جزاء سينمار.. هي الحكمة العربية التي تفسّر المنهج الذي تتعامل به الولاياتالمتحدة مع حلفائها غير الغربيين، و«الميكافيلية» هي المفهوم الغربي الذي يفسّر هذه المنهجية، منهجية اللا منطق، حيث لا وجود مطلقا لمبادئ الوفاء بالعهد أو المعاملة بالمثل أو حماية الأصدقاء (العملاء). لا وجود لصداقة تدوم مع أحد. لا وفاء يستمر. لا مكان لحليف أو صديق.. المعيار الوحيد هو المصلحة الأمريكية، التي تخلو من الأخلاق والصداقة والأعراف والتقاليد. منطق الغدر بالعميل والحليف، الذي أفنى عمره ونفسه في خدمة بلاد «العمّ سام». منطق اللا وجود لحقوق الإنسان أو أي مصطلحات أو مفاهيم أخرى تحمل شبها بأي شيء يتعلق بالإنسانية.. منطق الغدر برجال أوجدتهم الولاياتالمتحدة لقمع شعوب أوطانهم خدمة لمصالحها في المنطقة لتتخلى عنهم سريعا بتُهَم مختلفة بين إيواء طالبان والإرهاب والتجسس والاتجار في المخد رات، بعد استنفاد قدراتهم على القيام بأدوارهم أو تراجع قوتهم ونفوذهم أمام قوى المعارضة أو ظهور البديل الآخر، الذي يمكنه أن يقدم خدمات أفضل... عملاء وحلفاء تخلّت عنهم أمريكا لصالح بديل وحليف آخر ووضعتهم في كفّ مزادها العلني ليتم «بيعهم» بأبخس الأثمان، بعد أن اعتقدوا لبرهة ولحظة صغيرة أن قوة الولاياتالمتحدة يمكن أن تضمن لهم الاستمرار في السلطة ونسوا وتناسوا أن الضمانة الوحيدة هي ضمانة الشعب وأن السلطة الوحيدة هي سلطة الشعب فقط وليست سلطة «العم سام».. إنهم، باختصار، رجال وحلفاء في المزاد العلني الأمريكي... خطة مفبركة للقضاء على العدو /الصديق يروي جورج تينيت، المدير السابق لجهاز المخابرات الأمريكية «سي أي إي»، في مذكراته التي حملت عنوان في «قلب العاصفة: سنواتي مع السي أي إي»، عن الخطوات النهائية للقضاء على عراق صدام حسين قائلا: «حاولت إدارة بوش -الأب إقناع صدام حسين، مرارا وتكرارا، بإعادة الصواريخ والطائرات السمتية المتطورة التي كانت بحوزته، لكنه رفض. وبدأ رامسفيلد جولات الوساطة المتعددة، التي باءت، هي الأخرى، بالفشل وأصبح النقاش يدور عن حلّ بعيدا عن الدبلوماسية، بعد أن أضحى صدام حسين يشكّل خطرا على أمن وسلامة المنطقة، خاصة إسرائيل، التي أخذت تضغط بكل قوتها للقضاء عليه... وعندما جاء بوش الابن، المتشدّد لإسرائيل، عزم على التخلص منه بتقارير مفبركة حول امتلاكه أسلحة الدمار الشامل وبدأت ال»سي أي إي» في العمل داخل العراق وخارجه، خاصة مع رجالات العراق المتعاونين مع واشنطن، وعلى رأسهم الجلبي والشهواني، قائد القوات الخاصة لصدام حسين، الذي كان يمدّنا بكل أسرار الجيش والدولة أولا بأول، حيث كنت قد التقيتُه بنفسي وباستمرار في خيام ال»سي أي إي» في صحراء العراق قبل الغزو بشهور عديدة»... ويضيف تينيت: «كنا نعمل داخل العراق في ما وراء المناطق الشمالية حتى وصلنا حدود الدول المجاورة من الجنوب والشمال وقدمنا للمسؤولين العسكريين رؤية واضحة وشفافة للاتصالات التي كنا نجريها وقمنا بتعريفهم بحلفائنا الجدد الذين يعملون في الخفاء وبشكل سرّي داخل العراق، بغية حمايتهم لكونهم يُسهّلون لنا شيئا فشيئا انشقاق رجالات صدام حسين حتى إنهم كانوا يأتوننا بعشرات الرجال المنشقين يوميا لتجنيدهم معنا، وبالتالي استطاع هؤلاء الرجال إمدادنا بتنقلات صدام حسين وبشبكة اتصالاته قبل الغزو بقليل، حتى كدنا نتخلص من صدام حسين وأبنائه لحظة قصفنا أحد المباني التي كان صدام قد عمد، رفقة أسرته ورجالاته، إلى عقد أحد الاجتماعات فيها، لكن المهمة فشلت بسبب تماثل المباني وعدم تحديد الهدف بشكل أدق من طرف عملائنا هناك... حينها فقط، نجا صدام وتمت سريعا صياغة الترتيبات الأخيرة التي بدأنا معها الغزو واحتلال العراق في أبريل 2003... سقوط العدو /الحليف بدخول القوات الأمريكية العراق واحتلاله، بقيت أخبار صدام حسين (الذي أضحى الهدف الأول لقوات الاحتلال) مجهولة في الأسابيع الأولى بعد سقوط بغداد وانتهاء العمليات الرئيسية للحرب، رغم عمليات التبليغ المتواصلة والمشاهدات اليومية تقريبا لصدام والتي لم تكن مثبتة، لتبقى صلة الوصل هي تلك التسجيلات التي كان صدام حسين يبعث بها في أوقات مختلفة ومتفاوتة توحي بأنه ما يزال على قيد الحياة، خاصة أن الشائعات كانت توحي بقتله من طرف القوات الأمريكية... حتى تم القبض عليه يوم 6 دجنبر 2003، وبعد أيام قليلة من اغتيال ابنائه قصي وعدي، لتبدأ فصول محاكمته الطويلة ويتم تنفيذ الحكم فيه صبيحة عيد الأضحى المبارك، الموافق ل31 دجنبر 2006، لتملأ صور الجريمة البشعة شاشات وسائل الإعلام العربية والدولية، ليختم المشهد على أصوات الشهادتين اللتين تلاهما صدام حسين قبل استشهاده، ليتم دفنه بعدئذ في مسقط رأسه تكريت، وسط أهله وعشريته... وفي آخر لقاء له مع رامسفيلد، دار الحوار التالي لحظة دخوله عليه داخل زنزانته، وقد بدا الرئيس العراقي هادئا للغاية ولم تبْدُ عليه أي علامات تدلّ على أنه فوجئ لرؤية صديقه القديم وعدوّه الجديد وضيفه دونالد رامسفليد، الذي بدأ بمخاطبته قائلا: «لقد جئتك اليوم كصدق قديم وليس كعدو، جئتك لأتفاوض معك حول الموقف في العراق، فقد أجرينا اتصالاتنا مع بعض أنصارك ونصحونا بالاستماع إليك فماذا تريد الآن؟ فأجابه صدام، دون أن يكمل رامسفيلد كلامه قائلا: «لقد غدرتم بنا وستبقون على غدركم للذي سيأتي بعدنا في حكم العراق العظيم.. إنكم لا تشبهون البشر، فأنتم على الدوام ناقضو عهود ومواثيق.. تنتهكون كل شيء ولأي شيء باسم حقوق الإنسان، التي طالما داومتم على انتهاكها وطالما زعمتم المحافظة عليها.. لقد احتلت قواتكم أرض العراق الأبيّ وأسقطتم حكم صدام حسين دون سند من شريعة ونصّبتم النظام الطالباني مكانه.. واعتديتم على سيادة بلد حر ومستقل وذي سيادة وارتكبتم جرائمكم التي سيسجّلها لكم التاريخ ووضعتم عملاءكم لنهب العراق وسرقة ثراته وثرواته.. والآن تأتيني لتستمع إلي.. أظنك جئت للاعتذار وإعادة السلطة إلى العراقيين»... كان رامسفيلد يستمع إلى صدام حسين وكأنه يرى هذا الرجل لأول مرة في حياته، قبل أن يجيبه بالقول: «ليس هناك ما نعتذر من أجله.. لقد شكّلت خطرا على جيرانك وسعيت إلى امتلاك أسلحة للدمار الشامل ومارست الديكتاتورية على شعبك».. فقاطعة صدام: «أعرف أنك جاهل في التاريخ وأعرف أن رئيسك لا يقل جهلا عنك.. لقد كذبتم علينا على الدوام ومهدّتم لنا الطريق دائما وساندتمونا لحظة كنتم في حاجة إلينا، أما الآن فقد انتهت مصلحتكم.. هكذا هي إدارتكم، إدارة مصالح لا غير، ظللتم تكذبون حتى صدّقتم أنفسكم.. أما تهديدنا جيراننا الذين تقصد