشرين ساعة دون انقطاع، انطلاقا من إعادة بث الأرشيف التلفزيوني المغربي الذي تجهله الأجيال الحديثة التي يمكنها أن تتعرف على البدايات الأولى للتلفزيون، وكذا عن أهم الفنون المرتبطة به.. فكم من البرامج والمسلسلات والسهرات والأشرطة التلفزيونية التي نحن في حاجة ماسة إلى إعادة رؤيتها قصد التصالح مع ذاتنا، ومع ماضينا، وأخذ موقف نقدي منه؟! إن الشعب الذي لا يأخذ موقفا حاسما من تراثه لا يتطور. إن المجال الفني المغربي في حاجة إلى ربط الحاضر بالماضي عبر التلفزيون، والجمهور الحالي تنقصه هذه المقارنة بين ما كان وما هو كائن اليوم.. وكم لحظات اكتشفت من خلالها جَمَالِيَّةَ وتَفَوُّقَ مَا كَانَ على ما هو كائن الآن بكل حسرة وأسف! إن المسؤول الأول عن القطب العمومي، لا يأبه بأهمية التاريخ، فكل همه إداري محض.. وكأن تسيير مؤسسة سمعية بصرية وطنية، يحتاج إلى "رؤية" إدارية منفصلة عما هو فني وتاريخي! لكن فاقد الشيء لا يعطيه لأن التجربة الحالية التي تجاوزت العقد، أثبتت أننا لم نتطور قيد أنملة.. لقد فشلت فشلا ذريعا في تدبير مرفق التلفزة المغربية، وعمقت الهوة فيما بين التلفزة المغربية وجمهورها. إذا تأملنا بعض البلدان العربية الشبيهة لنا أو القريبة منا، وجدنا أنها تضع تطوير مجالها السمعي البصري على رأس الأولويات، وتعزز بنياته التحتية كالانخراط في العناية بالأرشيف، وبناء مدن الإعلام، والتكوين.. فمصر مثلا، تضع أرشيفها البصري (بالأبيض والأسود) ضمن المسائل الوطنية المهمة، وقد قامت ضجة كبيرة عندما تم بيع جزء منه إلى قناة عربية أخرى. إن العالم العربي يعرف كل نجوم الدراما المصرية الأوائل، وكل المغنيين.. كما أن الأرشيف الخليجي المصور بالأبيض والأسود بدأ يتم نفض الغيار عنه.. ونفس الشيء بالنسبة لسوريا التي بذلت مجهودا كبيرا في إعادة بث أرشيفاتها الفنية الأولى.. فأين نحن من كل هذا؟ ألسنا في حاجة إلى التعريف بفنوننا بلغاتها الأصلية خاصة وأن الكثير من الأشقاء العرب يشتكون من عدم فهم لهجاتنا.. ألا تعرفون كيف عرفنا لهجاتهم؟ ألم يكن التلفزيون حاسما في هذه النقطة؟ لقد أصبحنا نعرف كل ما يتعلق بمصر إلى درجة أصبحت مصر ذاتها وكأنها خرجت من فيلم! متى سنعي ذلك ويصبح التلفزيون المغربي ناقلا للثقافة المغربية ومعبرا عنها بكل أطيافها؟! تقع اللغة في بؤرة الاستراتيجية العامة لخلق تلفزيون وطني خالص، كما أن الوعي بأهمية اللغة يعد المدخل الأساسي لبناء مشروع تلفزيون وطني متكامل. فالهوية ترتبط باللغة ارتباطا متينا، إن لم نقل إنها الهوية ذاتها. وبما أن المغرب يتميز بالتنوع اللغوي، وبتعدد اللهجات، ومنفتح على العالم.. يمكن وضع استراتيجية للتواصل مع الناطقين بهذه اللغات عبر الأخبار، وعبر قنوات أخرى خاصة، مع العلم أنه لن يتفوق على ما ينتجه أهلها.. منذ مدة كان الإنتاج باللغات غير الوطنية مهم لفك العزلة عن الجاليات، ولكن ذلك لم يعد مبررا اليوم في زمن الغزو الفضائي، فقد أصبح بإمكان من يعيش ببلادنا من ذوي الثقافات الأخرى أن يتابع ما يقع في بلده وفي العالم بسهولة. لذلك، فعندما نتحدث عن تلفزيون وطني، يجب أن يحس كل مغربي يجلس أمام الشاشة بالتّماهي، بمعنى أن يرى صورته فيه، أو صورة أهله، ويجد لغته فيه، ومجتمعه فيه، وفنونه فيه... كما أن خلق محطات جهوية من شأنه أن يخفف الضغط على القناة الأولى لأنه لا يمكن الاستمرار في هذه "السلاطة" (Salade) التي تشكل ما يسمى تجاوزا بالبرمجة! إنها غير منسجمة لأنها تحاول إرضاء كل المتكلمين في المغرب (الفرنسية، العربية، الإسبانية، الأمازيغية بكل أطيافها، الدَّارجة...). أعتقد أنه يجب الذهاب رأسا إلى مشاكلنا الداخلية، والاهتمام ب"المتكلمين/المشاهدين" المغاربة أولا وأخيرا، وبالسوق اللغوية المحلية مع الإبقاء على بعض النشرات الإخبارية الخاصة كما هو الشأن بالنسبة للإسبانية والتفكير في خلق أخرى بالإنجليزية والصينية والإيطالية والألمانية نظرا للتزايد المهم الذي تعرفه هذه