يكاد يُجمع كل المتتبعين على فشل التجربة الحزبية في بلادنا على جميع المستويات، حيث استطاعت السلطة إحكام قبضتها على الأحزاب وإضعافها والهيمنة عليها بهدف التحكم في المجتمع والقضاء على أي منافسة من قبل أية جهة. وإذا كان تدخل السلطة في الأحزاب قد لعب دورا «تأسيسيا» في إضعافها، مما جعل أزمتها تتفاقم مع مرور الزمن، فإنه يصعب تصور إمكان استفحال هذه الأزمة بدون اختلالات جوهرية في بناء الأحزاب وفكرها وثقافتها وأسلوب تسييرها. تميز النظام السياسي المغربي بقدرته على التكيف مع التحولات والتجدد وفقها وإعادة إنتاج نفسه، حيث سجل نجاحا في هذا المجال منذ منتصف سبعينيات القرن المنصرم، مما مكنه من الصمود أمام رياح الديمقراطية التي هبت على العالم في العقد الأخير من ذلك القرن، وذلك على عكس الأنظمة الشمولية في أوربا الشرقية التي عصفت بها تلك الرياح. يلجأ النظام إلى هذا القدر من الانفتاح متفاوت المدى من فترة إلى أخرى حسب مقتضيات الظروف والأحوال وما تطرحه من مشاكل، وأيضا حين لا يستطيع الاستمرار في كبت التعدد والمعارضات فيسعى، عبر هذا الانفتاح الجزئي، إلى تقديم نفسه بصورة النظام الديمقراطي، رغم أن الانفتاح الذي طرأ عليه يظل محدودا. هكذا، استطاع النظام السياسي المغربي استيعاب عوامل التغيير التي تدفع في اتجاه البناء الديمقراطي، عبر إقدامه على انفتاح سياسي جزئي يؤدي إلى تعددية حزبية شكلية تتحكم فيها السلطة من أعلى، مما حول ما يسمى ب «الأحزاب الديمقراطية» إلى مجرد ديكور لتزيين صورة النظام في الخارج وتلميعها. شاركت زعامات هذه الأحزاب في ما سُمِّي بتدبير الشأن العام باسم الانتقال الديمقراطي والإصلاح في كل المجالات، لكن ذلك الانتقال لم يكن سوى انتقال للسلطة لعبت فيه الزعامات دورا تأثيثيا. واليوم، تجد هذه التنظيمات نفسها متهمة بتحمل المسؤولية عن تدهور الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية... وما هو خطير هو أن تكون الأحزاب اليوم مسؤولة كليا عن شيء لم تقرره ولا يرقى إلى مستوى اختياراتها، حيث إن السلطة تفعل كل شيء ولا تترك لهذه الزعامات أي هامش للتحرك، مما يحول دون قدرتها على تفكيك البنية القديمة ودفع المجتمع في اتجاه الدمقرطة والتقدم.. كما أن زعامات هذه الأحزاب لم تؤسس، في أغلب الحقول في السنين الأخيرة، لأي شيء يمكن اعتباره جديدا وخلاقا ومهما. أضف إلى ذلك أنها لم تطرح بجدية مفهوم الحكم الديمقراطي ولا آليات الوصول إلى السلطة وتداولها، كما لم تطرح الآليات التي تمكن المحكوم من أن يدلي برأيه في السلطة وأدائها... فوق ذلك، فهي لا تمتلك مشاريع واضحة، إنْ في مجالات السياسة أو في التربية والتعليم أو في الاقتصاد أو في الثقافة والفنون أو في الحياة المدنية أو في كل ما يتعلق بحقوق المرأة وحرياتها... وهذا ما يفسر عجزها عن تأطير المواطنين وعدم اهتمامها بالعلوم والفنون، إذ لم تطور جريدة أو مجلة نموذجية، كما أنها لم تبن مؤسسة علمية أو فنية نموذجية واحدة. من عيوب هذه الزعامات أنها