ملوك الطوائف لم يغادروا إسبانيا بخروج أبي عبد الله الصغير باكيا، فشبه الجزيرة الإيبيرية باتت تعاني من كثرة ملوك الطوائف منذ مجيء الديمقراطية وإقرار الملكية الفيدرالية. ويعتقد بعض الإسبان أن كل رئيس حكومة إقليمية صار أشبه بأمير يحكم في منطقة نفوذه ويحاول منافسة رؤساء الأقاليم الأخرى، فعندما يدخل المرء إلى برشلونة، عاصمة كتالونيا، يجب عليه أن يصدق أنه في إمارة مستقلة لا يعاقب فيها المواطن الكتالاني في حالة وضعه خطين أسودين على العلم الوطني الإسباني على الجدران المحاذية للطرق السيارة للتعبير عن هويته المختلفة وإحساسه بسيطرة مدريد، وتخول له قوانين «الإمارة» حق الامتناع عن الكلام باللغة الإسبانية طيلة حياته، ومبايعة رئيس الإقليم خوسي مونتيا باعتباره الحاكم الأوحد لإمارة كتالونيا، لأنه لن يحتاج إلى الذهاب إلى مدريد يوما لاستخراج عقد ازدياد، مثلما يحصل في المغرب. عقلية ملوك الطوائف قد تقتل من العطش أحيانا، مثلما يحصل في كتالونيا التي يدق مسؤولوها ناقوس الخطر بقرب اختفاء الماء من البلاد، في الوقت الذي تخترق فيه منطقة أرغون القريبة منها انهار تكفي لكي يشرب سكان كتالونيا ويستحموا على رأس كل ثانية. يعتقد بعض الإسبان أنه بمجيء الديمقراطية تضخمت أحلام ملوك الطوائف الجدد، فرئيس حكومة كتالونيا السابق كان يحلم بأن تكون لكتالونيا تمثيلية دبلوماسية خاصة بها في المغرب، والرئيس الحالي خوسي مونتيا كان ينتظر أن يستقبله الملك محمد السادس باعتباره أشبه ب«رئيس دولة» عندما زار المغرب للتكلم في الاقتصاد والتلويح بإمكانية إيجاد حل لقضية الصحراء في برشلونة، كما أن مانويل تشافيز، رئيس حكومة الأندلس، يعتقد أنه الأحق بالوجود في المغرب اقتصاديا وسياسيا من غيره، سواء كانوا كتالانيين أو قشتاليين، فهو الجار الأقرب ثقافيا وجغرافيا، وفوق «إمارته» يعيش عدد كبير من المهاجرين الشرعيين والسريين المغاربة، كما تأتي الجثث المغربية للاصطياف فوق رمال شواطئه كلما صفا وجه السماء من الغيوم. عندما مات فرانكو يوم 20 نونبر 1975، كان خليفته خوان كارلوس يمتلك من الوعي السياسي والثقافي ما جعله يدرك بمعية السياسيين المنفتحين، سواء الذين كانوا محيطين به أو الموجودين في الضفة الأخرى مثل فيليبي غونزاليث، أن إسبانيا ليست هي فرنسا، فإذا كان الفرنسي يشعر بروح الانتماء تسري في عروقه عندما يصعد إلى برج إيفل ليطل على نهر السين، فإن تلك المشاعر الجياشة لا يجب أن تخالج بالضرورة الكتالاني أو الباسكي وهما يلتقطان صورة تذكارية أمام قصر المونكلوا بقلب مدريد، لذلك اختاروا أن تكون الجارة الشمالية ملكية فيدرالية، لكن الإسبان بدؤوا يشعرون مع الوقت بأن هذا النظام الديمقراطي المتقدم بعث روح ملوك الطوائف من رمادها، فعمدة أصغر بلدية في البلاد يمكن أن يشعر أحيانا بأنه سيد المكان الذي يحكمه، إنه يتملكه بكل ما أوتي من قوة، ويصارع من أجل مملكته الصغيرة، وآخرون يصنعون «إمبراطوريات صغيرة» في بعض أقسام الجامعات أو محطات التلفزيون والأحزاب السياسية، ولا يتورعون عن الدخول في حروب صغيرة أو كبيرة لصون تراث تركه أجدادهم العرب قبل أن يرحلوا.