سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
نوح الهرموزي :إصلاح صندوق المقاصة يستلزم عدم الاقتصار على الحلول المسكنة والمهدئة الخبير الاقتصادي قال للمساء إن الصندوق أصيب على مدى سنوات بأمراض وعاهات وتشوهات خلقية بنيوية
اعتبر المحلل الاقتصادي، نوح الهرموزي، ومدير مشروع «منبر الحرية»، أن إصلاح صندوق المقاصة يقتضي التحلي بالشجاعة السياسية وعدم الانصياع وراء الشعبوية، أما نية الحكومة إحداث صندوق للتضامن في 2012 فقال إنها مجرد مناورة انتخابية من طرف عباس الفاسي. وفي هذا الحوار نتوقف مع الخيارات الممكنة لإصلاح صندوق يلتهم سنويا الملايير من الدراهم بدون تحقيق الأهداف التي أنشئ من أجلها. - ارتفعت الأسعار بشكل ملحوظ خلال هذه السنة، ما هي الأسباب الكامنة وراء ذلك؟ تعتبر 2011 سنة الارتفاعات بامتياز، هناك في نظري تفسيران، شق خارجي وآخر داخلي، بالنسبة للمسببات الخارجية، فنسبة مهمة من الواردات المغربية تهم المنتجات الفلاحية، والمنتوجات الزراعية الأساسية تمثل 80 في المائة من الواردات الفلاحية، فالمغرب يستورد بالدرجة الأولى الحبوب والقطاني وخصوصا القمح، ثم يأتي فيما بعد وحسب الترتيب : السكر والشاي والقهوة والزيت والحليب، إذن على الصعيد الخارجي هناك ارتفاع مطرد لأثمنة المواد الفلاحية والمواد الأولية على حد سواء، ونذكر على سبيل المثال ارتفاع 16 في المائة من ثمن القمح في السنة الأخيرة، أي من شهر غشت 2010 إلى غشت 2011، وارتفاعا كذلك بنسبة 87.5 في المائة لسعر الذرة، و44 في المائة في الزيوت، كما دلت على ذلك مؤشرات بورصة شيكاغو التي تعتبر البورصة العالمية المتخصصة والمحددة لأثمنة المواد الفلاحية. أما على الصعيد الداخلي، فارتفاع أثمنة السلع والمواد الاستهلاكية يجد أصله في ضعف القدرات الإنتاجية المحلية. وكمثال على ذلك، إنتاج الحبوب، فالمساحة المخصصة لإنتاجه تقدر بحوالي 5.3 ملايين هكتار ولا يغطي إنتاجها سوى 54 في المائة من حاجيات المغاربة، وترجع هذه المعادلة غير المتوازنة إلى ضعف المساحة المخصصة لإنتاج الحبوب، والاختلالات المسجلة في تقسيم الأراضي، حيث تشكل نسبة الاستغلاليات والضيعات الصغيرة والمتوسطة، أكثر من 70 في المائة في حين لا تتجاوز المساحة التي تستثمر فيها 5 هكتارات من الاستغلاليات المنتجة للحبوب، مما لا يسمح باستعمال وسائل الإنتاج الحديثة. أما بالنسبة للسكر فينتج المغرب ما يقارب 55 في المائة من الإنتاج الداخلي، والزيوت 14 في المائة من الحاجيات الداخلية، والحليب 86 في المائة. وبالتالي يبقى المغرب في حاجة إلى استيراد هذه المواد من الخارج وعرضة لتقلبات الأسعار التي تحددها بورصة شيكاغو، فإذا جمعنا ما بين العوامل الخارجية والداخلية، نخلص إلى عدم القدرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي من هذه المواد، وبالتالي ارتفاع كلفة الحياة اليومية، بحيث سجلت العشرين سنة الماضية ارتفاعات قياسية بالمغرب، خصوصا أثمنة الأسماك ب 130 في المائة، والخضر 95 في المائة، اللحوم 90 في المائة، الحليب ومشتقاته 55 في المائة. - إذن فالاهتمام بتحسين القطاع الفلاحي يعتبر من الأولويات ؟ بطبيعة الحال، يجب على الخصوص إعادة النظر في الخريطة الإنتاجية، باعتبار أن المغرب ركز مجهوداته نحو الفلاحة التصديرية لمدة عقود، مما أدى بالمغرب إلى استيراد عدد من المواد الفلاحية، ذات الأسعار المنخفضة مقارنة بالأسعار الداخلية، أي أنه كان هناك نوع من الإهمال للسوق الداخلي على حساب السوق الخارجي، كما أن تحسين الأداء الفلاحي يقتضي أيضا إعادة النظر في وضعية العقار الزراعي وعلاج إشكالية ندرة المياه في بعض المناطق التي لا زالت تعتمد على الزراعة البورية، وهناك كذلك إشكالية صعوبة الحصول على التمويل البنكي من طرف صغار الفلاحين. - نلاحظ كذلك أن الارتفاع في أثمنة السلع لم يواكبه ارتفاع في الأجور والرواتب؟ هو ما نلمسه منذ عدة سنوات، فالارتفاع في الأسعار لم يوازه ارتفاع متناسب و مماثل في مداخيل الأسر والأجور، بالإضافة إلى ارتفاع مؤشرات البطالة حيث وصلت إلى 10 في المائة حسب الإحصاءات الرسمية، وكذا انخفاض فرص العمل في السنين الأخيرة، مما يؤثر سلبا على القدرة الشرائية للأفراد، بل إن تقريرا صادرا عن منظمة الأغذية والزراعة «فاو» التابعة للأمم المتحدة حول مؤشرات الأمن الغذائي بالمغرب، كشف أن عدد الأشخاص الذين يعانون من نقص في التغذية بلغ 6 في المائة من ساكنة المغرب، كما أفاد بأن مشكل سوء التغذية بلغ لدى الأطفال 10 في المائة، وبأن 18 في المائة يعانون من مرض التقزم وانخفاض الوزن. - ما هي الإجراءات التي اتخذتها السلطات الاقتصادية للحد من ظاهرة ارتفاع الأسعار وخصوصا المواد الأساسية منها ؟ أستشف من كلامك أنك تقصد صندوق المقاصة...إن الحديث عن هذا الصندوق يستلزم خلخلة وتفكيك المسلمات والتشكيك بما هو راسخ بالتواتر، والاعتراف بما هو خاطئ اقتصاديا وأخلاقيا. آلية المقاصة في نظري تقوم بامتياز بعكس ما خلقت من أجله، باعتبار أنها أنشئت أساسا لتحقيق العدالة الاجتماعية ودعم القدرة الشرائية للفئات الأكثر هشاشة، ولكن الملاحظ هو عكس ذلك تماما، حيث تفيد بأن هذا الجهاز أصيب على مدى سنوات بأمراض وعاهات وتشوهات خلقية بنيوية، جعلت منه أداة لتبذير المال العام وإغناء الأغنياء على حساب أموال دافعي الضرائب وميزانية الدولة وفي المحصلة على حساب الفقراء. - فما هي إذن هذه الاختلالات البنيوية والعاهات التي أصابت صندوق المقاصة ؟ يعاني الصندوق من اختلالات عديدة يصعب حصرها في هذا المجال، لكن سنتوقف عند أكثرها كارثية، أولا وجود ترسانة قانونية معقدة وغير متناغمة، ثانيا ظاهرة إدمان عدد من الأطراف على الدعم مما يؤدي إلى تضخمه وتزايده المستمر بطريقة غير قابلة للضبط والكبح، أي أن الحكومة تسقط في حلقة الدعم المفرغة، ولكي أوضح الفكرة أكثر، فالحاجة إلى الدعم تتفاقم وستتفاقم سنة بعد أخرى، وكلما ارتفع الدعم ارتفعت مطالب الجهات الراغبة في الدعم، و ستجد الدولة نفسها مجبرة على الرفع من قيمة هذا الدعم سنة بعد أخرى. وعلى سبيل المثال نقدم توضيحا رقميا لهذه الظاهرة، في المغرب انتقل الدعم من 4 مليارات من الدراهم في 2002 إلى 26 مليار درهم في 2010 و 33 مليار في 2011 ويتحدث الملاحظون عن 40 مليار درهم في السنة المقبلة، حيث كان يمثل في 