عجيب أن يطالب القطاع الخاص مقابل ضمان السلم الاجتماعي، أي التوظيفات، بتخفيضات في نسب الضرائب المفروضة عليه وبتحمل الدولة تكاليف إعادة تأهيل الشباب العاطل. وهنا أيضا يبرز عدم الجدية في خطاب القطاع الخاص، إذ إن الأخير يستفيد من التخفيضات الضريبية دون أن يدمج حاملي الشهادات، ذلك أنه لا يحتضن الشباب المعطل إلا لمدة زمنية قصيرة، أي المدة التي لن تلزمه بالإدماج الفعلي والنهائي للمعطل ليجد الأخير نفسه مرة أخرى في الشارع، بل أكثر من ذلك أن عدم جدية القطاع الخاص في الالتزام هو ما يجعل الشاب ينفر من الانضمام إليه لتترسخ في ذهنه أكثر فأكثر ضرورة العمل في القطاع العمومي لكونه حقا دستوريا. ويجب على الشاب أن يعلم بأن التشغيل في القطاع الخاص هو أيضا حق دستوري وجب الدفاع عنه. والدستور واضح في هذا المجال، إذ يقر بحق المواطن في الشغل بصفة عامة، والصفة العامة تعني ضمن كلا القطاعين، سواء العمومي أو الخاص. وقصد التمويه، فالقطاع الخاص يشغل نسبة محددة من المعطلين لمدة قصيرة ليرجعها من حيث أتت، أي نحو الشارع، ليستقطب فوجا آخر بنفس الطريقة لإيهام الرأي العام بأنه يقوم بدوره في إنعاش التشغيل وليستمر بالتالي في الاستفادة من التحفيزات الضريبية. وجب على القطاع الخاص، بما أنه يطالب على لسان رئيسة جمعية المقاولات المغربيات، بضرورة دسترة الليبرالية الاقتصادية، أن يلعب دوره وفق هذا المنظور الذي يجعل من القطاع الخاص القاطرة الفعلية لنمو اقتصاد البلاد، ليظل القطاع العمومي مقتصرا على بعض الجوانب الاجتماعية وإعداد الترسانة القانونية لضمان اشتغال السوق وفق آليات الأخير، مع ضمان حماية البلاد التي هو جزء منها. فعلا، هل بإمكان القطاع الخاص تقييم ثمن اشتغاله في مناخ متسم بالاستقرار والسلم الاجتماعي الذي تسهر عليه الدولة وكم يكلفها؟ كما أن القطاع الخاص المعصرن لا يمكن اعتباره قطاعا يشتغل في إطار الشفافية ووفقا لآليات السوق، فهو أيضا يتميز بالقرابة والزبونية والتملص الضرائبي واستغلال النفوذ، خصوصا عندما يتمكن بعض المقاولين من المزج بين السلطة والأعمال؛ وهذا أمر يطرح عدة تساؤلات، إذ كيف يعقل أن يكون للفيدرالية العامة للمقاولين المغاربة وزن وتأثير بليغ على الفعاليات الحكومية بالمقارنة مع مجموع النقابات الأكثر تمثيلية في المغرب وهيئات حماية المستهلك ولجن مكافحة الغش وتوصيات المجلس الأعلى للمنافسة...؟ لا مجال للشرح لكون الأمر بيِّنا جدا. وجب أن نعترف بأن بلادنا لا تتوفر على قطاع خاص كما هو متوفر لدى الدول المتقدمة، ولكننا نتوفر على قطاع خاص مشكل من بعض العائلات تتقاسم القطاعات الاقتصادية الحيوية في ما بينها، وتشتغل في مناخ اقتصادي متميز باحتكارات قطاعية من جراء تمكنها من المزج والجمع بين السلطة والاقتصاد. وهذا المنحى يتناقض، خطابا ومضمونا وممارسة، مع الطابع الذي يجب أن يتميز به القطاع الخاص. لن نتوفر على قطاع خاص، وطني الممارسات، إلا بالتنزيل الفعلي لمقتضيات دستور فاتح يوليوز 2011. كيف لنا أن نتحدث عن وجود قطاع خاص في المغرب في وقت نلمس فيه أنه كلما هبت رياح أزمة