أصبحت محدودة المعرفة ومتجاوزة في عصر لم يعد العمل الحزبي فيه مجرد خطب وشعارات منمقة. كما أنها لم تستطع تقديم برامج أو طرح سياسات محددة بديلة أو تكوين أطر ذات مستوى رفيع معرفيا. أضف إلى ذلك أنها لا تدرك أنه لا يمكن للأحزاب أن تكون فاعلة في هذا العصر إلا إذا امتلكت بنوك معلومات واسعة، ومراكز أبحاث ودراسات متطورة باستمرار تتابع بدقة ما يجري في المجتمع والعالم من حوله. كانت هذه الأحزاب تمتلك أطرا مؤهلة، لكن هذه الأخيرة جمدت نشاطها الحزبي لتعرضها للتهميش والإقصاء وعدم اتفاقها مع قرارات الزعامات الحزبية المستأثرة بكل شيء. وكلما حاول بعض أطر الأحزاب إصلاح ما يمكن إصلاحه وجدوا أنفسهم أمام زعامات لا تختلف عقليتها عن عقلية السلطة في شيء. لقد اتضح أن زعامات الأحزاب عاجزة عن المبادرة والفعل المؤثر، كما أنها غير قادرة على الاضطلاع ببناء نظام ديمقراطي تعددي، فقد قبلت لعب دور «كومبارس» مقابل الاستفادة من الريع... يعود ذلك إلى أن هذه الزعامات تبنت نص السلطة الذي ينتمي إلى السياق التقليدي القديم واعتنقته، فكرا وأسلوبا، حيث انخرطت في نص سياسي سلطوي يبتلع كل من يقبل به. هكذا سادت ثقافة المساومات والترضيات والانبطاح وتسول المقاعد في مؤسسة معينة... علاوة على ذلك، رشحت هذه الزعامات، بتسهيل من السلطة، أعيانا فاسدين في الانتخابات رغبة في أن يشتروا لها مقاعد في المؤسسات المنتخبة قد تمكنها من الحصول على مقاعد في مؤسسات أخرى، الأمر الذي هو مرفوض، أخلاقيا وقانونيا. كما أن بعضها الآخر اشترى مقعده بالمال الحرام، مما يشكل تزويرا. أضف إلى ذلك أن جزءا ثالثا منها قد دعمته السلطة للحصول على مراتب عليا في بعض المؤسسات المنتخبة رغم أن حزبه لا يمتلك أغلبية فيها. هكذا نحن أمام بشر يدينون بمقاعدهم للسلطة، مما يفرض عليهم الحرص على تطبيق أوامرها وعدم احترام قرارات أحزابها. وجدير بالذكر أن التزوير والتعيين اللاديمقراطي لا ينتجان إلا الفساد والإفساد، وهذا ما جعل أغلبية المواطنين يقاطعون الانتخابات، وقد تبلغ هذه المقاطعة ذروتها في الانتخابات المقبلة. تبعا لذلك، لم يكن هدف هذه الزعامات الحزبية يوما هو تحويل المجتمع وبناؤه ديمقراطيا في اتجاه حياة أفضل وثقافة جديدة وإنسان جديد... بل كانت غايتها هي البقاء في السلطة، مما جعلها تعرض أحزابها للانهيار، حيث دخلت علاقاتها بالشعب في مرحلة تراجع كبير إلى أن بلغت اليوم أدنى مستوياتها. بناء على ذلك، يتوجب على الزعامات الحزبية امتلاك الجرأة الأخلاقية والتاريخية على الاعتراف بخطأ التجربة التي خاضتها وأن تفسح المجال لأطر أحزابها وللمجتمع ولشبابها ومثقفيها ونسائها... لكي تتمكن هذه الأحزاب من الخروج من السياق التقليدي القائم والاتجاه نحو البناء الديمقراطي، حيث توجد داخل الأحزاب وفي المجتمع أطر شابة نزيهة وقادرة على العطاء... كما يلزم هذه الزعامات الاعتراف بأن إصلاح الأحزاب قد أصبح ضروريا، لأنه لا ديمقراطية بدون وجود أحزاب ديمقراطية. إننا في حاجة إلى أحزاب قوية لبناء مغرب قوي بمؤسساته الديمقراطية. دون ذلك، ستكون زعامات الأحزاب مسؤولة عن انقراض أحزابها وعن إضعاف المغرب وانهياره، لا قدر الله. إن الأحزاب في حاجة ماسة اليوم، أكثر من ذي قبل، إلى أن تبتكر للشعب المغربي لغة سياسية ديمقراطية جديدة تنبذ تبعية الأحزاب للسلطة، فالحزب الحقيقي المستقل هو أغنى وأكبر من أن يختزل في مقاعد داخل مؤسسة معينة، لذا ينبغي أن تكف زعامات الأحزاب عن التماهي مع السلطة، ولن تكون معها ما لم تنخرط في البناء الديمقراطي وما يخدم المغرب أرضا وشعبا. لقد تمكنت الدولة من اختراق الأحزاب وفرض ما تريده على زعاماتها. وهذا ما جعل مثقفيها وشبابها يجمدون أنشطتهم الحزبية، مما أفقدها امتداداتها الاجتماعية، وحولها إلى هياكل فارغة. تريد السلطة «ديكورا سياسيا تتزين به أمام الغرب. وليست لدى الزعامات الحزبية القدرات القيادية اللازمة لإدارة العلاقة بهذه السلطة في اتجاه تحويل «الديكور» الشكلي إلى جزء من البناء الديمقراطي نفسه. يكاد يجمع الملاحظون الذين يعرفون الأحزاب المغربية وأنماط تفاعلاتها الداخلية في اللحظة الراهنة على أن هذه الأحزاب لن تكون جزءا من أية معادلة للتطور السياسي في المغرب، بل سيظل كل شيء في يد السلطة، مما يشكل خطرا على هذه الأخيرة وعلى الوطن في آن واحد. ويظهر لي أن الانتخابات القادمة، سواء تمت في وقتها أو في الدخول السياسي المقبل، لن تأتي، على الأعم، بأي تغيير مؤسسي، إذ لن تفرز إلا «مجلسا للأعيان»، ويعود ذلك إلى أننا لم نر بعد أي تغيير مؤسسي سياسي وحزبي يؤهل المغرب لذلك. ويظهر لي أن إحكام السلطة القبضة على كل شيء قد يتسبب لها في عدم السيطرة على أي شيء، فالقوة أو العنف لا يجديان نفعا، بل إنهما يشيران إلى الفشل، حيث لا أمن ولا استقرار إلا بالحرية. تؤكد التجربة التاريخية أن هذه القبضة، مهما كانت شديدة وقوية، لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، بل إن ذلك رهين بالظروف الداخلية والخارجية. كما أنها لا تعمل إلا على تفكيك الشعب وتخلفه وهدر كرامته، مما يشكل عاملا أساسا في زعزعة الاستقرار. لقد بدأ الدور «الديكوري» للأحزاب في الانكشاف عندما ظهرت معارضة جديدة خارج إطار النظام الحزبي منذ تأسيس حركة 20 فبراير، بل بلغ حد أن أصبح الناس يدركون ضعفها التنظيمي وينكرون وجودها بالمعنى السياسي والرمزي. ولا أبالغ إذا قلت: لا وجود اليوم في المغرب لأحزاب بالمعنى الحداثي، وبالتالي فمسلسل دمقرطة المؤسسات والحياة السياسية معطل إلى حين مراجعة الأحزاب لفكرها وأدوارها ومسؤولياتها وآليات تدبير هياكلها وصياغة مشاريعها، وإلى حين بثها في مواصفات قياداتها والأدوار المنوطة بها، والأهم من هذا وذاك هو أن تراجع السلطة موقفها من الأحزاب وتؤمن بأن الأحزاب القوية والمستقلة هي الشريك الحقيقي لتدبير مرحلة دمقرطة البلاد والارتقاء بها إلى مصاف الديمقراطيات البرلمانية العتيدة، وأن الأحزاب الخنوعة التابعة تُضعف النظام عكس ما يُعتقد من أنها تقويه بضعفها وتحصنه.