يثور بين الفينة والأخرى الحديث عن موضوع الحوار بين «الإسلاميين» و«العلمانيين»، كأننا أمام موضوع بكر لم يلجه أحد، أو أمام ابتكار لم يأت به أحد من قبل. والحقيقة أن جميع الفترات الحساسة من التاريخ المغربي المعاصر -كما في تاريخ مجتمعات كثيرة مماثلة- شهدت تجارب غنية من التفاهم والتعاون بين الفئات الأوسع من الطرفين. وأضحى الادعاء بوجود تناقض مطلق بينهما إلى درجة تعذر الحوار وتعذر التلاقي والتعاون في أمور مشتركة متجاوزا منذ زمن، بفعل الواقع وبفعل التجارب الغنية التي تسير في الاتجاه المعاكس، فالفئات الأوسع من الفريقين منخرطة فيه، وهي التي تشغل منطقة الوسط في كليهما، بعيدا عن التشنج والتشدد والإقصاء؛ فيقترب مسمى العلمانية من كونها تدبيرا إجرائيا لشؤون المجتمع والدولة وتدبيرا سلميا للخلاف بين الفرقاء السياسيين والمدنيين، وتتبنى الإسلامية مرجعية جامعة للأمة تحافظ على الحريات العامة والخاصة وتعتبر الاختلاف إثراء للفكر والتدافع السلمي والديمقراطي أساس العلاقة بين الفرقاء داخل المجتمع. لكن سرعان ما تثور التوترات الجانبية بفعل عدم التبصر من جهة، وبفعل تضخيم فترات التوتر التي تظهر في ظروف أو سياقات خاصة، وخصوصا فترات الانسداد السياسي، من جهة أخرى. وفي أحايين أخرى، تنجر بعض الصحف إلى تضخيم الخلاف والتوتر، على أساس أن كل ما يتسم بالهدوء والرزانة لا يستحق النشر ولا يعطي مادة إعلامية مثيرة وذات حيوية، وهي في ذلك تطبق المقولة المعروفة «إذا عض كلب إنسانا فذلك خبر لا يستحق النشر، وإذا عض إنسان كلبا فهو خبر للنشر». وفي كثير من المجتمعات، تقوم جهات من أصحاب المصالح باصطناع اصطفاف مماثل بين طرفين، وتضخيمه، واستغلاله؛ ففي مصر، مثلا، تقف جهات نافذة وراء التوترات التي تتفجر بين الفينة والأخرى بين المسلمين والمسيحيين. وقد تحدثت التقارير عن أن وزير الداخلية السابق في عهد الرئيس المخلوع مبارك، حبيب العادلي، كان وراء تفجير كنيسة القديسين، وأن مصالحه كانت وراء اختيار المنفذين والتوقيت وأدوات التنفيذ. وتقوم جهات معينة في أوربا بتأجيج التوجهات العنصرية وصنع التوترات بين المسلمين والمسيحيين أو اليهود هناك، منعا لأي استقرار أو اندماج بين المسلمين. وتستغل الجهات التي تؤجج التوتر بين «الإسلاميين» و«العلمانيين»، مع الأسف الشديد، نقاط ضعف كثيرة في واقعنا السياسي والاجتماعي. فهناك، أولا، ثقافة التفرق والنزوع نحو التفسيرات البسيطة لتفسير الأحداث والأمور؛ وهي تجد جذورها في حالة التخلف التي تعرفها دولنا وشعوبنا، وتظهر سماتها ليس فقط في تضخيم ما يسمى «الصراع الإسلامي العلماني»، وإنما أيضا في تفجير صراعات داخل كل منظومة على أسس طائفية أو عرقية أو مذهبية أو غيرها. وهي مقاربات لا تملك من سبيل للتعامل مع المجتمع والجهات المدنية والسياسية والدولة والعالم الخارجي غير سبيل الاتهام والقطيعة، وأحيانا الضغينة واستعمال العنف. وهناك، ثانيا، التوظيف السياسي للصراع بين الطرفين من قبل أطراف خارجية أو داخلية، وهي في الغالب ليس من مصلحتها توسيع المشاركة السياسية وتطوير الديمقراطية ونشر العدالة الاجتماعية. ويقف وراء كثير منها لوبيات تريد الحفاظ على هيمنتها السياسية واحتكارها للثروات، ومن ثم فهذه اللوبيات تسعى إلى عرقلة أي عمل جبهوي في الاتجاه المذكور، وتعمل على تغذية الخلافات والصراعات. كما أن الكثير من الصراعات ليست بسبب الخلاف الفكري أو اختلاف وجهات النظر، وإنما بسبب تضارب المصالح ومحاولات الإقصاء من أحد الطرفين للآخر. واليوم، تعيش شعوب المنطقة هبة ديمقراطية مباركة، يباشرها كل شعب بطريقته. وحاول الكثيرون استعمال ذات الأسلوب، أسلوب التفرقة وصنع الصراعات الداخلية، لمنع التوجهات الديمقراطية والإصلاحية، وكثرت الاصطفافات المصطنعة، وبدأ ضرب بعض الديمقراطيين ببعض، تكريسا للهيمنات الموجودة. ومن هنا يعتبر الوعي براهنية التخلي عن أي صراعات جانبية والتركيز على معركة الديمقراطية والإصلاحات السياسية، تحقيقا لاستقرار دولنا وشعوبنا وتقدمها ونمائها، أمرا مستعجلا ونقطة انطلاق لبناء المستقبل. وعندما يتحقق الحد المقبول من الديمقراطية، آنذاك يمكن للجميع أن يدافع عن فكره ورأيه بحرية ودون أي إقصاء. وأمام التحولات التي تعرفها بلادنا اليوم، والتي يريد منها الشعب تحولا ديمقراطيا حقيقيا، من الضروري وقوف كل الديمقراطيين وكل من ينشدون الديمقراطية في صف واحد. وكالعادة، ستؤجج جهات مصلحية التراشقات بين الأطراف، وستحاول جهات باحثة عن منافع شخصية آنية إبقاء الصراعات المزعومة مشتعلة، لكن المطلوب من الجميع الوعي بأن اللحظة الديمقراطية تقتضي ألا يصطفوا مصلحيا وألا يصطفوا إيديولوجيا، وإنما تقتضي أن يصطفوا وطنيا ويصطفوا ديمقراطيا.