أو ضائقة إلا وتراه متراجعا إلى الوراء مستترا وملتزما الصمت، تاركا الدولة في الواجهة لتتحمل بمفردها مسؤولية الأزمة ولتفكر بمفردها كذلك في إيجاد حلول لتخطي الأزمة. ليس هذا بالسبيل القويم، بل هو سبيل الانتهازية وعدم الوطنية وعدم الإرادة للمساهمة، إلى جانب القطاع العمومي، في تخطي معضلة تهم الجميع. فإذا كان القطاع الخاص لا يتوفر على إمكانية ابتكار أفكار تؤهله للارتقاء بالاقتصاد الوطني، فعليه أن يستلهم أفكاره من مبادرات ملك البلاد، ذلك أنه إذا كان القطاع الخاص يحتمي وراء «حدوثة» عدم توافق الشواهد المحصل عليها من طرف الشباب المغربي ومتطلبات السوق المغربية، فلماذا لا يقوم هو بإنشاء مشاتل داخل مقاولته لتكوين وتأهيل وضمان توفير نوعية الأطر والعمالة التي يرغب فيها. ولو كانت «الحدوثة» المشار إليها موضوعية وواقعية، فكيف يمكن لقطاعنا الخاص أن يفسر هجرة الأدمغة التي تلقت تكوينها في المغرب وتمكنت من التألق وفرض نفسها في الاقتصادات الأجنبية؟ إنها بالفعل «حدوثة» لا يجب على الشاب المغربي تحمل تبعاتها، ذلك أن الشاب المغربي منذ ولادته وهو يتابع تكوينه وتأهيله وفق مناهج تربوية وتكوينية تم إعدادها من طرف خبراء مغاربة وأجانب لتبرز لنا أطر ذات تكوين إيجابي؛ وبالتالي فإنه لا يعقل ولا يليق أن يتحمل الشاب المغربي العاطل سلبيات هذه «الحدوثة» المفتعلة والتي لا أساس لها من الصحة. فإذا كان عدم توافق الشواهد المحصل عليها مع حاجيات السوق أمرا حاصلا، فهذا يعني مسألة واحدة، لا ثانية لها، تكمن في كون الساهرين على إعداد المناهج التربوية والتكوينية والتأهيلية لا يتخذون من متطلبات رقي الاقتصاد المغربي وحاجيات السوق أرضية لصياغة هذه المناهج. وأعتقد أنه وجب تقويم منظومة التربية والتكوين والتأهيل من خلال جعل المؤسسات التعليمية مجالات للتعلم وإغناء الفكر، وفي نفس الوقت مجالات تمكن من اكتساب مهارات مهنية وظيفية تؤهل أبناء هذا الوطن، بعد تجاوزهم السلك الإعدادي والثانوي، للخضوع لتكوين نظري وتأهيل مهني في نفس الوقت؛ وعند حصوله على شهادة الباكلوريا يكون بإمكانه اختيار الوجهة التي يجد نفسه فيها، فإما أن يستمر في مراكمة الزاد الفكري والكفايات العلمية التي تسمح له بعد ذلك بولوج الجامعات والمعاهد التي يرغب فيها، وإما أن يتوجه إلى سوق العمل بعد أن يكون قد اكتسب، لمدة سبع سنوات قضاها في الإعدادي ثم الثانوي، خبرة تمكنه من التوجه إما نحو المعاهد التطبيقية قصد تعميق تكوينه المهني أو اللجوء إلى سوق العمل أو محاولة المزج بين السبيلين. وعليه، فالمؤسسات الإعدادية والثانوية وجب التفكير بل الإسراع في إعادة النظر في هندستها من خلال احتضانها، علاوة على أقسام التكوين النظري الحالي، وإنجاز جناح خاص بأوراش ومشاتل يتلقى فيها التلميذ مبكرا وتدريجيا تكوينا مهنيا يتماشى ومتطلبات سوق العمل. وبنجاح هذه التجربة، ستغيب «حدوثة» عدم ملاءمة الشواهد المحصل عليها لمتطلبات سوق العمل. إلا أن نجاحها يستلزم من القطاعين العام والخاص العمل سويا من خلال تكفل القطاع العام أو الحكومة بإعداد مناهج ومضامين