الساعة السادسة وخمس وخمسون دقيقة، من أحد أيام الأسبوع الماضي، والمكان: محطة الأداء في الطريق السيار التي تستقبلك وأنت تغادر مدينة القنيطرة في اتجاه الرباط. حافلة ركاب متوسطة الحال تتوقف لأخذ تذكرة المرور، وبمجرد إقلاعها لمواصلة السير يشير إليها دركي يبدو نشيطا وحيويا بالتوقف، تتخذ الحافلة مكانها أقصى اليمين وتتوقف، على يمينها سيارة تابعة للدرك الملكي من نوع «كونغو» بيضاء، وبالقرب منها يضع الدركي بطيخة صفراء ويقصد الحافلة المتوقفة. يُفتح الباب الأمامي للحافلة، ويقفز منه شخصان، الأول كان يبدو المسؤول الأول عن الحافلة، يتولى بيع التذاكر و«تنظيم» الركاب داخلها. والثاني يبدو أنه ال«جوكير» العارف بأسرار الطريق ومالك مفاتيحها. و«حنكته» هذه تجلّت في ما تسلح به وهو ينط من باب الحافلة الأمامي: يداه كانتا تقبضان على ورقة مالية من فئة خمسين درهما، لم ينتبه إلى أن الركاب يوجدون في مستوى عال ويستطيع من انتبه منهم أن يفهم ما يجري، لكن حتى وإن علم بذلك لا يبدو أن الأمر سيهمه كثيرا. الدركي النشيط كان في حيوية زائدة، وكان كلامه مع الرجلين مزيجا من الصرامة والمزاح. الغبيان كانا يريدان التفاوض مباشرة، لكنه أصر على «أداء» مهمته، حيث أشار إليهما بفتح صندوق الأمتعة، فبدا الأمر كما لو كان عملية تفتيش. لكن عبقرية الدركي كانت تهدف إلى رفع غطاء صندوق الأمتعة، من أجل الاختباء تحته من أعين الركاب. ومن سوء حظه أن الغطاء لم يكن يكفي لحجب الرؤية من جميع الزوايا وعن كل الركاب. المسرحية كانت سخيفة، الدركي يشير إلى داخل الصندوق كما لو اكتشف مخالفة، موجها كلاما يمزج بين التهديد والمزاح. ليأتيه الرد سريعا من صاحب الورقتين الماليتين، حيث أشهر في وجهه إحداهما قائلا: «أنا غادي نتهلاّ فيك». لينقض عليها الدركي دون أن ينتبه إلى أن هناك ورقة أخرى كان بإمكانه انتزاعها أيضا. وانصرف فورا دون تأخير، وفي طريقه نحو سيارة الخدمة حمل البطيخة الصفراء في بهجة بالغة، وألقى بها في المقاعد الخلفية للسيارة. المشهد على تفاهته وابتذاله إلا أن تأثيثه بمنظر البطيخة يحيل على الصورة الراسخة في أذهاننا عن رجل السلطة الجشع، الباحث عن إشباع نهمه بشكل مباشر، والمصرّ في كثير من الأحيان على أخذ «إتاوات» عينية. فترى «المخزني» عائدا من السوق محملا بقفة يومية من الخضر والفواكه واللحوم، انتزعها من باعة يحبسون دموع الحسرة ويكتمون صوت الاحتجاج خوفا من نقمة «الشاف». وسيارات دوريات الأمن التي تنهي جولاتها محملة بكميات من المأكولات و«الهدايا»، والتي مهما كانت ضآلة وزهد أجور وتعويضات جباتها فإن انتزاعها من أفواه البؤساء لا يحتمل التبرير. العجيب في أمر هذه «الإتاوات» العينية أنها اكتسبت شرعية وتسامحا يكاد يخرجها من خانة الرشاوى، فيتحدث بعضنا عن «القهيوة» و«الكاميلة» و«المرقة»، بدلا من الاعتراف بشراء الذمم وارتكاب المخالفات. فهذا الدركي الذي أوقف الحافلة أجهد نفسه في توخي الحذر قبل استلام الورقة المالية، وبمجرد أن وقعت عليها يده اختفت كما لو كان ساحرا أو لاعب سيرك. بينما عرض البطيخة التي غنمها من أحدهم أمام الملأ، وفي طريقه نحو السيارة كان يداعبها ويلقي بها نحو الأعلى ثم يتلقفها كما لو كان أحدُ الباعة المتجولين قد مر من الطريق السيار وباعه إياها. الحافلة التي أوقفها الدركي صاحب البطيخة واصلت سيرها، وكان عليها أن تمر من وسط مدينة سلا، فصادفت في أحد ملتقيات الطرق شرطيا عبوسا يمسك برخصة سياقة وأوراق إحدى السيارات، وإلى جانبه شخص يبدو أنه ارتكب إحدى المخالفات، مستسلما لقلم الشرطي الآخذ في تحرير «البروصي». فعلم من تابع مشهد الدركي في الطريق السيار أن الأمر يتعلق برجل أمن شريف، أو سائق لا يحمل بطيخا.