هم نجوم رمضان بدون منازع، يسرقون خلال الشهر الفضيل الأضواء من كبار الأسماء في الغناء والسينما أو حتى في الرياضة، وينالون بذلك قسطا مهما من اهتمامات الصائمين... إنهم أئمة مساجد صاروا أشهر من نار على علم، يقصدهم الخاص والعام، ويتسابق على الصلاة خلف منابرهم من استطاع إلى ذلك سبيلا ومن لم يستطع، إلى درجة يذهب معها الكثير إلى الإفطار وأداء صلاة المغرب بواحد من مساجد هؤلاء «النجوم»، وذلك حرصا على ضمان مكان يمكن انطلاقا منه سماع صوت الإمام بوضوح والاستمتاع به. «المساء» التقت بعينة من هؤلاء وحاولت الغوص في حياتهم الخاصة. أن تكون ساكن محراب بأحد المساجد لا يعني بالضرورة أن تكون «فقيها» بالمعنى الكلاسيكي، أي إماما حافظا لكتاب الله وملما بجانب من العلوم الشرعية أو مطلعا عليها وكفى. أن تؤم الناس في الصلاة لا يعني بالضرورة أن علمك ومعلوماتك لا تتجاوز المجال الديني أو أنك متخصص في ما له علاقة بالشريعة الإسلامية، من فقه ومعاملات وما إلى ذلك، أما ما دونه من أمور الدنيا وما شابه، فلها أهلها والمختصون فيها، كل على حدة. إنها نظرة تقليدية للأمور أو هي واقع بدأ في التراجع أمام اكتساح عدد من الأئمة المشفعين لمساجد البلاد، ممن يحملون الشهادات العليا الممنوحة من كبريات الجامعات والمعاهد الوطنية والدولية، والذين، بناء على ذلك، يشتغلون في ميادين دقيقة وتخصصات علمية متميزة، كالطب والهندسة، إلا أنهم في الآن نفسه يحفظون كتاب الله ولهم من شروط ممارسة الإمامة ما قد يفوق بكثير ما لدى زملائهم من أئمة راتبين. أكثر من هذا كله، وحيث إن الدين الإسلامي دين شامل يهتم بأمور الدنيا بقدر اهتمامه بأمور الآخرة، وحيث إن الإسلام، على خلاف الديانات الأخرى، لا يخص شريحة معينة بأمور الدين باعتبارها وسيطا بين الله والعباد، كما هو الشأن بالنسبة إلى الكنيسة المسيحية أيان كان قساوستها يمنحون صكوك الغفران لمن يدفع مقابلا لذلك، فإنه، ولكل ما سبق، يظل الإمام الطبيب أو الإمام المهندس أو الإمام العالم في أمر ما خيرا ألف مرة من الإمام الفقيه لأمور الدين فقط، لأن الأخير لا يملك لغة العصر وسحر العلم وعلمية الفكر التي يمتلكها الأول والتي بواسطتها يتوفق في بناء قنطرة سلسة بين أمور الدين وأمور الدنيا، قنطرة تتسع لكل العابرين عليها والباحثين عن أجوبة علمية ومنطقية لتساؤلاتهم في الدين والدنيا. ضيفنا اليوم هو من صنف الأئمة الجدد، ذوي التخصصات العلمية الدقيقة، والذين، فضلا عن حفظهم للقرآن الكريم، يسعون، بطرق التحصيل العلمي التي دأبوا عليها، إلى التشعب في العلوم الشرعية بمختلف تفرعاتها.. إنه واحد ممن حباهم الله بصوت عذب، جر إليه انتباه أساتذته في التعليم الابتدائي حد دفعهم إياه إلى المشاركة في العديد من المسابقات الوطنية. هو عبد المنعم بلكعوط، الإمام المشفع بالمنزه في حي الانبعاث بسلا، والمهندس المتخرج من معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة والمدير التنفيذي لإحدى الشركات المتخصصة في الدراسات الطبوغرافية والمسح الجوي وإنشاء أنظمة المعلومات الجغرافية، ازداد في الخامس والعشرين من شهر ماي لعام 1983 في مدينة سلا، لأسرة تتكون من سبعة إخوة هو سادسهم. التحق بداية بكتاب الحي كغيره من غالبية أبناء الطبقة الشعبية، ولم تكد رجلاه تطآن مدرسة «عين البركة» الابتدائية في بوقنادل، عند بلوغه السادسة من عمره، إلا وهو حافظ لحوالي عشرة أحزاب، مكنته من التقدم بنجاح في مختلف المستويات، غير مكترث للانتقال من مدرسته الأم في سلا إلى مدرسة «الفوارات» في القنيطرة، وبعدها بعام إلى مدرسة «الإمام عبده» في نفس المدينة. وفي عام 1995، عاد الإمام المهندس إلى مدينة سلا ليلتحق هنالك بإعدادية «الإمام البخاري» التي ما إن مكث بها قليلا حتى راوده الحنين من جديد إلى القرآن الذي غادره بمغادرته لمدينته سلا. وعليه، توجه دون تردد إلى إحدى دور القرآن القريبة من المنزل والإعدادية، وحاول جاهدا التوفيق بين حفظ القرآن والتحصيل الدراسي، إلا أنه انقطع من جديد عن سَلك درب القرآن الذي بات السير فيه مكلفا للشاب عبد المنعم، ورأى لحظتها أن الخيار المتاح هو التفرغ للدراسة العمومية، التي باتت مستوياتها تتطلب، تصاعديا، المزيد من التركيز والتمرين. وفعلا، تدرج صاحبنا بنجاح عبر كل الأقسام والمستويات التي درس بها إلى أن نال شهادة الباكلوريا سنة 2001، التحق بعدها عبد المنعم ب«معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة» وواصل به دراسته إلى أن حصل على شهادة التخرج خلال عام 2007. وداخل مدرجات معهد الزراعة والبيطرة، راودت فكرة العودة إلى القرآن مخيلة الطالب من جديد، وأبدى ندما داخليا على عدم مواصلته المشوار الذي ابتدأه منذ نعومة أظافره، بل حتى قبل أن يلتحق بالتعليم العمومي. وعليه، قرر رفع التحدي بالانكباب على القرآن الكريم كلما سمحت له الظروف بذلك. كانت عزيمة الشاب أوسع من ضيق الوقت، وأكبر من كثرة المواد المدرسة في «معهد الحسن الثاني»، وهكذا نجح عبد المنعم عام 2005 في إتمام حفظ كتاب الله، ليبدأ بعدها في تحصيله وتحقيقه تحت إشراف شيخه الحسين أيت علي الذي على يديه أتم صاحبنا في العام الموالي إتقان رواية ورش عن نافع عن طريق الأزرق، وفي هذا يعترف الطالب عبد المنعم بأنه واجه العديد من الصعوبات، إلا أنه واصل المسير ليتم إتقان القراءة برواية حفص عن عاصم عن طريق الشاطبية، في العام الذي نال فيه شهادة التخرج من المعهد. اشتغل خريج معهد الحسن الثاني، مباشرة بعد حصوله على الشهادة، أستاذا للتجويد والحفظ بدار القرآن في سلا، وواصل بعدها اغتراف علم القراءات، فأخذ رواية حفص عن عاصم عن طريق روضة المعدل عن الشيخ الحامدي عبد الوافي، واطلع أيضا على رواية ابن كثير وأبي عمرو البصري، ليتم في عام 2009 القراءات السبع عن مجموعة من الشيوخ داخل وخارج المغرب، وجعل من العام الموالي بداية ختمة بالقراءات العشر المتواترة جمعا على مجموعة من الشيوخ. وتجدر الإشارة إلى أن صاحبنا هو مدير لشركة خاصة للدراسات الطبوغرافية والمسح الجوي وإنشاء أنظمة المعلومات الجغرافية، وهو فضلا عن هذا مسجل في سلك الدكتوراه التي يعكف على تحضيرها في «معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة».