هؤلاء شخوص «الحكاية» الأخرى. رجال ونساء وأطفال ما يزالون على قيد حياة متعبة، بأنصاف أجساد وأطراف مبتورة وذاكرات فيها ثقب أسود يذكّره بمأساتهم المشتركة، بحدث انفجار دام لحظات فغيّر مصائرَهم. صعب على بعض ضحايا الألغام في الصحراء المغربية القدوم إلى مقر الجمعية في السمارة. الطريق إلى هنا مضنية بسبب الإعاقة والفقر وبعد المسافة. نساء أرامل وبنات يتيمات زرن، لأول مرة، مقر جمعية ضحايا الألغام والتقوا، لأول مرة، صحافيا قادما من «الداخل». بدا على حديثهم تأثر بالغ. انطلق بعضهم يسترجعون شريط ذلك الانفجار بأسى وتحسر، نسوة غالبهن البكاء وهُنّ يتذكرن آخر ابتسامات علقت بأوجه أزواجهن قبل أن ينفجر فيهم اللغم. توالى السرد وتابعت التنهدات. احتبست الكلمات في الحناجر، تارة، وانهمرت دموع من الجفون تارة أخرى.. فجأة، يُسمَع صوت الباب بشدة، بسبب رياح. انتفضوا جميعا، وجِلين، بعدما ذكّرهم ذلك الدويّ بالانفجار الذي غيّر حياتهم. سُمِع الصوت بقوة مرة أخرى. انتفضوا، من جديد، مرعوبين. ينتابهم الشعور ذاته منذ ذلك اليوم، يوم اهتزّ بهم اللغم. يسرد ضحايا الألغام ل»المساء» تراجيديا معاناتهم وتفاصيل حكايات رحلاتهم من الصحراء إلى الوكالة القضائية للمملكة، الموكول إليها صرف تعويضاتهم.. لنستمع إليهم. معطوبو حرب الألغام محمد الميري، رجل لم يبق منه إلا عين واحدة وأنصاف يدين ورجلين منهكتين وجسد خائر... كان أول من سرد ل«المساء» قصته مع «المينا»، أي اللغم. «كان ذلك في الرابع من فبراير من سنة 1983، عندما كنتُ، رفقة أخي، في مكان ما بين طنطان والسمارة، في جماعة «بطيح»، تحديدا. كنت أبلغ من العمر سبع سنوات، بينما كان عمر أخي خمس سنوات. كنا نجمع علب الحليب والسمك لكي نلهو بها. وجدنا وعاء، شرعنا نفتحه حتى انفجر بين أيدينا.. قُطعت يدي وأصبت في الركبة والعين، بينما أصيب أخي في وجهه وعينيه». ما يزال الميري يتذكر الكولونيل السالك بن الفيطح، الذي حل فور الحادث على متن سيارة للقوات المسلحة الملكية بالمكان، بعدما رأوا دخانا كثيفا. «نقلونا على وجه السرعة إلى المستشفى الإقليمي في طانطان. ونظرا إلى كون حالتنا كانت خطرة، فقد نقلونا إلى مستشفى الحسن الثاني في أكادير، حيث قضينا سبعة أشهر. تعافى أخي وأحالوني إلى مستشفى الأطفال ابن سينا في الرباط»، يستطرد الميري. ظل الميري يروي بقية حكايته بعد الحادث، وبعدما تكفّل به شخص يشتغل في التعاون الوطني ومكث عنده إلى أن أجرى العملية في الرباط. روى تفاصيل مراسلات عائلته العديدة لمؤسسات كثيرة، من بينها جمعية للا حسناء الخاصة بالمعاقين، وتنقلاته طيلة سنين بين المستشفيات... آخر ما قام به مراسلة هو الوسيط والمجلس الوطني لحقوق الإنسان ووزارات أخرى، لم تُعِر اهتماما لرسائله ولم ترُدّ عليها، باستثناء وزارة المالية، التي وصله منها رد أوضحت فيه أنه لا يمكن أن يحصل على تعويض على اعتبار أن إصابته بلغم مر عليها زمن.. لا جديد... اليوم، يزاول الميري الفن التشكيلي ويحصل على دراهم مقابل مشاركته في سباقات لألعاب القوى، لكنه ما يزال متعلقا بحلم الحصول على تعويض، «مستعدين نموتو ونْضحّو، لأن الحالة مزرية، وحتى والداي رفضاني لأنني عالة.. حتى برويطة ما نقدر نْهزّها»، يقول ميري، بحسرة. لخميس حمادي، رجل آخر بنصف رجل مفقودة. كان أخفهم ظلا، وأكثر وجلا كلما سمع دوي صوت الباب، فلقاء هذا الخريبكي ذي الخمسين عاما مع «المينا» كان مجرد صدفة. حدث ذلك قبل سنوات، في سنة 1993. «انتقلتُ إلى هنا لأنني عشقت الصحراء. كنت أرعى الغنم وألتقط أعواد التدفئة رفقة صديقي الصحراوي في منطقة «وادي العنكة»، على بعد 41 كيلومترا من مدينة السمارة في اتجاه العيون، عندما تفجرت بنا السيارة ودمّرت وأصبت في رجلي. صرفتُ عليها 35 مليون سنتيم، قبل أن أبترها»، يقول حمادي. يحكي حمادي أنه أصيب بعد انفجار لغم في التاسعة صباحا. لم يحُلَّ رجال الدرك بمكان الحادث إلا في التاسعة ليلا.. ليُنقل حمادي إلى المستشفى. وإذا كان انتظار حمادي نجدة قد دام ساعات، فإن انتظاره تعويضاً دام سنين، دون أن يحصل عليه. «عندما ذهبت إلى الوكالة القضائية، سألوني: ماذا كنت تفعل في الصحراء؟ وبعد ذهاب وإياب، سألني أحد الموظفين: «واش عندك جدّاكْ في العرس؟».. أي أن الأمر لن يسوى بدون «واسطة». منذ ذلك الحين، لم أزر الوكالة القضائية. لدي الآن أولاد أتكفل بهم، والمحسنون هم الذين يتكفلون بي، كما يلزمني الآن مبلغ 40 ألف درهم لإزالة عظم في الركبة»، يردف حمادي. جر حادث انفجار اللغم على حمادي مشكل التصادم مع رجال الدرك، فبعدما راسل، ذات مرة، الأميرة للا مريم مناشدا إياها التدخل في ملفه، حل بمنزله رجال درك وحققوا معه بسبب هذه المراسلة، هو الآن ممنوع، كما يقول، من زيارة العمالة: «يطردني الكاتب العام كأنني أطلب وجبة عشاء»، يستطرد، بنبرة هازئة. فتح أحمد الوعبان، أمين المال الحالي للجمعية، بدوره، ل«المساء» «كتاب» معاناته، الذي كتب سطرَه الأول عندما كان عمره لا يتجاوز العشر سنوات: «في سنة 1987، كنت رفقة أخي نرعى في منطقة «بوجريح»، على بعد 150 كيلومترا من السمارة، عندما وجدنا إناء حديديا، ظللنا نلعب به حتى انفجر. توفي أخي المحجوب، الذي كان يكبرني، على الفور ونُقِلت، أنا، إلى مستشفى طانطان. أجريت عملية جراحية بسبب الحادث في بلجيكا دفع تكاليفَها والدي ومحسنون»، يقول الوعبان. منذ ذلك الحين والوعبان يعيش بيد مبتورة. ومنذ 1989، وهو يقتفي أثر تعويض لم يظهر له أثر بعدُ: «بدأ التعويض هذه السنة، لكنهم اشترطوا علي محضرا بالحادثة، لا أتوفر عليه. أنجزت شهادة عدلية، لكنْ دون أن يتحرك الملف. لم أنجز المحضر، لأنه لم يكن متاحا التبليغ بسبب الحرب التي كانت دائرة آنذاك. تتعامل الإدارة بالوثائق أو ب«الوساطة».. يقولون «غير اللي ناضْت بيه بوطا يقول المينْ»، يردف الوعبان. أرامل أشبال الحسن الثاني كانت النسوة يتابعن الحديث بتحسّر بالغ. جاء دور النها حنيني للحديث. هي أرملة مولاي الساعدي، الذي توفي بعد انفجار لغم في ماي من سنة 2000 في منطقة «الحوزة»، التي زارتها «المساء»: «كان زوجي بمفرده على متن سيارة دفع رباعي عندما مر فوق لغم وانفجر فيه. توفي على