الفقيه البوطي اختار مصيره وحسم أمره بأن يلحق بالطاغية الأسد الصغير فيكون في خندق واحد معه في وجه الثورة، وبذلك يختم حياته، وهو في أرذل العمر، مع النظام السوري الذي أصبح أيضا في أرذل العمر. وما ينتظر الاثنين الغسل والكفن، والتابوت إلى الدفن. فهل ترى لهم من باقية؟ الفقيه البوطي ليس وحيدا في هذه المؤسسة المشؤومة، بل هو رأس جبل جليد كامل من فقهاء السلطة ووعاظ السلاطين ومثقفي الحزب وأبواق النظام في توليفة جهنمية. البوطي تجرأ فنطق، ولكن جبل الجليد لا يظهر كله على السطح، ويبقى البوطي عينة تمثل شريحة كاملة من النظام.. وفي المقابل، هيثم المالح، وهو أيضا في عمر الشيخوخة، يقول كلمة الحق في وجه القوة، فيؤدي دور المثقف صدقا وعدلا. ولقد أخذ الله ميثاقهم.. على من يحمل العلم أن يبيّنه للناس ولا يكتم منه شيئا، ولكن أمراض أهل الكتاب، مسلمين ومسيحيين وبوذيين وزرادشتيين ويهودا، واحدة.. أن يلبسوا الحق بالباطل ويكتموا الحق وهم يعلمون.. والبوطي والحسون نموذج ممتاز لعلل أهل الكتاب من المسلمين... ويأخذ البوطي مكانته يتمطى في استراحة فقهاء العصر المملوكي في خانة (وعاظ السلاطين)، على حد تعبير الوردي عالم الاجتماع العراقي، أولى له فأولى ثم أولى له فأولى.. والبوطي الفقيه ليس جديدا في جدلية الكهنوت والطاغوت منذ أيام الفرعون بيبي الثاني. كنت أتعجب من المقارنة بين رياض الترك، الشيوعي الذي قضى 17 سنة في مدفن تحت أرضي محبوسا في زنزانة انفرادية أيام الوحش الكبير، والبوطي، واعظ السلطان، يخرج على الناس عبر المذياع يقول لهم إن ابن الطاغية الذي نفق في حادث سيارة متهورة من أهل الجنان. كنت أردد في نفسي أين المؤمن وأين الملحد؟ وما هو الإلحاد وما هو الإيمان فعلا؟ هل هي كلمات باللسان وحركات روتينية بدون معنى، أم ممارسة نضالية في وجه الجبت والطاغوت؟ هل الإيمان طقوس أم صدع بالحق وصبر على الأذى كما وصى لقمان ابنه فقال: واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور. كان السحرة، مثقفو ووعاظ ذلك العصر، يقولون للحاكم أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين؟ فيرد فرعون: نعم، وإنكم إذن لمن المقربين. المال والنفوذ هي سلالم الصعود إلى خدمة الطاغية، فأين يقف الفقيه البوطي اليوم؟ هل هما عنصرا المال والنفوذ؟ أم هناك عناصر أخرى سكت عنها النص؟ وهكذا بالتحام الكهنوت والطاغوت يبرز كائن خرافي من رأسين: الحاكم والفقيه، أو فرعون والسحرة، أو رئيس الجمهورية والمفتي، السنهدرين وبيلاطس، ساحر القرية وزعيمها.. وهذا ينطبق دوما وبشكل مكرر على كل المؤسسات الدينية من أي دين كانت، فالدين ملح الحياة، والمؤسسة الدينية تأميم وخنق كامل للحياة. يتعاون الحاكم والفقيه على ركوب رقاب العباد مثل أي بغل مطهم مسرج. الحاكم يحكم بالساطور والمنجل والطبنجة والخنجر.. والكهنوت بالبخور والمبخرة وغبار الكلمات. الفقيه يعطيه الشرعية، والطاغوت يكرمه بالمركز والمال والحظوة. هذا يحكم بقوة السلاح والمخابرات، والثاني يغتال العقول بالأوهام وادعاء أنه يملك مفاتح أسرار النصوص الربانية، فهو ينطق قال الله وقال رسول الله.. وبينه وبين الله والرسول بعد المشرقين، فبئس القرين.. جاء في كتاب خاتمي عن شرك الاستبداد أن أبا ليث الصفار جمع الزعران والحرافيش والبلطجية والعيارين وزحف بهم على بغداد، فجاءه من يحذره من (عهد) الخليفة، فنادى الشقي صاحبه أن يحضر للناس (عهد) الخليفة، فغاب ثم رجع بسيف ملفوف بخرقة، فاستل أبو ليث الصفار السيف ثم زعق في العيارين: هذا عهد الخليفة، وهو ما أجلسه على العرش في بغداد، ونحن ببركة هذا العهد إلى بغداد سائرون، وعلى العرش متربعون، وبرأس الخليفة طائحون.. الحاكم يحكم الناس بالساطور.. والفقيه