تربوية تتماشى ومستلزمات الاقتصاد الوطني، في حين يتكفل القطاع الخاص بإعداد المشاتل والأوراش التكوينية داخل المؤسسات وفقا لما يراه هذا القطاع مواكبا لمتطلباته. علاوة على هذا التوجه، وجب علينا، كمجتمع مدني وكآباء وأمهات، أن نساهم في إنجاح هذا التوجه من خلال إيماننا بكون التربية تبدأ من المنزل، بمعنى أنه وجب علينا منذ السنوات الأولى لأبنائنا وبناتنا خلق محفزات ذاتية لديهم تدفعهم مستقبلا نحو إنشاء مقاولاتهم، أولا لضمان استقلاليتهم ولكي لا يضطروا إلى طرق باب القطاع العام ولا باب القطاع الخاص؛ ثانيا، هذا التوجه في التربية سيمكن أبناءنا تدريجيا من إدراك أنه لا علاقة أوتوماتيكية بين الحصول على شهادة والعمل في القطاع العمومي؛ ثالثا، ستترسخ لدى أبنائنا فكرة أنهم يتوجهون إلى المؤسسة التربوية والتعليمية قصد تنوير وإغناء فكرهم؛ رابعا، إذا تمكنا من النجاح في سلك هذا السبيل في تربية أبنائنا، سنكون قد نجحنا في جعلهم يجتهدون أكثر فأكثر لاكتساب المعلومات والتفوق حتى يكونوا قادرين على تفعيل ما راكموه من فكر في تدبير مقاولاتهم وحتى يكون الفاعلون الاقتصاديون هم من يطرقون بابهم قصد الاستفادة من مؤهلاتهم؛ خامسا، ضرورة العمل على محو مغالطة خطيرة مزروعة ولصيقة في فكر أبنائنا والمتمثلة في عزوفهم عن التربية والتكوين بدعوى أنها لا تفيد في شيء نظرا إلى البطالة التي يعاني منها إخوانهم وأخواتهم وما يشاهدونه ولا يستوعبون أبعاده وحيثياته في الشارع، فغالبا ما تسمع شابا يردد هذا القول: «لماذا يطلب مني التوجه إلى المدرسة أو الكلية وما يستلزم ذلك من مجهودات فكرية ومصاريف، إذا كانت البطالة هي ما ينتظرني في آخر المطاف». إنها بالفعل أفكار هدامة وخطيرة على أسرنا ووطننا، وبالتالي تجب علينا محاربتها بالتواصل المستمر بين آباء وأولياء التلاميذ في إطار جمعيات، سواء الجمعيات المدرسية أو جمعيات الحي... كي نبلغ هدفنا الوحيد المتمثل في إكساب العلم والمعرفة للأبناء باعتبار ذلك هو الأساس وأن العمل سيتوفر حتما، سواء في القطاع العام أو في القطاع الخاص أو في إطار المقاولة الشخصية. والعبرة يجب أن يأخذها أبناؤنا من أولئك المسنين الذين، بالرغم من سنهم المتقدم، يزدادون إقبالا على اكتساب المعرفة والتعلم في إطار محو الأمية، ليس من أجل التوظيف ولكن بهدف التعلم والتعلم فقط. إن هذا الخطاب الذي يدعي عدم ملاءمة الشواهد لمتطلبات السوق هو خطاب إقصائي وغير منطقي، وأعتقد أننا لا نسمعه إلا في أوساطنا، فوطننا كباقي الدول هو في حاجة إلى كل المؤهلات وإلى مجموع التخصصات العلمية والاقتصادية والقانونية والفنية والمهنية والدينية والأدبية واللغات والتاريخية والفلسفية وغيرها؛ وتشبث البعض بتلك «الحدوثة» إنما هو تشبث مجانب تماما للصواب وإقصاء دون أي سند يستوعبه العقل لمجال معين من التربية والتكوين والتاهيل، ذلك أن الفكر في وطن معين لا يقبل التجزئة أو الإقصاء، فالفكر في وطن معين إما أن يكون شاملا ومتكاملا أو لا يكون. انتهى/ حبيب عنون - باحث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية