الشاب المغربي ياسين يحمل دماغا متوهجا قادرا على توليد الأسئلة المحرجة والتداعيات الفكرية.. إنه شاب مميز من مدينة الجديدة، لم أجلس إليه مرة إلا وحرك الأسئلة وهو يضحك بعذوبة، ثم يركب السؤال على السؤال. إن أهل مدينة الجديدة في المغرب من ألطف الناس الذين اجتمعت بهم، وهذا الشاب هو من إبداعات هذه المدينة الكريمة. قال لي في إحدى الجلسات: إذا كانت الثورة في سوريا تتفاعل مثل أي حدث كوني، فهل من ضابط سنني (قانون وجودي) يحكم الحركة؟ الجواب عن سؤال من هذا الحجم ورطة. اعترف بأنني لم أكن مستعدا لسؤال محرج من هذا النوع! وبصفتي طبيبا أمارس فن جراحة الأوعية الدموية، فقد رجعت إلى أفكاري العلمية علِّي أجد في ترسانة العلم شيئا يلقي الضوء على هذه المعضلة. هل يمكن تطبيق علوم البيولوجيا على علم الاجتماع؟ ونقل أفكار علم للاستخدام في حقل مغاير؟ وثانيا، هل يمكن توليد نفس القانون من رحم الظاهرة، ومنها فكرة الطفرات في علم الثورات؟ فكرة الطفرة مأخوذة من علم البيولوجيا، ولكن يمكن نقلها إلى علم الاجتماع. كان أول من انتبه إليها في علم البيولوجيا السيدة بابارا مك كلينتوك حين اعتبرت أن الجينات ليست حبات لؤلؤ في جيد حسناء بل تنتقل من مكان إلى آخر، وهذا يدخل على فكرة تطور الإنسان وأنه خلق خلقا من بعد خلق وطورا بعد طور. في علم الفيزياء، تواجهنا ظاهرتان من هذا النوع: الكتلة الحرجة في السلاح الذري، والتراكم الكمي يقود إلى انقلاب نوعي كما في تحول الماء عند درجة حرارة معينة إلى شكل جديد بين الكتلة القاسية والغاز. لعل ابن خلدون أيضا أشار إلى هذا في «المقدمة» عن اتصال الكائنات بخط ينتهي على حلقات، كل نهاية حلقة تتطور إلى بداية الحلقة التي بعدها من الذرة مرورا بشجرة النخيل والحلزون ثم القرد والإنسان. يمكن اعتبار هذا القانون ساري المفعول في عالم الفكر كما في طفرة سقراط الذي كان فلتة عقلية وطفرة في التفكير. لم تكن له مدرسة، ولكن من فكره انبثقت عشرات المدارس من الأبيقوريين والسفطائيين بل والكلبيين من اختار عيشة الكلاب. يمكن أن نرى هذا في مستويات الوجود كلها، من الذرة إلى المجرة، ظاهرة الطفرة حين تتراكم الأمور حتى تصل إلى الحافة الحرجة أو الكتلة الحرجة أو الدرجة الحرجة أو الحالة الحرجة، فإذا وصلتها تغيرت الحالة نوعيا. يصدق هذا حتى في عالم الاقتصاد في ما يعرف بظاهرة فرقعة البالون حين تصعد الأسهم في السماء علوا حتى حافة معينة، ثم تتفرقع فتهوي مثل الطير بطلقة، وينتحر معها بعض الجشعين الذين ربطوا حياتهم بالمال كما جاء في فيلم «قابيل وهابيل». هذا ما سيحدث في الثورة السورية حين يتفكك النظام بالتدريج ثم يصل الحافة الحرجة فيهوي صريعا للجنب. المشكلة في علم الفيزياء والكيمياء أن الأمور يمكن ضبطها بقوانين نوعية، وهي ليست كذلك في علم النفس الاجتماعي. عُني القرآن بعلم النفس الاجتماعي أكثر من علمي الفيزياء والكيمياء، فحين قال أن لو أرادوا أن يستفزوا النبي (إخراجه) لن يلبثوا خلافه إلا قليلا. الماء بتعريضه لدرجة الحرارة التدريجي لا يغير طبيعته إلا عند حافتين صعودا وهبوطا، فإذا وصل الدرجة الحرجة تغيرت طبيعته، فيجمد ويزداد حجمه عند الدرجة صفر أو يتبخر غازا في الهواء عند درجة الغليان. سفينة الجبار (التيتانيك) كانت تسبح في الماء، وما أغرقها هو الماء حين تحول إلى جبل جليدي. أليست عجيبة هذه الجدلية المحيرة والتناقض المتنافر؟ ينطبق هذا أيضا على تحول الحديد إلى سائل، بل ربما إلى أبخرة، فيرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران.. بل يمتد الجدل في تحول الذرات بقفز البروتونات كما في تحول الزئبق والذهب أو في ترابط حرج بين الذرات كما في تحول الفحم إلى ألماس. كذلك حالة الثورات في المجتمع، والثورة السورية لا تخرج عن هذا القانون.. الناس يستعجلون والله يرقب الكون، فلا تأخذه سنة ولا نوم. البشر يشتهون السلطة والله يريد دفع الكون نحو الأفضل، فيحترق الناس في نار المحنة والمعاناة والكبد، فيخرج شعب جديد مصهور مثل الحديد في لهب النيران. أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين. إن قصة المحنة والفرز والغربلة جاءت في قصة داوود وطالوت وجالوت، فتغربل من المائة فلم يبق إلا واحد، وهو ما صدقه الحديث: تجدون الناس معادن. والناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة، وكذلك معادن الناس في الثورة، فتختلط الأمور وينفرز الناس، ويجب أن تتحرر الثورة من المنافقين وتعرف أعداءها جيدا. آلة القتل البعثية مستمرة وعدد الشهداء يزداد وحلقات النيران تتعاظم ويتغلف الأفق بدخان اللهب من حركة الدبابات والمجنزرات والمحنة والدم، والثورة تمتد عابرة الطوائف والمدن، وهي جملة أعجبتني من عزمي بشارة في حديثه إلى قناة «الجزيرة». إن الرجل يتكلم وجدانه وينبض مع نبض الثورة.. إنه ليس مسلما، ولكنه في الوزن أفضل وأوزن من مئات من الشيوخ المنافقين والقساوسة الساكتين الملتحمين مع النظام، كما نفض ميشيل كيلو يده من مؤسسة الدين والديانة وخاطب العلمانيين المسيحيين بالالتحاق بالثورة، وهو موقف لن ينساه له الشعب السوري. موقف المؤسسة الدينية ليس جديدا، فهو يكرر منظر السنهدرين الذي حكم يسوع بالصلب.. إنها جدلية رجل الدين ساحر فرعون القديم والثوار. محمد (ص) اتهم بأنه صابىء عن دين قومه، ويسوع حكم بالصلب، وموسى اتخذ قومُه عجل السامري إلها فنسي. في البيولوجيا، إذا وصل الضغط الدموي إلى حافة متدنية تهاوى الجسم فلم يقدر على الوقوف، وإذا أصيب بحالة انخفاض حاد في درجة الحرارة (Hypothermia) تعرض القلب للرجفان فمات صاحبه. وكذلك تسارع النبض ورعشة القلب أو نقص الكالسيوم والبوتاسيوم وزيادته فيتوقف القلب في حالة الانقباض أو الاسترخاء. وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. ما يصلح وينطبق على الماء والذرة يصلح في عالم النفس، فيفيض الدمع حين تصل الروح إلى حالة التأثر الحرج، فترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق وتراهم يخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا. السؤال: يا ترى، أين ستكون حافة الثورة السورية فيسقط عندها النظام؟ هل بالإفلاس عند عدم القدرة على الدفع للقتلة؟ هل بالتفكك الداخلي كما قتل الرفاق في عدن بعضهم بعضا وصفى صدام الرفاق بيديه، فيقتل بعضهم بعضا؟ أم بالضغط الخارجي، فينعصر مثل ذنب القرد في شق خشبة النجار كما جاء في «كليلة ودمنة»، فيصيح ويضربه النجار على عبثه؟ أم بانتفاضة عارمة في حلب ودمشق حين يدخل الناس من التجار الحلبية والشامية بعد تبدد المصالح وتوقف التجارات في دين الله أفواجا مع نصر الله والفتح، فنرى منظر تشاوسيسكو الذي (عفطت) له الجماهير ولحقته والسكورتات في المخابىء تحت الأرضية، فقضي أمرهم في أيام في صاعقة عاد وثمود. صديق قديم لي في مونتريال اعترف بأنه لا يشارك في المظاهرات لأن عنده مصالح بمليون ونصف دولار في حمص وما حولها. سورة كاملة نزلت بعنوان «التوبة» لمن لم يتب، فالناس مواقف، ويجب أن يحدد الإنسان موقفه يوم الزلزلة. وليس مثل اللحظات الحاسمات كشفا لمعادن الناس. يجب أن تعرف الثورة خصومها ومنافقيها وروادها الانتحاريين. يتبع...