خلّفت «حلقة الوفاء» لفن الحبيب الإدريسي في ليلة الخميس -صباح الجمعة، 29 يوليوز الأخير، من «أنيسُ المبدعين»، لحميد النقراشي على أمواج إذاعة طنجة، ردودَ فعل إيجابية جدا إلى درجة أن مستمعي الإذاعة المذكورة شدّدوا على ضرورة إعادة بث الحلقة، في سابقة من نوعها في عمر البرنامج الإذاعي، المتميز. وقال الإعلامي الحسين المجدوبي إن الاعتراف بفنان من قيمة وحجم الحبيب الإدريسي، الذي أثرى خزانة الأغنية المغربية بأعمال رائعة وعبقرية يفرض نفسَه... فهذا الفنان، القدير، الذي يتذكر الجيل الحالي بالكاد اسمه وبعض أغانيه، واحد من الأسماء المفترَض أن تُشكل إحدى دعامات ومجالنا الفني، والذي مثّلت ستينيات القرن الماضي، والأغنية المغربية في طور تشكيل نواتها والتخلص من الأنماط التراثية ومن التأثيرات المشرقية، جوا ملائما لسطوع نجم الإدريسي، وفي نفس الوقت، تحدّيا له، مع بداية بروز أصوات متميزة، كعبد الوهاب الدكالي وعبد الهادي بلخياط، إذ لم يكن بمقدور أيٍّ كان اقتحام الساحة الفنية»... وتابع المجدوبي قائلا إنه «رغم أن الحبيب الإدريسي كان متأثرا كثيرا بعبد الحليم حافظ ونسج معه خاصة إنسانية وكان بينهما شبه «رهيب» في الملامح ووحّدتْهما مجموعة قواسم مشتركة، فقد كان حريصا على ألا يكون في أعماله تقليد ل«العندليب» أو لغيره... وفي منتصف الستينيات، رسّخ اسمه بين الجماهير المغربية، على الخصوص، برائعة «ما بقيتي عندي فْالبال» (1964) وبمجموعة روائع لحّنها له عبد الرحيم السقاط، بعد ذلك (أواخر الستينيات) فهو لم يرد أن يظل «مقلدا» للآخرين وكان في صوته نوع من الشجن، وتميّز بقدرة «غريبة» على تصريف الجمل اللحنية وعلى «تطويع» المقامات، فأغنية «ما بقيتي عندي فالبال»، مثلا، والتي هي بمقام «الصبا»، لم يكن سهلا على أي فنان أداؤُها بنفس تمكُّنه وإبداعه، فالإدريسي لم «يقتحم» الساحة عن طريق الصدفة، بل عن جدارة أكدها من خلال أعمال كثيرة ذات تركيبة إيقاعية ولحنية معقّدة وغير مُعادة، إذ إن بناء كل أغنية لا يشبه بناء أخرى.. إضافة إلى الجانب الإنساني، إذ أعطى الفن كل شيء ولم يعطِه الفن أي شيء، فالرجل إلى حد الآن غير متزوج، وهذه من علامات العبقرية الفنية»... ولدى سؤاله عن دور عبد الرحيم السقاط في مساره الفني، قال الإدريسي إنه لم ينس، أبدا، فضله عليه، مذكّرا بأنه حريص على زيارة قبره وصلة الرحم مع عائلته وأولاده... وقد تناول النقراشي علاقة الحبيب الإدريسي بالعديد من الفنانين، من قبيل جْبيلو، أحمد الشجعي وعبد الواحد التطواني، الذي ربطته علاقة قديمة بالإدريسي وقال في حقه إنه من كبار فناني المغرب.. يتميز إضافة إلى أصالة فنه، بإنسانيته، التي افتقدناها في محيطنا الفني، فقد عرفتُه منذ 1975، أولا، كإنسان ذي أفكار عبقرية، «غريبة»، سابقة لأوانها بكثير، إذ إن ما كان يريد أن يعبر عنه هذا الفنان لم يكن يمكن حتى تصوره، كما أنه رجل غير مادي ويملك صوتا «خطيرا»... وأردف التطواني قائلا إن «مجموعة من القطط (بين 20 و25) كانت تجتمع حوله كلما رأتْه، إلى درجة أننا كنا، حين نراها مجتمعة، نعرف أن الإدريسي قادم... ليرافقها إلى نفس المكان (تحت فيء شجرة في المدينة القديمة في الدارالبيضاء) حيث كان