أطفال وشباب من الجنسين. في عمر الزهور. ذاقوا قسوة الحياة في سن مبكّرة. كان السيرك بالنسبة إليهم إشراقة أمل أنقدتهم من التشرد والضياع وأعادت إليهم الكرامة والبسمة. لم تكن الحياة رحيمة بهم، فغادروا، مكرَهين، مقاعد الدراسة، لظروف قاهرة، مادية بالأساس. ومع خطوة ترك الدراسة، اجتازوا، قسرا، مرحلة عمرية اسمها «الطفولة». بات الشارع كل حياتهم، إلى درجة أن ملامحهم كانت تبدو أكبرَ من عمرهم بكثير، إلى أن أنقذهم السيرك وأعاد إليهم عروضه طفولتَهم المسلوبة... «المساء» تنقل لكم قصص أطفال يُمتِعون الناس بحركاتهم البهلوانية وعروضهم المثيرة ويُخفون في دواخلهم ثقلَ ماضٍ وذكريات ما تزال عالقة في أذهانهم، لم تمْحُها لا رقصات السّيرك ولا تصفيقات الجمهور. يحكون ل«المساء» كيف ولجوا عالم السيرك، الذي كانوا فقط يسمعون به ولم يحلموا، يوما، أن يحملوا مشعل «أبطال» بدؤوا حياتهم من الشارع، فأصبحوا «نجوم» الحفلات والسهرات. داخل خيمة كبيرة منصوبة أمام قصبة متآكلة الجدران، وكأنها أطلال من بقايا قصور الزمن الغابر، لم تُحْيِها سوى تموُّجات وحركات مثيرة لأطفالٍ أبرياءَ، وكأنهم يُهيّئون أنفسهم لتنظيم عرض فني. أطفال وشباب تعلّموا كيف يستثمرون معاناة سابقة لينتجوا صوراً فنية صامتة يُتحفون بها جماهيرَ السّيرك، حيث يعملون. يُجسّد هؤلاء الأطفال، بفرح ومرح، لوحات مرسومة بمداد ماضٍ حروفُه معاناة. يؤدّونها ببراعة، على إيقاعات موسيقى هادئة لا تخلو من إشارات إلى «مأساة» أطفال كان الشارع مأواهم الوحيد، فأصبح السيرك حياتَهم وسعادتهم.. يجمعهم هدف واحد: نسيان مأساة ومعاناة كانوا «أبطالها» في الماضي. فقد مروا من تجارب أليمة وجدوا في دوّامتِها أنفسَهم عرضة للضياع والتشرد وفضّلوا ولوج «مؤسسة» السيرك، التي غيّرت اسمها من جمعية لمساعدة الأطفال في وضعية غير مستقرة إلى «مدرسة وطنية لتعلُّم فنون السيرك». متشردة تصير «بطلة» قصة هاجر فريدة من نوعها. تحكي، ببراءة طفلة صغيرة عاشت في الشارع، بعد أن تخلَّى الأب عن الأسرة وامتنع عن تحمُّل مصاريف البيت والأبناء. اختارت هاجر، بإصرار، رغم صغر سنها، البقاء مع أمها، مبدية استعدادا عزّ نظيرُه عن التضحية بكل شيء من أجل البقاء في حضن أمها... كانت البداية مُشجِّعة، غير أن مرض السرطان سيفتك بالأم، لتصبح هاجر، على حين غفلة، يتيمة الأم. مات مُعيلُها الوحيد ولم تجد بديلا عن التسول. خطت، بذلك، أولى خطواتها على طريق التّشرُّد. عانت كثيرا إلى أن تحولت إلى إنسانة متجردة من كل المبادئ ورفعت شعارا «أقوى» منها بكثير: «التشرد والسرقة من أجل لقمة العيش»... تُجيد هاجر الحديث عن معاناتها وتسْرُد، بذكاء، قصتها بشكل يجعل مُخاطَبها يُصغي إليها دون ملل. كانت «محبوبةَ الجميع» في المدرسة. كان الكل يتعاطفون معها ويُقدِّرون وضعها. لم تكن هاجر تريد سرد حكايتها مع الشارع، لأنها تُذكّرها بحياة أُرغِمتْ على خوض تجاربها المريرة مُرغَمةً لا «بطلة»... بصوت خافت يكاد لا يُسمَع وعينَيْن تحملان الكثير من الأمل والرغبة في التّخلُّص من كل «الهُموم» التي كانت تُلاحقها. تقول، ببراءة: «أريد أن أنسى حياة الشارع والتّشرُّد والإدمان. فتح لي السيرك آفاقا واسعة.. بعد أن كنتُ أجوب الشوارع، متسكِّعة هائمة على وجهي، أقلعتُ عن كل السلوكات