يمهد لاعتلاء ظهر الشعب بالسطر.. الحاكم يكتب بالساطور على جلود الناس بسطور الفقيه أن الحاكم من نسل الإله، شكله بشري ولسانه رباني، وكلمته لا معقب لها وهو الكبير المتعال. الطاغوت هو الله الفعلي في حياة الناس، يمثل المقدس المتعالي فوق النقد ولا يقاربه الخطأ، ومخابراته لا تأخذها سنة ولا نوم، تحصي دبيب كل نملة وطنين كل نحلة، وما يلفظ المواطن من قول إلا لديه رقيب عتيد من تسعة عشر فرعا أمنيا. والفقيه وواعظ السلطان ومثقف الحزب وكذاب الإذاعة والتلفزيون يقولون إن المظاهرات حرام لأنها ممنوعة، وهي ممنوعة لأنها حرام.. الطاغوت يرفع السيف ويقول نحن نحكمكم، ورجال الدين بأشكالهم المختلفة، من قلنسوة وطربوش وعمة وجبة وعمامة، يقولون قال الله! فهل لأحد بالله من طاقة؟ ومن هنا ندرك أن فرعون الحاكم يقتل الناس بالرصاصة والساطور، والفقيه وواعظ السلطان ومثقف السلطة، مثل حاج علي وطالب إبراهيم والصحاف وبثينة والمعلم والبوطي، يقتلون الناس بالكلمات والفتاوى فكل له دورة في معركة البقاء... تأملوا فقرة طالب إبراهيم يصف ما يحدث في سوريا بكونه حربا من إسرائيل يقودها أناس بالوكالة، فأحصوهم عددا واقتلوهم بددا ولا تتركوا منهم أحدا.. إنه يذكر بكل الكذابين، ابتداء من هامان ومرورا بجوبلز وانتهاء ببثينة الصحاف. إنهم جميعا من أمة الكذاب الأشر.. هناك كذاب بريء يدعو إلى السخرية، وكذاب شرير أشر يحرض على سفك الدماء.. علينا استيعاب أن ما يحدث في سوريا هو معركة بقاء، وأن ليس ثمة نصف ثورة، فإما كُنس النظام القرون أوسطي غير مأسوف عليه أو دخل الناس في رق العبودية من جديد. ومن يخوضون المعركة هم ثلاثة: فرعون وهامان وقارون. عائلتا الأسد ومخلوف تمثلان فرعون. والفقهاء من أمثال البوطي، والكذابون من أمثال وليد المعلم وزير الخارجية، وطالب وحاج علي وصوان بدون صون من أبواق النظام يقومون بدور هامان، هم من الخارج حملان ومن الداخل ذئاب خاطفة كما جاء في الإنجيل.. وتجار حلب ودمشق ومعهم الفقهاء بالجملة والمفرق، مثل تجارة الجملة والمفرق، الذين يرون الثورة فتنة، والثوار حثالة، وأفضل الأوضاع ما أنتجه نظام البعث في نصف قرن، يمثلون هيمنة قارون بجدارة. وبذلك تقفل الحلقة الثلاثية الإبليسية.. إذا تتبعنا خط التاريخ فلسوف نتعجب من كثرة الأمثلة: أبو الهادي الصيادي في وجه جمال الدين الأفغاني. والفقيه البغدادي يحكم الصوفي الحلاج بألف سوط وتقطيع الأطراف وخلع اللسان ثم الصلب والحرق وتعليق الرأس. وسبينوزا، فيلسوف التنوير، يلعنه مجمع السنهدرين ويطعنه شقي في رقبته. وابن رشد يحكمه الملك الموحدي، تحت ضغط فقهاء السلطة من أمثال البوطي وحسونة، بالنفي إلى قرية الليسانة. وهو نفس المصير الذي تلقاه الثائر (ابن تيمية) الذي تآمر عليه فقهاء السلطة، فحبس في سجن القلعة في دمشق حتى الموت وحرم من القلم والقرطاس، فكان يكتب بالفحم على الحيطان مثل المجانين. وفقهاء نابليون يقضون بالخازوق لسليمان الحلبي من قتل كليبر العسكري. وجيوردانو برونو يحكمه فقهاء الكرادلة ومعهم البابا بالحرق على نار هادئة مثل فروج مشوي، بعد إذلال وحبس استمر لمدة ثماني سنوات، ليحيي الإيطاليون ذكراه بعد مرور أربعة قرون ويعطوا اسمه لنفس الساحة التي أحرق فيها في 17 فبراير عام 1600م. وفقهاء حلب يحكمون بموت السهروردي جوعا في قلعة حلب، وفي زمن صلاح الدين الأيوبي تحديدا. وصاحب التاريخ ابن الأثير يدفن سرا من خوف الرعاع الذين حكموه بالردة بالجملة، الذي يصفه الأسفراييني أن لو ضرب أحدهم الطريق إلى الصين من أجل علمه لكان قليلا. إنهم نماذج لا نهاية لها من صراع الثوار والمستبدين وحلفائهم من الفقهاء ورجال الدين.. دليل على هذا التعانق المشؤوم بين الكهنوت والطاغوت..