اتخذ الشاعر السوري الصديق نزيه أبو عفش موقفا من الانتفاضة السورية، لخصه (وأرجو أنني لا أختزل تفكيره هنا، ولا أنتقص من عناصره) في هذه العبارة: «لماذا تطلبون مني أن أكون سعيدا؟ البيت كله يوشك أن يتهدم فوق رؤوس ساكنيه، وأنتم تختصمون على مَنْ يحق له أن يحمل المفاتيح». وليس غبنا لمعنى هذه الجملة، أو لواحد من أبرز معانيها، أن يفهم المرء هذا المدلول البسيط: هو صراع حول ملكية البيت وهوية حاملي المفاتيح، أكثر مما هو انتفاضة حول ماضي البيت وحاضره ومستقبله وحول نمطين، على الأقل، من ساكنيه: واحد يراه بيتا للجميع تتساوى فيه حقوق المواطنين وواجباتهم، وآخر يراه مزرعة للنهب والفساد والاستعباد... ليس غبنا، كذلك، أن يشكل الموقف مفاجأة صاعقة ومحزنة تماما، ومثيرة للأسى وبعض السخط والكثير من العتب؛ إذ يصدر عن شاعر لم نعرف عنه ممالأة لاستبداد أو استهانة بالكرامة الإنسانية أو تسليما بالأمر الواقع الذي يفرضه طاغية وتشرعه طغمة وتسنده عصابة. وحتى حين اتخذ أبو عفش موقفا سابقا، مدهشا بدوره، إزاء انسحاب قوات النظام السوري من لبنان، ربيع 2005، وتمثل في مقالته الشهيرة «يوميات العار»، فإن حوافز أبو عفش لم تكن تدافع عن النظام السوري رغم أنها كانت تنقل المياه إلى طواحينه بذرائع يكتنفها الالتباس والإبهام، ولا تتفادى تماما الوقوع في قسط من المثلبة ذاتها (الفخار القومي أو القومجي بالأحرى) التي تتنطح لمساجلتها. كان صديقنا ينتصر ل«العرق السوري»، و«عظام يوسف الخال ودماء كمال خير بك»، و«أشلاء وغصّات ودماء الجنود السوريين الذين ماتوا» دفاعا عن لبنان، ضد «عنصرية الضمير والعقل»، و«أبلغ الصيحات العنصرية وأشدها دموية وسفاهة وسعار عقل» لدى عدد من كتاب ومثقفي لبنان. شخصيا، ومن موقع تثميني العالي لمكانة أبو عفش في المشهد الشعري العربي، وليس السوري وحده، لم يصدمني موقفه من الانتفاضة (رغم أنني كنت، وأظل، في عداد المندهشين من، والعاتبين على، والمخالفين تماما لذلك الموقف الركيك والاختزالي)، فهذا حق مشروع له، بقدر ما راعني تصريف الموقف ذاته إلى قصائد وشذرات شعرية كانت تضيف الإهانة إلى الجرح، كما أجيز لنفسي القول. وكنت وأظل أظن أن على طراز الشعر الذي يكتبه أمثال أبو عفش أن يتأنى طويلا وأن يحفر ويتشرب ويختزن ويختمر أطول فأطول، قبل أن تولد قصيدة تخص انتفاضة شعبية عارمة، في أسابيعها الأولى، تنفتح على مآلات معقدة ليست البتة مرشحة لاستيلاد خواتيم سريعة، مرئية، مبسطة أو قابلة لأي تبسيط. وهكذا قرأت، ليس من دون مرارة وتوجس، قصيدة أبو عفش «ربيع المآتم»، التي نشرها أواسط أبريل الماضي، وفي مطلعها: «نعم، أعرفُ أن نيسان أقسى الشهور/ لكنْ، يا الله/ إنْ كنتَ تعرف ذلك أيضا/ فلماذا أوفدتَ كلّ هذه الأزهار إلى وليمته؟». جرعة إضافية من التشاؤم يحملها المقطع الثاني: «نطلّ على الربيع/ كمنْ يطلّ على سرادق مأتم/ كأنما لا أحد يعرف طريقا إلى عرس!/ الأزهار كلها محمولة إلى مقابر موتى:/ حمراءُ موتى. صفراءُ موتى. بيضاءُ موتى. ذبائحُ موتى/ الحياة كلها ماشية خلف نعوش موتى/ يا إلهي! خلف جنازة مَنْ/ يهرول هذا الربيع كله؟». أما المقطع الأخير فهو ذروة دراماتيكية، في يقيني، تنقل قصيدة أبو عفش إلى مصاف اللافتة التي ترفع شعارا مثلما تعلن نعوة: «افرحوا!/ افرحوا واطمئنوا!/ عمّا قريب/ كلّ هذه الأزهار/ ستغدو عتيقة وفاسدة/ تُرى، كم يتوجّب علينا أنْ ننتظر/ لنشهد ولادة ربيعٍ آخر؟». طرائق التأويل، وتلك التي تخص القارئ العريض بصفة خاصة، جبارة ومتجبرة في آن، ولعل سواي لا يرى في هذه القصيدة ما رأيته من تشاؤم إزاء ربيع (الثورات العربية، والانتفاضة السورية... أليس هو ذاك؟) مكتظ بالمآتم والمقابر والنعوش والجنازات، ولكن من دون بصيص أمل واحد من جهة، وضمن مساواة صاعقة لا تتمسّح حتى بالتسامح الميتافيزيقي المعتاد الذي يطبع مزاج أبو عفش، بين القتيل والقاتل، والضحية والجلاد، والمواطن الثائر والطاغية المستبد، من جهة ثانية. فإذا أجزتُ لنفسي تنزيه صديقي الشاعر عن ممالأة جرائم الفريق الثاني، فكيف أجيز له صمته عن عذابات الفريق الأوّل؟ وكيف، في مبتدأ الأمر ومنتهاه، يمكن لانتفاضة، يتقابل فيها الصدر المفتوح مع سبطانة الدبابة، أن تكون محض صراع على مفاتيح البيت؟ نتذكر ذلك السجال الكبير، والخطير، الذي دشّنه الفيلسوف الألماني اليهودي تيودور أدورنو، ذات يوم، حين أطلق عبارته الرهيبة «كتابة الشعر بعد أوشفتز أمر بربري»، حول ما إذا كان الشر المطلق يفرض قيودا على الفن المسلح بالوجدان أو المتكئ على الضمير؛ فهل كان ربيع الانتفاضة قاسيا في نظر أبو عفش إلى درجة التسبب في احتباس القصيدة وعزوف الشاعر عن كتابتها، كما يشير صمته المطبق طيلة أسابيع؟ أم، كما يساورني الأمل شخصيا، كان جز حنجرة الزجال الحموي إبراهيم القاشوش، أو تكسير أصابع رسام الكاريكاتير علي فرزات، أو الاعتداء الوحشي على والدة ووالد الموسيقي مالك جندلي... كفيلا بإقناع أبو عفش بأن «الخصومة» لا تدور حول امتلاك المفاتيح، بل هي انتفاضة من أجل استرداد الحق في الصوت والتعبير والإبداع والكرامة؟