2002 حوالي 0.9 من الناتج الداخلي الإجمالي فصار يمثل 5 في المائة في 2010 أي ما يعادل 80 في المائة من الميزانية المخصصة للاستثمار، ومنه فإن الدعم يتم على حساب الاستثمار في المشاريع المستقبلية المدرة للدخل والموفرة لفرص العمل، كما أن هذه الظاهرة تفاقم عجز الميزانية وتؤدي إلى تضخم المديونية، وبالتالي فدافع الضرائب هو المتضرر الأول من كل ذلك. ومن ضمن التناقضات الصارخة لصندوق المقاصة الذي كان يهدف إلى دعم القدرة الشرائية للفقراء، نلاحظ أن 20 في المائة الأكثر غنى في المغرب يستفيدون من 75 في المائة من دعم صندوق المقاصة، وأن 20 في المائة الأكثر فقرا يستفيدون من 1 في المائة فقط، وتعتبر كبريات الشركات المتخصصة في المشروبات الغازية والحلويات بالإضافة إلى عدد من الشركات الخاصة و كبار المنتجين والموزعين، هم الأكثر استفادة في الواقع من جهاز المقاصة. - وما هي الاختلالات الأخرى ؟ صندوق المقاصة أفرز مجموعة من الوسطاء التجاريين والمتدخلين في مسلسل الدعم ابتداء من مرحلة الإنتاج ووصولا إلى مرحلة البيع بالتقسيط، فكلما تكاثر الوسطاء ارتفعت الأثمنة وتفاقم نزيف صندوق المقاصة. وهناك اختلال آخر يطلق عليه الباحثون الاقتصاديون، الآثار المنحرفة للمساعدة و الدعم les effet pervers ، مما أثر سلبا على تنافسية القطاعات والشركات المدعمة ولم يحفزها على تحسين أدائها وخفض الأثمنة، لأنها وبكل بساطة مهما كانت جودة عملها فستحصل في آخر المطاف على الدعم، مما أدى بها إلى عدم تطوير تقنية الإنتاج والقيام بالمجهودات اللازمة لخفض الأسعار وتحسين جودة المنتوجات، وهناك اختلال آخر يهم الغش والفساد فيما يتعلق بالتصريح بالكميات المنتجة للحصول على أكبر قدر من الدعم وظهور ظاهرة الشركات الأشباح للاستفادة من الدعم، ويمكنني أن أختم باختلال أخير وهو تمركز الإنتاج والتوزيع بيد بعض الشركات الاحتكارية وعدد من العائلات النافذة والقوية سياسيا واقتصاديا التي تعرف من أين تؤكل الكتف. - وماذا عن الحلول المقترحة للحد من الآثار العكسية لآلية المقاصة؟ إن إصلاح هذه الآلية، التي يمكنني أن أسميها بالقنبلة الموقوتة، يقتضي التحلي بالشجاعة وبحس وروح المسؤولية إزاء الأجيال القادمة وعدم الانصياع وراء الشعبوية والتسابق نحو المكاسب السياسية، بالإضافة إلى عدم الاقتصار على الحلول المسكنة والمهدئة، التي لا تقوم في المحصلة إلا بتأجيل المشكل وتحميل الحكومات المتعاقبة مسؤولية حل المشكل أو تأجيله إلى أجل غير مسمى...صحيح أن عملية إصلاح الصندوق تبقى معقدة ومؤلمة على الأقل في المدى القصير، كما سيقوم المستفيدون من هذا الدعم بمحاربة الإصلاح وإعلان حرب ضروس على كل من يضع فكرة الإصلاح على الأجندة السياسية، وهم ما يصطلح عليهم بجيوب المقاومة وأعداء الإصلاح، لأن المستفيد يحاول بكل الوسائل الحفاظ على الوضع القائم، وإدامته خدمة لمصالحه، ومنه يطرح السؤال الآتي، هل من المقبول الإبقاء على جهاز يجعل الأغنياء أكثر غنى على حساب الفقراء ودافعي الضرائب وميزانية الدولة؟ بطبيعة الحال ستكون الإجابة بالنفي، وبالتالي يجب إعادة التفكير في سياسة الدعم، وسبلها وطرقها، ومن الحلول التي تعتبر ناجعة، في نظري، وضع سياسات استهدافية للفئات الأكثر هشاشة كمرحلة أولى، أي التركيز على دعم يستهدف الفئات الأكثر فقرا وتهميشا عوض دعم الفئات الأكثر غنى، وذلك لتفادي تحويل الأموال عبر جهاز إداري بيروقراطي متسم بالفساد، ثم التفكير في سياسة الدعم العكسي، والتي تقتضي عدم توزيع النقود على المستفيدين بل تدعمها عن طريق خفض الأعباء والضرائب وتقديم التحفيزات والتسهيلات للمنتجين والموزعين، وتحسين فضاء الأعمال والاستثمار وجعله أكثر جاذبية للمستثمرين والمقاولات الصغرى والمتوسطة التي تعتبر قاطرة التشغيل والتنمية، ومن جهة ثانية تشجيع المنافسة بين الشركات المنتجة خدمة لمصلحة المستهلكين باعتبار أن المنافسة لها تأثير إيجابي على جودة المنتوجات وخفض الأسعار، ويمر كل ذلك عبر التخفيف من الإكراهات القانونية والجبائية المطبقة على صغار الفلاحين والمقاولات الصغرى وعبر تشجيع الاستثمار والابتكار، مما يساهم في القضاء على جيوب الاحتكار والريع والفساد.
- ما رأيك في المراسلة التي وجهها الوزير الأول إلى وزيره في المالية من أجل تأطير مشروع القانون المالي ل 2012؟ و ماذا عن الحديث عن إحداث صندوق للتضامن للتخفيف من ثقل نفقات الدعم؟ خروج رئيس الحكومة بهذه المراسلة وفي هذا التوقيت بالذات، أي بعد أقل من شهرين على نهاية ولايته على رأس الحكومة، يطرح عدة تساؤلات. أولا يجب الاعتراف أن توجهاته من أجل تأطير مشروع القانون المالي المقبل بادرة اقتصادية جيدة للحد من نزيف الموازنة، وذلك بالحفاظ على معدل التضخم في أقل من 2 في المائة، و تحقيق معدل النمو الاقتصادي بأكثر من 5 في المائة، و إصراره على خفض العجز في ميزان المدفوعات والحفاظ على عجز الموازنة في أقل من 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، بالإضافة إلى ترشيد النفقات والنية في إحداث صندوق للتضامن، لكن كل ذلك لا يجب أن يفهم بمنأى عن المتغيرات السياسية والاقتصادية الدولية، وأشير في هذا الصدد إلى أن النقاش محتدم حاليا في عدد من الدول الأوروبية حول ما يسمى ب«القاعدة الذهبية» أو «دسترة القاعدة الذهبية»، أي يجب أن ينص صراحة على وجوب تحقيق الانضباط الموازناتي discipline budgétaire أي لا يجب على الدولة أن تتجاوز 3 في المائة من العجز الموازناتي، وألا تتجاوز المديونية العامة 60 في المائة من الناتج الداخلي الإجمالي. ويذكر في هذا الصدد أن الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، استعملها مؤخرا لإحراج وتضييق الخناق على معارضيه وخصوصا الحزب الاشتراكي، ويجمع المتتبعون على أن هذه المبادرة يمكنها أن تكون حقا يراد بها باطل، إذ أن الانضباط الموازناتي أمر مرغوب فيه للحد من نزيف النفقات والحد من تضخم العجوزات وانتفاخ الدين العام، لكن يبقى السؤال مطروحا: ما سر توقيت هذه الإجراءات على بعد أقل من شهرين على الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، ولماذا لم يفطن عباس الفاسي بهذه الاجراءات إلا بعد 4 سنوات على رأس حكومة يبقى رصيدها الاقتصادي في مجال كبح النفقات والعجز التجاري ضعيفا، وبالتالي لا يمكنها من إعطاء دروس للآخرين.