بهم الكيان الصهيوني فنحن فعلا كنا نشكّل خطرا عليه وكنا نُعِدّ العدّة لتحرير أرضنا المغتصَبة في فلسطين، وهذه ليست قضيتي فحسب، بقدر ما هي قضية كل عربي، أما الصهاينة فهم الذين جاؤوا واحتلوا أرضنا، كما تفعلون أنتم الآن، فقذ كانوا عبيدا في دول العالم وبالتالي قبل أن تعرض علينا بضاعتك الفاسدة فإنني أسالك هل وجدتم أسلحة الدمار الشامل التي تبحثون عنها في العراق؟! فاأجابه رامسفليد: «لم نعثر عليها إلى حد الآن، لكننا حتما سنجدها». حينها، قال صدام: «إذن، ماذا تريدون مني الآن؟ أتريدون التفاوض معي على خيانة وطني وإنقاذ رقبتي؟ فاذا كان الأمر كذلك فإنني أقول لك إنني لا أريد هذه الفرصة، ولو كنت أريدها لقبلتُ بالعرض الروسي وأنقذتُ نفسي وولدي وحفيدي وأنقذت بلادي.. أما إذا أردت أن تعرف ماذا أريد، فإنني ساقول لك: أريد منك ومن تابعك أن تُخرجوا قواتكم فورا من العراق.. أريد الإفراج عن مئات المعتقلين العراقيين والعرب الذين احتجزتموهم داخل سجونكم.. أريد العدالة والحرية للشعب العراقي بعد محاكمة مجرمي الحرب، وعلى رأسهم المجرم بريمر وأزلامه من الخونة والمارقين.. أريد إعادة ثروات العراق التي نهبتموها والآثار التي سرقتموها، فهي كنوز لا تُقدَّر بثمن، لأنها تحمل تاريخ العراق وحضارته، التي لا تمتلكون منها شيئا، وإن كان عمر بلدكم بضع مئات من السنين.. أريد أن تُسلّموني أسلحة الدمار الشامل التي وجدتموها في العراق واستبحتم أرضه من خلالها وأزهقتم أرواح شعبه...أريد أن تردّوا شرف المجاجنيات العراقيات الذي سلبتموه.. هل يكفيك هذا أم أزيدك؟»... حينها، قال رامسفيلد: «هل أعتبر هذا نوعا من السخرية؟» فقال له صدام على الفور: «لا، إنها الحقيقة المُرّة التي لا بد لكم من معرفتها.. فأنتم ارتكبتم أكبر جريمة في التاريخ»، وأكمل صدام كلامه، منهيّا بذلك تلك المقابلة بقوله: «لا أريد أي عروض منكم، فأنا والشعب العراقي المجيد كله نعلم أن صدام حسين لا يستطيع أن يتراجع على حساب وطنه وكرامته.. ولا قيمة للحياة بدون هذه الكرامة، التي تفتقرون إليها... لكنْ قبل أن تذهب إلى تابعك، سأعلمك ببضع كلمات توصلها إليه: قل له إنه شخص يفتقر إلى الحكمة والعلم والتاريخ، الذي هو جاهل به على الدوام... قل له إن هذا التاريخ الذي يمجّد أبناءنا على الدوام سيحاكمكم على جرائمكم هذه.. قل له إنكم ستنتحرون على أسوار بغداد وإنكم ستدفعون الثمن باهظا طال الزمن أو قصر.. وقل له، أيضا، أن يذهب إلى قراءة مجلات وزارة الخارجية البريطانية في لندن ليعرف منها بعضا من ملامح الكفاح للشعب العراقي المجيد في مواجهة أصدقائكم البريطانيين، الذين تكرّرون أخطاءهم وتشركونهم معكم.. فالشعب العراقي شعب مجيد لا يخاف الموت.. وستبقى المقاومة أقوى ممّا تتصورون.. ولذلك فأنا أبشّركم بالمزيد قبل رحيلي».. سقط صدام من عنفوانه بعد انتهاء اللعبة الأمريكية، التي تخلصت من ملك الشطرنج في غفلة منه. سقط بنفسه وأسقطتْه، بعد أن شيّدت نظامه ودعمت أركانه وتغاضت عن كل جرائمه، حتى جاء القصاص وبدأ المزايدون الصهاينة يضُخّون أرقاما هائلة لشراء هذا الصنم الأمريكي الذي بات يزعج الجميع... فتح المزاد سريعا وبداأت المزايدات التي فاز بها الصهاينة وأزلامهم.. وسيق صدام إلى مصيره المحنتوم...