التي «أدمنتُ» عليها مع المتشردين، بعد أن لاحتْ أمامي هذه الفرصة المواتية للتخلُّص من الماضي». تصمتُ بُرهة، ثم تتابع: «بعد وفاة أمي، صرتُ أعيش وسط «الذئاب البشرية» الضالة في الشارع، وأصبحت أقتسم معهم «نشوة» السجائر والفراش، المُكوَّن من بقايا الأزبال. لم تكنْ سِنّي تتجاوز تسع سنوات، عندما وجدتُ نفسي في الجمعية، بعد حملة تمشيطية نفّذتْها دورية المساعدة الاجتماعية»، مؤكدة أن الإقلاع عن كل هذه السلوكات ليس بالأمر الهَيّن. استعادت، بحرقة شديدة، كيف كان المتشردون يعملون على استغلال ذكائها ليحصلوا على لقمة العيش. فقد كانت ذكية للغاية ولم تكن تعدم حيلة لتحصل على ما تريد. لم تكن تتردد في سرقة أصحاب المحلات التجارية، لأن رشاقتها و«خِفّتَها» كانتا تساعدانها على «الإفلات بجلدها»، دون أن يَتمكّن أحد من الإمساك بها. تذكّرتْ هاجر كيف كانت الفتيات المشردات يعشن تحت «رحمة» المدمنين، الذين يستغلونهنَّ جنسيا، تحث طائلة الضرب والجرح.. أوضحتْ أنها لم تتعرض لأي اعتداء من طرف هؤلاء، لسبب واحد هو أنها كانت تعطيهم من المال المسروق والسجائر، فأصبحوا «يحْمُونها» من أي اعتداء. أضافت، بحسرة موجعة، أنه كلّما لاحظتْ أن أحد «الشّْماكْريّة» ينوي «الإيقاعَ» بها في فخّ المعصية، تلوذ بالفرار، لأن «قانون» الشارع، يفرض على عيّنة من الناس أن «يتسلحوا» بكل الوسائل الممكنة. هاجر «الجديدة» جلستْ القرفصاء وتأمّلتْ، بعمق، قبل أن تتنهّد بشدة. تلعثمت في كلامها وتردّدتْ، قبل أن تقول: «وأنا في المدرسة الوطنية للسيرك، قمتُ ب«غسل» دماغي من كل «الشوائب» العاالتي كانتْ قد علِقتْ به.. من الذكريات «المُتّسِخة» وبدأتُ حياة جديدة، بمساعدة من حولي». أوضحتْ أنها، بعد ولوجها مدرسة السّيرك، صارتْ لا تُفكّر في حياة المدمنين ومغامرات الليالي، التي خلّفتْها وراءها. تغيرت حياتُها إلى الأفضل. بل إنها أصبحتْ، بين الفينة والأخرى، تُحْيي عددا من العروض داخل وخارج أرض الوطن. لقد فتحت لها المدرسة آفاقا لم تكن معها تتوقع، يوما، أنها ستخرج من عالم يُحوِّل الإنسان إلى «ذئب» يفترس أخاه أو «يقاتل» من أجل لقمة عيش تكفل له الاستمرار على قيد الحياة. لم تنس هاجر الحديث عن الصعوبات التي واجهْتها في تعلم فنون السيرك، لأن ذلك يحتاج إلى رشاقة وموهبة وإلى قدرة على التحكم في الجسد، وهي كلها مواصفات تتمتع بها هاجر، بشهادة الجميع. ولم تُغفِلْ، أيضا، الحديث عن جولاتها خارج المغرب وعن سفرها إلى فرنسا، قالت إنها قضت فيها 10 أيام، بعد تجربة تزيد على الخمس سنوات في مجال «فنون السيرك»، في سلا. رغم كون هاجر غادرت «عالمها» القديم، فإنها تقوم، بين الفينة والأخرى، بجولة قصيرة للقاء «صديقات الشارع». هدفها من مثل هذا المبادرات، كما تحكي، محاولةُ إنقاذهن من «حفرة» وقعْن فيها، بدوافع متعددة، من الفقر، إلى الإهمال، إلى تشرّد العائلة بعد حدوث طلاق أو لغير ذلك من الدواعي: «أنا محظوظة، رغم كل ما مررتُ منه وأريد أن أنصح الفتيات، اللواتي كنت أتقاسم معهن المعاناة، وأحاول أن أنقدهُنّ من الضياع».. صمتت لوهلة تم واصلتْ كلامَها: «للأسف، ضِيّعو شرفهومْ وتْخسّرو في وجوههومْ.. ما بقى عندهم والو»... من المسرح إلى السيرك لم تكن تجربة عتيقة (21 سنة) في مجال فنون السّيرك سوى من باب الفضول. كانت تعشق المسرح وقدَّمتْ عددا من العروض. على أن ما زادها حبّا لفنون السيرك هو زوجها، الذي يتلقى، بدوره، دروسا في المدرسة منذ سنوات. قالت عتيقة: «ازداد حبي للسيرك بعد مشاهدتي عرض «إسْلي وتِسليتْ»، الذي قدمه «القراصنة»، وهو مستوحى من قصة أسطورية. «أعجبني، كثيرا، المزج بين المسرح والسيرك، فكانت تلك بدايةَ المشوار بالنسبة إلي»... تابعتْ أن زوجها ساعدها ولقّنها عددا من التقنيات التي أتاحتْ لها ولوج المدرسة الوطنية للسيرك في سلا. وبالفعل، فقد اختيرت من بين الناجحين الأوائل في السنة الماضية، موضحة أنها لم تشارك بعد في أي عروض، لكونها ما تزال مبتدئة. وتمنّتْ أن تكون محظوظة وتشارك في «قراصنة 2012»، الذي قالت عنه إنه سيكون في حلة جديدة، على غرار السنة الماضية، وسيحظى بمشاركة المتدربين الجدد. أريد أن أنسى حال فاطمة الزهراء هو حال الكثير من الأطفال والشباب الذين عاشوا تجارب اجتماعية صعبة في عمر الصبا. تقول إنها لم تختر فنون السيرك بل كان ذلك صدفة أو، ربما، «قدرَها». دخلت فاطمة الزهراء، البالغة من العمر 20 سنة، ميدان السيرك منذ حوالي 9 سنوات. كان ذلك بمجرد الصدفة، بعدما غادرت، مكرَهة، صفوف الدراسة.. لظروف اجتماعية قاهرة، كما حكتْ، لأنه لم يكن لدى والدها دخل قار يضمن لها به مواصلة مشوارها الدراسي، الذي انتهى قبل حتى أن يبدأ.. عجز الوالد عن توفير كل ما تتطلبه المدرسة من كتب وغيرها، فكانت الوجهة الجمعية المغربية لمساعدة الأطفال في وضعية غير مستقرة. هناك، تمكّنتْ من استئناف دراستها من جديد. قالت فاطمة الزهراء «إن السيرك شيء يثير الفضول، في الحقيقة.. «عالََم» لم نتعود عليه في المغرب، بل كنا نشاهد نكتفي بمشاهدة لوحاته وعُروضَه عبر القنوات الأجنبية». كما أضافت أن الجميل في هذه المدرسة هو مجانية التعلّم. كان طموح فاطمة الزهراء كبيرا عندما فتحت لها الجمعية أبواب الأمل وتمكّنت من متابعة دراستها، بل وجدت فرصة لملء «الفراغ» وتعلُّم مهارات جديدة قد تُتيح للمتعلم فرصا ثمينة. بابتسامتها الطفولية الهادئة، واصلت فاطمة الزهراء كلامها قائلة أنها مرتاحة جدا ولم تندم على ما عانت منه في صغرها، بعد أن فقدت أمها واستحال عليها العيشُ مع «زوجة» الأب، التي اعتبرتها امرأة غريبة عنها ولن تعوض، أبداً، حنان الأم... لم تتردد فاطمة الزهراء في القول إن سوق الشغل في مجال فنون السيرك ما يزال يطرح علامات استفهام كثيرة، خاصة أنه محدود جدا في المغرب عكس ما هو عليه الوضع في بقية دول العالم، باستثناء فرص الشغل في مجال الرياضة أو إمكانية المشاركة في بعض العروض والحفلات، بين الفينة والأخرى، وبالتالي فمن الصعب، من وِجْهة نظرها، أن يبنيّ الشخص مستقبله على هذا الفن، لأننا في بلد جد متأخر في هذا الجانب، بل أكثر من ذلك، فالدبلوم الذي يحصل عليه خِرّيجو مدرسة السيرك لن ينفع صاحبه كثيرا في سوق الشغل إلا إذا تعلق الأمر بمؤسسة ما تريد تدريس هذا الفن، وهي مؤسسات ما تزال قليلة جدا على الصعيد الوطني، تضيف فاطمة الزهراء. بتلقائية، قالت إنها لا تفكر حاليا في ولوج سوق الشغل، فالأهم بالنسبة إليها هو التعلم والدراسة وملء الفراغ وقضاء أوقات جميلة تمحي الذكريات السّيِّة، التي تختزلها لها ذاكرتُها عن طفولتها، مضيفة أن الجميل في مدرسة السيرك هو تعلُّم الاعتماد على والثقة في القدرات الذاتية والعمل الجماعي بين أطفال كان أغلبُهم يعيشون العزلة والوحدة والتفكّكَ الأسريّ.. فعلى الأقل، لم يعد مصطلحا التشرد والشارع لصيقيْن بأذهان الكثير من هؤلاء الصغار، ضحايا ظروفهم الاجتماعية القاهرة، تخْتِم محدثتُنا.
آفاق محدودة الحلم كبير والطموح أكبر.. بعد أن وجد كثير من الشباب كل أبواب المؤسسات التعليمية والتأهيلية موصَدة في وجوههم، بالنظر إلى ما تتطلبه من إمكانيات مادية لا تتوفّر لهم، في ظل الفقر وقلة ذات اليد... بهذه العبارة، بدأ رشيد كلامه، قبل أن يتحدث عن تجربته في المدرسة الوطنية لفنون السيرك، التي لم تعد تقبل، كما في السابق، جميعَ الفئات، حيث أصبح الولوج إليها يتم عبْر إجراء مباراة، يتمّ، بعدها، «انتقاء» العناصر التي تتوفر على مؤهلات بدنية تُمكِّنُهم من ولوج المؤسسة. وأضاف رشيد أن آفاق «فناني السيرك» محدودة جدا في بلادنا، لأن نظرة المجتمع إلى هذا الميدان تختصره في مجرد «تسلية» خلافَ ما هو معمولٌ به في البلدان «الأخرى»، التي تضع فنون السيرك، الرقص أو الغناء أو أي فن آخر في مرتبة واحدة، لذلك فخريج مدرسة السيرك سيواجه، في نظره، الكثير من الصعوبات وهو يلِجُ سوق الشغل. كما أوضح رشيد أنه غادر مقاعد الدراسة عند حدود السنة الثانية باكلوريا، وكان أن عرف أن مدرسة السيرك تقبل جميع المستويات، فقرر أن يُجرِّب حظه، بعد إجراء مباراة كان من بين المحظوظين الذين وُفِّقوا في اجتيازها بنجاح، ليجد نفسَه بين أسوار مدرسة فنون السيرك. غياب التأطير في المغرب بدوره، تحدث أحد المدربين في المدرسة الوطنية للسيرك في سلا عن تجربته في فنون السيرك، مؤكدا أن المُؤطِّر لا يتوفر على جميع الإمكانيات التي قد تتيح له فرص تعلُّم تقنيات عالية إضافية في هذا المجال، لأن أغلب المؤطرين الذين يشتغلون في مدرسة السيرك هم متخصصون، بالدرجة الأولى، في رياضة ال«جيم ناستيك»، كما سمّاها. وأضاف المدرب في مدرسة السيرك أن هذه الرياضة تُشكّل، بدورها، قاعدة أساسية في فنون السيرك، لكنْ ما تزال هناك تقنيات أخرى، كثيرة، تدخل في مجال فنون السيرك تفتقر إليها المدرسة، باستثناء بعض الدورات التكوينية، التي يشرف عليها عدد من المؤطرين الأجانب، الذين يتعاونون مع المدرسة في هذا الباب لفائدة المدربين والمتدربين معا، لكن هذه الدورات والأنشطة تبقى غير كافية، في نظر هذا المؤطِّر في درب تحسين أداء المدرسة وكفاءات مُتخرِّجيها. ثلاثة آلاف درهم أفادت أطراف التقتْها «المساء» أن المدربين الذين يشتغلون في المدرسة الوطنية للسيرك، خاصة المبتدئين منهم، يتقاضون أجرا شهريا لا يتعدى ثلاثة آلاف درهم، ويشتغلون بعقود محدودة، وبالنسبة إلى «المحترفين»، والذين كانوا في السابق أساتذة التربية البدنية وليسوا متخصصين في فنون السيرك، بمفهومه الحقيقي، لأن مؤسسات متخصصة في تدريس فنون السيرك غير متوفرة في المغرب، تتراوح أجورهم الشهرية ما بين 4 آلاف و6 آلاف درهم، حسب مستوى كل واحد منهم وتجربته. كما أضاف بعض المدربين أن أغلب الأساتذة في مجال الرياضة لا يتوفرون على عمل قار، فوجد بعضهم فرصة عمل مؤقتة، حسب المدة المحددة في العقد، في تأطير الشباب داخل المدرسة الوطنية للسيرك، التي تبقى تجربة فريدة في المغرب.