يداوم على إطعامها، كما هو دأبُه مع طيور الحمام، التي كانت، بدورها، تجتمع حوله ويلج «الرحبة» ويشتري لها ما تقتات به»... كما تناول التطواني «إجحاف» الإعلام المغربي في حق الإدريسي، إذ لم يُعطه حقه، ففي سنة 1967، حطّمت «ما بْقيتي عْندي فالبال» رقما قياسيا في ذلك الوقت وحققت شهرة حتى خارج البلاد، إذ لمبدعها صوت يذهب من اللسان إلى القلب مباشرة، لأنه فنان صادق في أدائه، فكثيرون يُغنّون، لكنْ ليس من «قلوبهم».. كما أنه يعطي الكلمة حقها»... وذكر النقراشي أنه من المؤسف أن يواجه الإدريسي، إضافة إلى الحيف الذي طاله (عن قصد أو عن غير قصد) وفي بداياته، «موجة» عاتية من الحسد... ولا يحظى بتكريم بعد 50 عاماً من العطاء والإبداع، في الوقت الذي نجد كثيرا من «التكريمات» ل«أشخاص» لا يُعرَف كيف جاؤوا إلى الفن... وبهذا الخصوص، ذكر التطواني أن «يدا خفية «تحفر» للفنان، وهو حي.. الفنان العازف و«البعيد»، لكنْ عن «الشبهات» وعن الفن الرديء، والذي يتمتع بإنسانية سامية ويشرّف عطاؤه الفن المغربي... فنحن نقيم ذكرى عبد الوهاب، حافظ، أم كلثوم، وربما حتى ذكرى «جحا».. لكن الطامة الكبرى هي أن الفنان المغربي الذي يستحق أن يُكرَّم كأنه «لا شيء»... إن هناك من «تآمروا» ل«قتل» موهبة الحبيب الإدريسي، الذي أوصل الكثيرين، حميد شكري، حياة الإدريسي وإدريس الركراكي كمثال.. وذكر الإدريسي أنه لحن لفنانة مصرية (شاهيناز فاضل) «العصفور الجميل» وأنه فاز بالجائزة الكبرى مع الأعمال الموسيقية مع مصطفى بغداد وبجوائز في 22 دولة عبر المعمورة.. وحين أشار النقراشي إلى أنه قد آن الأوان لتنظيم حفل تكريمي يليق بقيمة وعطاء الإدريسي، رد الأخير بأنه يعيش «في غرفة وحيدا.. ليتركوني هكذا إلى أن أموت.. كيف يُكرّمونني؟ من أين قد يبدؤون؟ يصعب أن يكرموني.. لقد فات الأوان»... وذكر التطواني أنه رغم كون الإدريسي يعيش وحيداً في «غارصونير»، فهو رجل ملتزم بأداء فرائضه الدينية.. كريم كرما حاتميا.. وما يزال قادرا على مواكبة الأغنية المغربية «الشبابية»، بإيقاعاتها المتجددة... وتحدث الإدرسي عن واقعة غريبة مفادها أنه مرض، ذاتَ يوم، فظل لوحده مع كلب لمدة 20 يوما لم يسأل عنه خلالها أحد.. إلى درجة أن الكلب الذي كان برفقته كان ينوي مساعدته حتى بتوفير أكل له... ومن جانبه، ذكر محمد لفتوح أن «من ميزات المحتفى به أن لديه صفاء وعمقَ فنان حقيقي، مؤمن برسالة الفن وإن لم يأخذ منه فإن التاريخ يشهد على أصالته ولن تنساه الذاكرة الشعبية.. فليطمئنَّ إلى أن هناك من يحبّونه.. كما أنه سبق أن تلقى دعوات للتكريم، إلا أنه رفضها»... أما الفنان محمد الأشراقي فقال إن الحديث عن الإدريسي يذكّرنا بقطع لم يعد يذكرها أحد.. لقد جمعننا به لقاء في الثمانينيات في طنجة، حيث جلسنا معه كمهتمين ومعجبين بتجربته، فالتحق بنا الموسيقار المرحوم عبد الوهاب اكومي لتتحول الجلسة إلى درس في الموسيقى ونقاش في الأغنية المغربية دام ثلاث ساعات.. وعندما لحّن له عبد الرحيم السقاط، أدى ألحانة بكل إتقان وأمانة، خصوصا أنها كانت مناسبة تماما لطبقاته الصوتية.. كما أنه أبدع أكثر عندما لحّن لنفسه ولغيره، فأعجب بأسلوبه في اللحن الجميع، مشارقة ومغاربة»...