الفور. أنجزْنا محضرا وتلقينا تعويضا بعد خمسة أعوام... كان تعويضا ضئيلا قُسِّم، في الميراث، داخل الوكالة القضائية في الرباط قبل أن نتوصل به»، تقول النها، قبل أن يقاطعها أحد الضحايا، موضحا أن الوكالة القضائية تطلب من ضحية اللغم، الذي ما يزال حيا، إنجاز خبرة طبية، أما إذا توفي فإنها تُقِرّ تعويضا يقسم حسب الميراث. للنها من زوجها المتوفي ابن يبلغ من العمر الآن 12 سنة. هي التي تكفلت به، فقد صُرِف تعويض الوكالة القضائية، الهزيل، بسرعة، كما توضح. خديجة لكحل، امرأة أخرى ترمّلت بعد وفاة زوجها إثر انفجار لغم، سنة بعد وفاة زوج النها حنيني، أي في 2001. كان اسم زوجها، محمد الحماوي، أحد الموظفين المنتمين إلى ما سمي أشبال الحسن الثاني، الذين وظّفهم الملك الراحل في الجهة الجنوبية. «في يوم الأحد، وكان يومَ عطلته، انتقل زوجي رفقة أصدقاء له إلى مكان يبعد عن السمارة ب12 كيلومترا لمشاهدة عملية ولادة ناقة. كان على محياه فرح عند رأيتُه آخر مرة. في الطريق، انفجر فيه لغم فتوفي، تاركا لي ابنا. منذ ذلك الحين، وأنا أنتقل إلى الرباط وأراسل الجميع، دون جدوى. رفضتُ الزواج، من أجل ابني البالغ من العمر 16 سنة الآن»، قالت خديجة، قبل أن تغالب دموعها وتكمل: «لم نتلق ولو تعزية، رغم أنه كان ضمن أشبال الحسن الثاني.. حْنا، صحاب الألغام، ضايْعين. المنازل والتعويضات تخصص لأشخاص آخرين. الأرامل مْهمّشاتْ وولاد البورجوا مْهلّيينْ فيهومْ. دعينا الله لي دايرين الألغام ودوروهومْ بْمدينتنا»... تعذر على عايشة القدوري، إحدى ضحايا الألغام، لقاء «المساء». حلّت ابنتها لتروي تفاصيل معاناتها بدلها. جاءت هذه العائلة من «سيدي المختار»، في مراكش، سنة 1991، في إطار عملية تحديد الهوية، قصد تأكيد انتمائهم إلى الأقاليم الصحراوية. أقامت الأسرة في «مخيم الربيب»، الذي ما يزال منتصبا حتى اليوم في مدخل مدينة السمارة، من جهة طريق العيون. «في سنة 1992، انفجر لغم في المخيم وأصاب والدتي بجروح في البطن والرجل. جاءنا دركيون وحرّروا محضرا، ورغم ذلك، لم تُقِرَّ لنا الوكالة القضائية تعويضا. الآن، والدتي معاقة وليس لنا دخل»، تقول ابنة عايشة القدوري. في سنة 1986، أصيب محمد علي بلال، البالغ من العمر 37 سنة، بإصابات إثر انفجار لغم في منطقة «تويجرة»، على بعد سبعة كيلومترات عن مدينة العيون، بينما كان يتجول رفقة زملائه في السنة الخامسة ابتدائي، آنذاك. ما يزال يتذكر أصدقاءه بالاسم، ويتذكر سعيهم، الحثيث وراء تعويض، بعدما أضعف الحادث بصرهم وأضعف أجسادهم، «أعاني، منذ ذلك الحادث، ضعفا في الذاكرة، ولم تعد لي رغبة في الدراسة بعد ذلك»، يقول بلال في حديثه ل«المساء». الحل أو العودة إلى حمل السلاح الشيخ أحمد بليمام كان آخرَ المتحدثين. «شيخ» تذكر سنه (45 سنة) بعد جهد جهيد. كان أفصحَهم وأكثرهم إحاطة بملف الألغام في الصحراء، لأنه كان أولَ رئيس للجمعية. عينُه مفقوءة وإحدى رجليه مبتورة وفي الأخرى تشوهات، والسبب؟ لغم انفجر تحت قدميه وعمره لم يكن يتجاوز ال12. تحدث الشيخ أحمد ل«المساء» عن حلقات «مسلسل» سعي الضحايا وراء التعويض، «تقدمنا في البداية بطلبات انفرادية إلى هيأة الإنصاف والمصالحة قصد جبر الضرر، واستبشرنا خيرا بعدما عقدنا لقاء مع المرحوم إدريس بنزكري وخديجة الرويسي. قلنا لهما، بالحرف، إننا نتمنى أن نعيش فوق شوكة ولا نعيش في محنة مثل التي نعيشها اليوم... إلى حد الآن، لم يُطوَ هذا الملف، بينما طُويت عدة ملفات»، يقول الشيخ أحمد. بدا على الشيخ أحمد انفعال كبير، وهو يستطرد في رواية تفاصيل ملف ضحايا الألغام. الحاضرون يومّئون برؤوسهم، إيجابا. «يخلّف المشكل الصحي الناجم عن حادث اللغم مرضا نفسيا وحرمانا من التعويضات المادية والوظيفة ومن التغطية الصحية. هل نحن مواطنون أم لا؟».. يستفسر الشيخ أحمد، ويجيبه بوه البخاري، ابن أحد الضحايا، قائلا: «ليُجيبونا أو لنسكن في قارة أخرى»، ثم يستطرد الشيخ أحمد قائلا: «نريد حقنا فقط، عدا ذلك لا نريد شيئا، والحق يُنتزَع ولا يعطى. عشنا في زمن «الرق» ولم نتكلم. كنا إذا وضعنا رؤوسنا على الوسائد نستيقظ لأن البوليساريو كانوا يقصفوننا.. عْشناها حارة وخْرين كْلاوها باردة.. عْشنا عيشْة القملة في الراس.. عشنا أحرَّ من يوم شمس يوم القيامة»... بتأثر بالغ، وقد زادت نبرته حدة، بدأ الشيخ أحمد يصيح: «لا أحد يمنّ علينا، لأن كل شيء من الدول، وقد أنجزت الدولة إحصاء ولكن المسؤولين لم يقوموا بشيء. هناك ضحايا من الأقاليم الشمالية، بينهم تجار كانوا ينقلون السلع على طريق طانطانوالعيون. أصيبوا ولم يتمَّ تعويضهم». يحكي الشيخ أحمد أن الضحايا كانوا ينتقلون، يوميا، خلال سنة 2000، إلى الإقامة الملكية في المعمورة، في القنيطرة من أجل مقابلة الملك. «تبع» الضحايا الملك من الرباط حتى سيدي إفني، التي حل بها لتدشين مينائها. لم يظفروا بمقابلة الملك وفرصة بثه شكواهم، وهوة ما زاد ضحايا الألغام حسرة وزادهم «همّا على همّ». لكن الضحايا واصلوا الحراك، كما يقول الشيخ أحمد، «بعد تأسيس الجمعية، التقينا بممثل عن الصليب الأحمر في شمال إفريقيا سنة 2006، فضلا على أحمد حرزني، رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وخديجة الرويسي، عضو المجلس السابق، وأعطونا وعودا كاذبة. التقينا، أيضا، رئيسة منتدى نداء جنيف لضحايا الألغام، وهو اللقاء الذي حضره ضبّاط كبار في الجيش، ووضعناهم في الصورة». يردف الشيخ أحمد، وهو يكشف عن ساق عليها آثار حروق: «من 2005 و2011 لم يتحقق شيء، ولم يستفد الضحايا من شيء.. لا قطع أرضية ولا إنعاش ولا سكن.. آخر مرة اتصل بنا رئيس الجمعية، امهمد المخلوف، في ماي، وطلب منا كتابة طلبات لمؤسسة «لوسيك»، لكنْ دون رد. سلمت الحاجب الملكي بيدي رسالة ووعدني أن يسلمها لجلالة الملك وما زلنا ننتظر». عندها، انتفض الدخيل سيدي، أحد الضحايا، كان قد أصيب بلغم قرب مدينة السمارة، قائلا: «لم يعد بيدنا شيء سوى السلاح أو الإضراب عن الطعام، ليستطرد الشيخ أحمد قائلا: «ليست لدينا عمالة، هل هي إدارة أم ملك لشخص أم مقبرة؟ إذا كانت خاصة فيلعلقوا لافتة تشير إلى ذلك. هذه «السياسة» تنتهج ضد المواطن كي يكره بلده المغرب».