ميخائيل بشير عياري دكتور في العلوم السياسية، وباحث متعاون مع معهد الأبحاث والدراسات عن العالم العربي والإسلامي بمدينة إيكس أنبروفانس، يعمل حاليا خبيرا بإحدى الشركات الدولية بتونس. وقد ساهم بعدة مقالات وأبحاث عن تونس. كما أنه أحد المساهمين المواظبين في مجلة «سنة المغرب العربي» (دورية سنوية). أما فانسان جيسير، فباحث بالمعهد الفرنسي للشرق الأوسط في بيروت، ومتخصص في العالم العربي وفي قضايا الإسلام، وهو مؤلف لعدة دراسات، من بينها: «الإسلاموفوبيا الجديدة». كما انصبت أبحاثه على مسألة السلطة والتراتبية في تونس. بعد الكم والوفرة، جاء وقت الفرز والكيف. في الأشهر الأولى من ثورات الربيع العربي فسح الناشرون المجال للشهادات الساخنة والحية لترديد أصداء الحماسة الثورية من قلب العالم العربي بما تعنيه من تغيير واختيار ديمقراطي. اليوم، ونحن على أعتاب الاحتفال بالسنة الأولى لهذه الثورات، اختمرت الأفكار وأخذ الباحثون مسافتهم من فورة الأحداث لطرح أسئلة العمق والأساس على ضوء ما تغير وما تعثر في المسلسل الثوري، الذي اتضح أنه لا يكفي بتنحية الطاغية لوضع حد للطغيان. وللنظر بتأن في هذه «النهضات الجديدة» ضافر ميخائيل بشير عياري وفانسان جيسير معارفهما بالميدان ومتابعتهما للمجتمعات العربية لتقريب القارئ من الصورة التي لا تزال غير واضحة. ميخائيل بشير عياري دكتور في العلوم السياسية، وباحث متعاون مع معهد الأبحاث والدراسات عن العالم العربي والإسلامي بمدينة إيكس أنبروفانس، يعمل حاليا خبيرا بإحدى الشركات الدولية بتونس. وقد ساهم بعدة مقالات وأبحاث عن تونس. كما أنه أحد المساهمين المواظبين في مجلة «سنة المغرب العربي» (دورية سنوية). أما فانسان جيسير، فباحث بالمعهد الفرنسي للشرق الأوسط في بيروت، ومتخصص في العالم العربي وفي قضايا الإسلام، وهو مؤلف لعدة دراسات، من بينها: «الإسلاموفوبيا الجديدة». كما انصبت أبحاثه على مسألة السلطة والتراتبية في تونس. حمى الثورة تسري في الوطن العربي لم يمر سوى شهر واحد بين اللحظة التي أضرم فيها محمد البوعزيزي النار في جسده وبين فرار المخلوع بن علي. ولم يتصور أحد أنه سيكون لفعل البوعزيزي وقع مدوّ، قاد إلى فرار الديكتاتور، الذي رفع في وجهه شعب بكامله شعار «ارحل» لمدة أسابيع. فيما بعد، وقبل أقل من شهر، وبالتحديد في الحادي عشر من فبراير، كان دور حسني مبارك، الذي أجبر على الاستقالة نتيجة تعبئة شعبية وجماهيرية هائلة. في نفس الأثناء سرت حمى الثورة إلى البحرين، اليمن، الأردن، سوريا، وليبيا. فيما لجأ النظام الجزائري إلى الإغراءات المالية مع تعزيز الحضور العسكري في نفس الوقت بهدف خنق أي محاولة انقلابية. أما في المغرب، فقد استبق النظام الملكي الوضع بطرحه دستورا جديدا للمصادقة «يحد من الصلاحيات السياسية للملك». وفي نهاية صيف 2011 وبدعم من الحلف الأطلسي تحررت ليبيا من الخناق المحكم الذي فرضه القذافي على البلد لمدة تزيد عن 40 عاما. ولم يحصل الشعب البحريني على هذا الامتياز، حيث أجهض الجيش، مدعوما بقوى خليجية، انتفاضته، في الوقت الذي أدار الغربيون أنظارهم في اتجاهات أخرى. أما اليمنيون، فقد عاينوا فرار رئيسهم للعلاج دون أن يترك المكان شاغرا. في الوقت الذي يواجه السوريون شراسة الجيش ومصالح المخابرات، التي أجهزت بالكامل على مصداقية النظام. هكذا، وفي أقل من ستة أشهر، عرفت الجغرافيا السياسية للمغرب والمشرق تحولات جذرية. انفرطت المعتقدات والتصورات الغربية القائلة بأن العالم العربي غير مؤهل وغير كفء للديمقراطية، وأن أكثر ما يستحقه هو «ديكتاتور متنور». أما حسابات ما بعد عمليات الحادي عشر من سبتمبر، التي اعتبرت هذه الأنظمة الديكتاتورية صمام أمان ضد الإرهاب، فهي صالحة لترتب اليوم في أرشيفات التاريخ. كما أن التقييمات الإيجابية، التي تضمنتها دوريات ومنشورات المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، والاتحاد الأوروبي، أصبحت عديمة القيمة، فالعقود الطرية والسمينة التي وقعتها الجمهورية الفرنسية مع القذافي (مفاعلات نووية، بترول، تسلح) تم طمسها من الحوليات الرسمية للجمهورية. أما حسني مبارك، الذي شغل منصب نائب رئيس الاتحاد من أجل المتوسط، فقد سقط قناعه ليعري عن ابتسامة ديكتاتور أفسدته وأنهكته 30 سنة من الحكم الانفرادي. أما التكهنات المتخوفة للقنصليات ومصالح الاستعلامات من الفوز المحتمل للإسلاميين في «الشرق المعقد»، فقد أعيد النظر فيها مؤقتا. يكفي التذكير بهذه الوقائع والأحداث للوقوف على جسامة التغيير، الذي يشهده اليوم العالم العربي وانعكاسات هذه الوقائع على الوضع الجيو-سياسي الدولي. أي تفسير يمكن تقديمه لهذا الانبثاق الديمقراطي؟ فقد قدمت عدة أسباب وتأويلات. ذلك أن الثورة ليست محصلة عامل واحد. كما أنها لا تأتي من فراغ ولا يمكن تقليصها في مجموع العوامل التي أنتجتها، فهي تخلق ضمن حركيتها ما هو غير مألوف وغير مرتقب. من ثم، ولفهم شيوعها وانتشارها وجب الوقوف بتمعن على ما وقع خلال العقود الأخيرة، مع الأخذ بعين الاعتبار معطيات أساسية من قبيل آثار البطالة في أوساط أبناء عمال المناجم بقفصة، ووسط عاملات معامل النسيج بمدينة محلة بمصر، أو في أوساط المدونين الشباب بالقاهرة، وتونس، والرباط، وهم على صلة دائمة بالشبكة العنكبوتية. ذاك هو الهدف الذي يسعى إليه هذا البحث، أي فهم الربيع العربي في عمق انبثاقه بغية تقييم وقعه على المدى البعيد. وقبل الإجابة عن الأسئلة السبعة المطروحة هنا، حاول الكتاب معرفة أوجه القرابة بين ثورات الربيع العربي وثورات أخرى، على اعتبار أن خصوصيات الدول العربية ليست مسيّجة بحدود فاصلة تعزلها عن بقية العالم. ظرفية ومحيط الثورات العربية من الصدف الغريبة أنه في غضون الأشهر التسعة الأولى لولادة الثورات العربية، شهد العالم عدة وقائع أهمها: حركة الاحتجاج التي قادها آنا هازاري بالهند للتنديد بالرشوة، التي تنخر النظام السياسي، والتي أجبرت الأحزاب السياسية على إدراج ثلاثة قوانين لمحاربة الرشوة. في الشيلي، اندلعت حركة اجتماعية نظمها الطلبة لمناهضة السياسة التربوية المتبعة من طرف الرئيس النيو-ليبرالي سيباستيان بينيارا. وفي إسبانيا طالب آلاف المتظاهرين من الشباب الساخط بديمقراطية حقيقية تقطع مع خطة التقشف التي حظيت بتصويت خاطف وسريع من طرف الحزب الاشتراكي والحزب الشعبي إرضاء لتعليمات وكالات التنقيط والمؤسسات العالمية. أما في اليونان فخرج المواطنون في مظاهرات يومية للتنديد بالإجراءات الصارمة التي أملاها صندوق النقد الدولي والمجموعة الأوروبية.إسرائيل نفسها، التي أعربت عن تخوفها من المسلسل الديمقراطي العربي لدول الجوار، في الوقت الذي اعتبرت أن العالم العربي لا يمكنه سوى إنتاج ثورة إسلامية في أحسن الأحوال، عرفت أيضا سلسلة من المظاهرات ندد فيها المتظاهرون باللامساواة وارتشاء الحكومة والأحزاب السياسية. تتضافر هذه المعطيات للتشكيك في مصداقية الدولة وفي مصداقية الأحزاب السياسية وقدرتها على تمثيل الشعب. كما تظهر أيضا رغبة هذه الحركات في التنصل من وصاية طليعة متنورة، وهي حركات ترفض في العديد من الدول وضع مصيرها بين يدي نخبة سياسية، حتى إن تم تبريكها من طرف الاقتراع العام. استثنائية الربيع العربي يجب أن لا ينسينا هذا الأمر استثنائية الربيع العربي، الذي يطرح ضمن مطالبه ممارسة الحريات الديمقراطية، وهو عمل شاق ومضن كسبته الدول الغربية خطوة بخطوة خلال القرنين الأخيرين. ومع ذلك فإن النهضات العربية، وبفضل طابعها الشعبي، تتميز عن نهضة نهاية القرن التاسع عشر، وهي نهضة ثقافية أساسا، تقف وراءها نخب دينية (الأفغاني، محمد عبده، الكواكبي)، ولا تعبر فقط عن رغبة في سد فجوة التأخر الديمقراطي. بكيفية متناقضة ومبهمة، فهي تعبر عن رغبة في وضع حد لسياسة وضع الأمور بين أيدي الأحزاب، الدولة، وبين أيدي الخبراء والمؤسسات الدولية. لقد بدأ زمن ديمقراطي جديد بتقاسيم وملامح غير واضحة، وهو زمن يزاوج بين التصور السياسي ومساهمة الفاعلين الاجتماعيين، ولا أحد يمكنه طبعا تخمين ما ستسفر عنه هذه الطموحات. من هذه الزاوية، يجب الاعتراف بأن الولاياتالمتحدة، أول قوة عظمى، كسبت تجربة في دراسة حركات المجتمعات المدنية. لم تكن واشنطن تجهل الوضع المزمن لارتشاء الأنظمة العربية، لكنها لم تكن تتوقع ما ستؤول إليه هذه الأنظمة. لذا يمكن القول بأن الثورات العربية تندرج هنا في تحول كوني ثان، وهي نسبية الهيمنة الغربية على العالم، وذلك من خلال ما أسماه إيريك هوبزوم «شرقنة» العالم. كرس انهيار حائط برلين هيمنة الولاياتالمتحدة، التي هزمت الدب السوفياتي، الذي كان من ورق. صاحب هذا الفوز انتصار المنظومة الليبيرالية، التي فرضت نموذجها على المستوى الكوني. وكل من قاوم أو أبدى عقوقا في وجه هذه الهيمنة كان جزاؤه العقاب مثل العراق، الذي أدى ثمن محاولة تنصله من هذه السيادة ليجد نفسه تحت رحمة الآلة العسكرية. فقدان الغرب لسيادته اليوم تندرج الانتفاضات العربية في إطار فقدان الولاياتالمتحدة والغرب عموما لسيادتهما على العالم. وقد أوضحت هذه الدراسة أن الولاياتالمتحدة لم تتخل مع ذلك عن مطمحها للإبقاء على هذه السيادة قدر المستطاع، لكنها لم تعد قادرة، كما كان الشأن من قبل، على إملاء إرادتها، إما بإغداقها الأموال أو عن طريق التدخل العسكري كما هو الشأن في أفغانستان. ذلك أن هذه الشعوب أصبحت تواقة إلى العدالة، إلى الحرية، وإلى النماء الاقتصادي. هكذا بدأت هذه السيادة في فقدان زخمها بعد الإنهاك، الذي أصابها وحلفاءها من الطغاة. وتقدم هذه الدراسة قراءة مغايرة للتأويلات السائدة عن انبثاق الثورات العربية، سواء في شقها السياسي أو في أساليب ترويجها باستعمال ال«فايسبوك» وال«تويتر» والمدونات وشبكات التواصل الاجتماعي. وقد تمحور البحث حول 7 أسئلة رئيسية: يهم السؤال الأول طبيعة هذه الثورات: ما هي أوجه ونقاط التقائها مع ثورات حديثة أخرى؟ ما هي مميزاتها ومداها في الإطار السياسي والاقتصادي الراهن؟. فيما يطرح السؤال الثاني مسألة دلالة وطرق استعمال ال«تويتر» وال«فايسبوك»، في الوقت الذي تسربت آلاف الصفحات على الإنترنت بأن الثورات العربية لا تعدو كونها محصلة لمؤامرة أمريكية. يقف السؤال الثالث عند أسباب هذه الدعاية، موضحا أن الاستراتيجية الأمريكية تتأقلم مع الوضع الجديد للحفاظ على ديمومة هيمنتها. أما السؤال الرابع فيتساءل عن الدور الذي لعبه مختلف الفاعلين الاجتماعيين في التعجيل بسقوط الديكتاتوريات وخاصة منهم العسكر. وينصب السؤال الخامس على دور النساء، إسلاميات أو لائكيات، قرويات أو من الحضر، اللائي ظهرن بأعداد غفيرة في المظاهرات. في حين طرح السؤال السادس دور وموقع الشباب، الذين يوجدون في قلب الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي كانت وراء اندلاع الثورات. أما السؤال السابع فيدور حول الإشكالية التالية: هل تتجه ثورات الربيع العربي نحو أفق لائكي أم إسلامي؟
هل من عودة للإسلاميين؟ براعم هذه الأحداث بدأت في التفتح ولا أحد بمقدوره التكهن بالغلة التي ستنتجها هذه الأحداث. فقد رأينا السلفيين في تونس يخرجون بقوة إلى الشوارع للدعوة إلى قيام دولة إسلامية على خلفية عرض قناة «نسمة» للفيلم الكارتوني «بيرسيبوليس» للمخرجة الإيرانية مرجان ساترابي. لكن التشكيلات الإسلامية ليست بجسم موحد ومتجانس. المهم أن الأطروحة القائلة ب«عودة الإسلاميين» لم تستنفد زخمها النظري، على النقيض مما قيل سابقا، وبالأخص في التسعينيات، بأن الإسلام السياسي انهزم. وهذا ما أكد عليه الباحث أوليفييه روا حين أشار إلى أن دخول العالم العربي مرحلة ما بعد الاستعمار هزيمة للإسلام السياسي، بمعنى بناء دولة إسلامية بإمكانها التحكم في المجتمع تبعا لمبادئ إسلامية. وقد صفق هؤلاء الباحثون المابعد-إسلاميين للربيع العربي كانتصار لأطروحاتهم، على اعتبار أنها «ثورة ما بعد إسلامية»، فالمنظمات الإسلامية لم تقم، في نظرهم، إلا بدور ثانوي في الانتفاضة ضد الأنظمة الديكتاتورية. يجب الإقرار بأن الأطروحة ما-بعد إسلامية مغرية نسبيا، وخاصة في مسألة إعادة النظر في النظرة المركزية عن المجتمعات المدنية العربية. كما أنها توفر زوايا جديدة لمقاربة الثلاثي: إسلام-دولة- مجتمع. غير أنها تسجن بسرعة فائقة الإسلام السياسي بين قوسين من حديد، بتوصيفها عناصر ثانوية وتركيزها على تفسخ المنظمات الإسلاموية من حركات، أحزاب، جمعيات، وانهزامها على المستوى السياسي والانتخابي. «غير أن الإسلاموية لا تندرج حصريا في الزمن السياسي والانتخابي، بل في زمن أكثر ديمومة، زمن يحمل ديناميات لا يمكن أن تختفي بالقمع أو التطبيع أو الاندماج الجزئي في اللعبة السياسية»، كما أشار إلى ذلك الباحث فرانسوا بيرغا في مقابلة مع صحيفة «لوسوار» البلجيكية.