الجاليات بوطننا، وخدمة لجالياتنا أيضا ولمتعلمي هذه اللغات في المغرب.. ولنا في تجربة بلدان عربية لها تقاليد راسخة في المجال خير مثال. وعلى ذكر النشرات، فمن المعيب جدا ألا نتوفر على نشرة إخبارية ثقافية مستقلة. فالخبر الثقافي يقع في آخر اهتمامات أقسام الأخبار بكل القنوات المغربية إضافة إلى سوء برمجة البرامج الثقافية وركاكة جلها سواء من حيث عدم تغييرها أم ضيق فهمها للثقافي وطغيان البرامج الحوارية عليها الشيء الذي يحول بعضها إلى ما يشبه المساءلة (Interrogatoire) عوض المحاورة التي تنبني على الجدل والتوليد! أما انعدام التنسيق فيما بين القنوات المغربية على مستوى البرمجة فكارثي لأنه من المفروض أن يحصل التكامل لا المنافسة ما دام الكل ممول من طرف الدولة! ما يدفع في واقع الأمر إلى مناقشة إشكالية التلفزيون الوطني، والتفريق فيما بينه وبين التلفزيون المغربي كمفهوم، أزمة الهوية التي يتخبط فيها وخصوصا في العقد الأخير الذي عرفت البلاد خلاله دينامية مهمة. فالتلفزة لا تنتبه إلى النقد وكأن هؤلاء الذين ينتقدونها قادمون من بلاد أخرى، أو متحاملون! ولا إلى آراء المهنيين والنقابيين، ولا تحترم مبدأ الشفافية ومبدأ تكافؤ الفرص في عقد الصفقات، رغم الاستقلالية المالية النسبية التي أصبحت تتمتع بها... فقد يظهر أن الأزمة تسييرية واستراتيجية وإيديولوجية بامتياز.. وأزمة رؤية للقطاع السمعي البصري عامة. إن الأمر متروك للتدبير اليومي الذي تسوده الارتجالية ويغيب عنه التخطيط على المستوى المتوسط والبعيد، كما أن التلفزيون يظهر غير معني بما يرفعه "المغرب السياسي" و"المغرب المدني" من شعارات وأهداف، ولا يعكس غنى وتنوع المكونات الثقافية المغربية، وحركية المجتمع المغربي بكل مكوناته. أعتقد أن التلفزيون المغربي في حاجة أكيدة إلى هيكلة عاجلة ومناظرة وطنية تعجل برؤية إصلاحية متكاملة لدواليبه.. ولو أردتم أن تقفوا عند أهمية المسألة أدعوكم للقيام بالتجربة التالية: حاولوا أن تزيلوا شعار القناة الأولى أو الثانية أثناء مشاهدة برامج يوم واحد فقط، وسوف تقفون بأنفسكم عند صعوبة التمييز! إن تلفزيونا وطنيا حقيقيا من المفروض ألا تخطئه العين سواء من حيث المضمون أم الفضاءات أم اللغة أم الاختيارات الفنية والاستيتيقية أم تأثيثه البصري "Habillage".. وما ذلك بالمستحيل. ما يقودنا إلى القول بأننا لا نملك تلفزيونا وطنيا حقيقيا، كونه لا يواكب الدينامية التي يعرفها المغرب اليوم سواء على المستوى السياسي أم الثقافي أم الفني.. فهو يكاد يكون جامدا، ولم يستطع الخروج من تاريخه الذي اتصل بتحكم وزارة الداخلية في الإعلام.. فلم يعد اليوم من المضر في شيء إذا قدم التلفزيون الوقائع كما هي، وذلك في ظل تواجد وسائل كثيرة لنقل المعلومات وتداولها خارج نظام الرقابة الرسمي التي تطورت بدورها أيضا من خلال تطوير أساليبها، وخلق القوانين المنظمة لمهن الإعلام عامة.. فالعالم كله قد وعى الدرس، وطور تلفزيونه الرسمي، وذلك عبر وضع خطط تظهر الخصوصية الثقافية للبلد، وتعكس الحراك الذي تعرفه كل ثقافة.. أظن أن المشكل في التسيير، وليس في الإمكانيات المادية أو العوائق السياسية أو البشرية.. لا سيما وأن المغرب يعرف حركية فكرية مهمة. ملحوظة للتأمل: ما معنى أن يصنع صورنا (إنتاجا وإخراجا وتمثيلا...) العديد ممن لا يتوفرون على شهادات التعليم الابتدائي؟ ألا يشكل هؤلاء عائقا حقيقيا أمام قيام تلفزيون وطني؟ [مع العلم أننا لا نشكك في وطنية أي أحد وانتمائه وغيرته على المغرب...]. إن الأمر يتعلق بصناعة الهوية الإيديولوجية للتلفزيون الوطني، وبآفاق المغرب، وبرهانات المغرب، وبفهم ما يقع وما سيقع للمغرب... وهي أمور أظن أنه من الصعب على الأمي، مهما بلغ من الشطارة التقنية، الإلمام بها.. لأن أفقه الفكري محدود.. وشساعة هذا الأفق هو الدعامة الأساسية لصناعة صورة الوطن التي يجب أن تتضح فلسفتها للمسيرين.. فما دام الأمي يصنع صورنا فلا حاضر ولا مستقبل لنا!