المغرب.. بلد السردين يتوفر المغرب على واجهتين بحريتين وعلى 3500 كلم من الامتداد الطولي للسواحل و22 ميناء صيد وما يقارب 400 شركة مرتبطة بتحويل الأسماك. ويعيش من قطاع الصيد البحري ما يفوق 8 ملايين مغربي يسكنون السواحل، ويعد موردا للرزق لأزيد من 500.000 فرد بطريقة مباشرة وغير مباشرة. ينتج المغرب سنويا أزيد من مليون طن من السمك، وهو الأول عربيا وإفريقيا، 70 في المائة منه تأتي من موانئ الجنوب وأزيد من 75 في المائة من مجموع المنتوج السمكي في المغرب هي من السمك السطحي الصغير، وأساسا من السردين الذي يعد الأجود عالميا. إلا أن قضايا القطاع ظلت هي نفسها لأزيد من عشرين سنة، وباتت الحكومة عاجزة اليوم على الحفاظ على فرص العمل والحد من استنزاف الثروة السمكية وتوفير السمك للمغاربة بأثمنة معقولة، وذلك رغم تدخلها مؤخرا من خلال خطة أطلق عليها اسم «أليوتيس»، وهي خطة يعاب عليها أنها تبسيط للمشاكل، أنزلت من فوق وغالبا ما تكون إجراءاتها متأخرة وغير فعالة أو متأثرة بضغوطات سياسية، مما جعل هاته الاستراتيجية الطموحة عبارة عن أهداف بعيدة المدى، غير قريبة من المهنيين والمختصين ولا تعطي أجوبة عملية عن الحاجيات الملحة للصيادين. الحفاظ على فرص العمل ودعم الصيادين الصغار من أكثر التحديات تعقيدا إن الاستغلال المفرط للأسماك والصيد غير العقلاني وتراجع إنتاجية وتجارة العديد من الموانئ المغربية، وخصوصا الشمالية منها، إضافة إلى تكلفة المحروقات وكثرة الضرائب والديون المتراكمة على أرباب المراكب الساحلية، وكذا صعوبات تنظيم وهيكلة التسويق.. من أهم مؤشرات أزمة حقيقة يتخبط فيها القطاع. كما أن ضعف الاهتمام بالجانب الاجتماعي للبحارة الصيادين، وخصوصا بحارة الصيد التقليدي والساحلي، وتأثير التغيرات البيئية والمناخية على إنتاجية ومردودية القطاع يستوجبان تدخلا سريعا من طرف الدولة لتفادي الأسوأ والحفاظ على المزيد من فرص العمل. ورغم إصدار قوانين مخططات لتهيئة بعض المصايد وتطبيق سياسة «الكوطا»، تشير إحصائيات الصيد للسنوات الأخيرة إلى انخفاض مقلق للمنتوج السمكي في جل الموانئ المغربية باستثناء موانئ الجنوب، والتي سجل بعضها انخفاضا يفوق 50 في المائة. وكل المؤشرات العلمية والدراسات تؤكد تسجيل نقص كبير في بعض أنواع الأسماك، كالأخطبوط والسمك الأبيض والقشريات منذ سنوات، مما ساهم في توجه الصيادين إلى صيد أنواع أخرى والضغط بصفة خاصة على مخزون السردين في العديد من مواقع الصيد.. كل هذا يدل على صعوبة تطبيق مثل هاته المخططات في المغرب وضعف المراقبة في الموانئ وأسواق السمك. إلا أنه تجدر الإشارة، ولو في عجالة، إلى أن للمغرب ميزة بيئية خاصة تجعله يتوفر على مخزون ضخم للسردين قبالة سواحل الداخلة يقدر بمليون طن، والمغرب غير قادر حاليا على استغلاله، مما فتح المجال أمام شركاء أجانب وأمام السفن الأوربية لاصطياد هذا المخزون ولو بطرق غير مقبولة وبكميات تصعب مراقبتها. سياسات في خدمة اقتصاد الريع والحكومة الحالية عجزت عن توفير السمك للمغاربة والحفاظ على فرص العمل رغم الإمكانات المتاحة، فإن مساهمة قطاع الصيد في الناتج الوطني الخام لا تتجاوز 3 في المائة، مما يطرح علامة استفهام كبيرة. وتجدر الإشارة إلى أن سياسة الصيد في المغرب ظلت منذ مدة كبيرة موجهة إلى التصدير ودعم شركات التحويل، حيث إن 70 في المائة من سمك البلاد موجه إلى الخارج، 25 في المائة من هذه النسبة تصدر كدقيق موجه إلى الاستهلاك الحيواني وإلى تربية الأسماك. من جانب آخر، يستهلك المغاربة 30 في المائة فقط من الأسماك المغربية وبأثمان تفوق غالبا القدرة الشرائية المتوسطة للأفراد. ويقدر استهلاك الفرد السنوي في المغرب ب10 كيلوغرامات في السنة مقابل 22 كيلوغراما للإسباني و40 كيلوغراما للياباني، في حين نجد، مثلا، وفي نفس الوقت، أن سمك السردين يباع بالجملة في أسواق الموانئ في المتوسط بدرهمين للكيلوغرام الواحد لشركات التصبير ودرهم واحد لشركات دقيق السمك، بينما يرتفع هذا الثمن ليصل إلى 5 دراهم بالنسبة إلى السردين الموجه إلى الاستهلاك الداخلي، فيما يصل داخل أسواق التقسيط إلى ما بين 15 و20 درهما في المتوسط. وفي المغرب أيضا، انهارت أكبر شركة لتربية وتسويق الأسماك، وهي «ماروست» التي كان يسيرها فرنسيون ومغاربة، في صمت رهيب دون استخلاص للعبر، وفشلت العديد من خطط التنمية وتطوير المراكب الساحلية، وخسرت الدولة ومازالت تخسر في استثمارات غير مفهومة وغير أخلاقية... وعلى سبيل المثال، فقد فقدت الحسيمة كل معامل السمك بعد انهيار تام للمخزون السمكي وهرب المستثمرين وفقدت آسفي والصويرة أكثر من 250 معملا للتصبير في أقل من 15 سنة بسبب التلوث والاستنزاف المفرط. وفي نفس الاتجاه، أضاعت الدولة سنوات وأموالا مهمة من أجل تطبيق استعمال الصناديق البلاستيكية بدل الخشبية، وتدخلت بشكل مباشر وخاطئ في نشاط يفترض أنه تابع للقطاع الخاص، مما أفشل العملية برمتها. من جانب آخر، تشتغل بعض موانئ الصيد بأقل من 5000 طن في السنة، وهي كمية غير كافية لإدارة معملين صغيرين للتصبير بطريقة منتظمة. وتعرف العديد من الموانئ صراعات اجتماعية واقتصادية مستمرة، تتمثل في استمرار الإضرابات الاجتماعية للبحارة ورفض المهنيين الإجراءات المعتمدة من طرف الدولة والتي لا تراعي تعويض البحارة الصيادين عن الخسائر اليومية المرتبطة بالاستغناء عن أنشطة معينة وتبديل شباك الصيد أو تبديل الصناديق الخشبية. كما أن علامات استفهام كثيرة تحوم حول انطلاق مشاريع استغلال وتحويل سمك السردين في الجنوب وجدوى اتفاقيات الصيد مع الاتحاد الأوربي، وأسئلة أخرى حول استمرار برمجة الدولة لاستثمارات ضخمة لبناء موانئ صغيرة وأسواق جملة عوض إصلاحها وتجميعها فقط، ويرى العديد من المهنيين أنها غير مناسبة في وقت الأزمة الاقتصادية وتدهور المخزون السمكي؛ ويتساءل آخرون عن الجدوى الاجتماعية الفعلية من مثل هاته المشاريع، وعمن هم المستفيدون الحقيقيون على أرض الواقع، فلقد كان من الأولويات خلق مشاريع اقتصادية واجتماعية صغيرة تدعم مشاريع مبادرة التنمية البشرية أو خلق صندوق لتأمين التعاونيات وللتضامن الاجتماعي وحل مشكلة التغطية الصحية لمهنيي الصيد التقليدي والدعم المباشر للمراكب والشركات القريبة من الإفلاس. ولكون السمك موردا وطنيا لجميع المغاربة، فإن مراقبته في البحر وفي رصيف الموانئ والطرقات من الثوابت التي يجب احترامها والتعامل معها بحزم. ورغم بعض التحسن في هذا المجال، يسجل استمرار الاعتماد على شركة للمناولة والنظافة، مثلا، داخل الموانئ كشريك للمكتب الوطني للصيد من أجل مراقبة البواخر على الرصيف، الأمر الذي يعد عيبا وخرقا واضحا للقانون يجب تداركه فورا. نحو شراكة اجتماعية ومندمجة هناك مشاكل وتفاوت في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للعاملين في قطاع الصيد البحري، لكن التبعات تطال الجميع والتهاون في أزمات الموانئ سيؤدي إلى حالات اجتماعية قريبة غير مقبولة، ستكون لها تداعيات خطيرة على السلم الاجتماعي، وما يعني الجميع الآن هو الحفاظ على فرص العمل والمراقبة الصارمة لصيد وبيع سمك السردين. ويتجلى التحدي الحقيقي في إشراك فعلي للمهنيين والصيادين في صناعة توجهات سريعة للتسيير داخل الموانئ بدل التركيز المفرط على البناء، في وضع أولويات اجتماعية واقتصادية يفهمها ويقبلها الصيادون، في استقلال تام، للبحث العلمي عن المهنيين وسياسات الصيد. ورغم كل هذه المثبطات والواقع المزري الذي يئن تحت وطأته قطاع الصيد البحري، مازالت للمغرب فرصة لتنميته تنمية شاملة ومتوازنة، بحيث تكون لديه التجربة والإمكانيات للحفاظ على فرص العمل ودعم الصيادين والحفاظ على الثروة السمكية. عبد المنعم أمشراع - خبير في سياسات الصيد البحري