يبدو أن أغلب الفرقاء السياسيين لازالوا لم يستوعبوا لحظة فاتح يوليوز 2011 والتي كانت لحظة فاصلة في تاريخ المغرب، لقد منحت المغرب دستورا جديدا لا علاقة له بالدساتير السابقة التي اعتمدت منذ سنة 1962 إلى درجة يمكن القول معها إن المغرب مرّ بثلاث ملكيات: الأولى هي ملكية محمد الخامس التي عمّرت من سنة 1956، تاريخ الاستقلال، حتى 1962، تاريخ بداية حكم الملك الحسن الثاني. والملكية الثانية هي التي دشنها الملك الحسن الثاني بدستور 1962 واستمرت حتى نهاية يونيو 2011، وهي ملكية عرفت إصدار خمسة دساتير، إلا أنها كانت مؤسّسة على فلسفة الملكية التنفيذية. ثم الملكية الثالثة التي بدأ تاريخها يوم فاتح يوليوز 2011. من الناحية التاريخية، يمكن أن نعتبر أن هذا الدستور هو السادس من نوعه في تاريخ المملكة، لكنه من الناحية السياسية أول دستور للملكية الثالثة في المغرب، ولذلك كان منتظرا أن يقطع مع التدبير الذي ميّز المرحلة السابقة. لقد أضاع المغرب سنوات من التقدم الاقتصادي والثقافي والسياسي بسبب الصراع بين السلطة والمجتمع. وفي تقديري، لا يجب أن نكرر هذه التجربة، ولا نريد أن يقسم المغرب مرة أخرى بين تيارين، أحدهما مع السلطة والآخر ضدها، بل يفترض أن ننظر إلى ما يجري حاليا على أنه نتاج تكامل بين السلطة والمجتمع. والسلطة لا ينبغي أن تندفع وراء تقسيم المجتمع، بل أن تؤمن بأن من مقومات الديمقراطية وجود الاختلاف، وينبغي أن نعتبر أن العهد الجديد الذي دشنه دستور فاتح يوليوز هو انتصار للجميع، للذين عارضوا وللذين ساندوا. ولهذا، لا ينبغي تضخيم التناقض بين المعارضين للدستور والمؤيدين له. إن تدبيرا جيدا لمرحلة ما بعد التصويت على الدستور يقتضي إعادة النظر في سلوكيات بعض الأحزاب السياسية التي تُصور للرأي العام أن النتيجة التي تحققت لصالح الدستور هي انتصار للمؤيدين على حساب المعارضين، أي أن هناك تفكيرا بمنطق الربح والخسارة، وهذا منطق كان ينبغي تجاوزه، وهو منطق لن يساعد على تدبير المرحلة المقبلة. كان المفترض هو الانطلاق من الدستور الذي جعل «الخيار الديمقراطي» أحد ثوابت الدولة، بما يعنيه من وجود للمعارضة وحريتها في الرأي والتعبير والتظاهر، فهناك من يريد أن يلتف على روح يوم فاتح يوليوز، وأن يدفع بعدم تبني مزيد من تدابير تعزيز الثقة والانخراط في سلسلة إصلاحات اقتصادية وسياسية فعالة، هناك من يريد أن يوقفنا عند لحظة فاتح يوليوز بالقول إن المؤسسة الملكية خرجت منتصرة وإن نسبة المشاركة كانت بمثابة بيعة جديدة، باعتبارها تجديدا للتعاقد على أسس جديدة، لكن يجب الانتباه إلى أن نسبة الذين قاطعوا تظل نسبة محترمة جدا، وينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، وتحتاج إلى طريقة تفكير جديدة للتعاطي معها طبقا لروح الدستور الجديد الذي يؤسس لثقافة احترام الاختلاف. وعليه، ينبغي تجاوز الأحكام الجاهزة التي تذهب، مثلا، إلى القول إن حركة شباب 20 فبراير قد دفنت يوم فاتح يوليوز من خلال نسبة المشاركة المرتفعة، وهو زعم يفيد بأن أصحاب هذا الرأي لم يستوعبوا منطق اللحظة الجديدة التي بدأت في التشكل. إن الدولة تتحرك الآن على إيقاع مطالب حركة شباب 20 فبراير التي طالبت منذ البداية بدستور ديمقراطي وملكية برلمانية، وخطاب 9 مارس إلى وضع الخطوط العريضة للدستور الجديد، غير أن النقاش ركز كثيرا على الجانب المتعلق بصلاحيات الملك، مما أضاع فرصة القبض على المفاتيح الأساسية التي وردت في الدستور الجديد، خاصة تلك المتعلقة بجانب ضمان الحريات وحقوق الإنسان، وهو الجانب الذي يستجيب فيه الدستور الجديد لمطالب القوى المعارضة والحركة الاحتجاجية، وما ينبغي التذكير به أن حركة شباب 20 فبراير كانت تطالب، إضافة إلى اعتماد نظام الملكية البرلمانية، باتخاذ مجموعة تدابير تروم تعزيز الثقة بين الفرقاء السياسيين في المسلسل الإصلاحي، مثل إطلاق سراح المعتقلين السياسيين ومحاربة الفساد وناهبي المال العام، وهناك اعتقاد بأن الشروط متوفرة للاستجابة لهذه المطالب، حيث تم الشروع في تحريك ملفات فساد أبطالها مسؤولون في الجماعات وموظفون في الدولة، وهناك حديث عن إمكانية طي الملفات المتعلقة بحرية التعبير. يتجه المغرب نحو تنزيل مقتضيات الدستور الجديد على أرض الواقع بإجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها تتعلق بالغرفة الأولى، وهو أمر حتم على وزارة الداخلية الإسراع بإعداد الترسانة القانونية المؤطرة للاستحقاقات المقبلة، من قبيل مشروع قانون الملاحظة الانتخابية ومشروع القانون التنظيمي للأحزاب السياسية ومشروع القانون التنظيمي لمجلس النواب ومشروع مدونة الانتخابات، وهي مشاريع يفترض أن يصادق عليها البرلمان في دورة استثنائية تعقد شهر غشت المقبل، وهذه الاستحقاقات التشريعية السابقة لأوانها تجعل الأحزاب في قلب هذه العملية، مما يطرح سؤالا حول ضرورة تجديد النخب الحزبية حتى تكون في مستوى اللحظة السياسية حاليا. رغم وضوح السؤال فإنه لا يمكن الجواب عنه بسهولة، ولا يمكن الجواب عنه بوضوح أيضا، لأن كل الإجابات المقدمة، حين يتعلق الأمر بالأحزاب السياسية، غالبا ما تحكمها خلفيات سياسية أو مواقف إيديولوجية مسبقة، وأحيانا يختلط فيها الحابل بالنابل. وفي تقديري، ينبغي أن ننطلق مما هو موجود، أي من واقع الأحزاب ذاتها وتصورات المواطنين حولها، إذ إن تصور المواطن لدور الأحزاب سلبي في الغالب، والأغرب من ذلك أن بعض قيادات الأحزاب نفسها لا تؤمن بجدوى العمل الحزبي، فأغلب الأحزاب تواجه إشكالات حقيقية. نحن أمام تصورين في ما يخص تنزيل مقتضيات الدستور الجديد بخصوص الأحزاب على أرض الواقع: التصور الأول يقترح تنظيم انتخابات سابقة لأوانها لتأمين الانتقال بشكل سريع ومباشر، والتصور الثاني يقترح تأجيل الانتخابات حتى تتأهل الأحزاب وتستطيع تجاوز الممارسات السابقة. وفي تقديري أن الإسراع بتنفيذ مقتضيات الدستور الجديد سيمكن من إعادة تأهيل الأحزاب في الميدان، إضافة إلى تمكين المجتمع المدني من أدوات الاشتغال. وعندما نتحدث عن الانتخابات فإننا نتحدث عن ثلاثة أطراف: الإدارة، والأحزاب، والكتلة الناخبة. غالبا ما توجه الانتقادات أساسا إلى الإدارة الترابية التي لا تلتزم الحياد، وتعتبر نفسها طرفا في النزاع وتتدخل في توجيه نتائج الانتخابات وفي توجيه الناخبين، لذلك لا يمكن أن يُنزل الدستور الجديد في ظل إدارة ترابية تشتغل بهذا المنطق. ثم هناك أحزاب سياسية تفتقر إلى الديمقراطية الداخلية، وكثير من القيادات الحزبية تعتبر الأحزاب ضيعات خاصة بها، تحصل من خلالها على امتيازات في علاقتها بالسلطة. وهناك كتلة ناخبة ينتقدها الجميع لأن الحديث عن استعمال المال الحرام وشراء الأصوات هو حديث موجه إلى الناخبين. ينص الدستور الجديد، في الفصل السابع منه، على مقتضيات مهمة جدا إذا تم احترامها يمكن أن تؤهل الأحزاب السياسية فعلا، إضافة إلى المقتضيات الخاصة بالمجتمع المدني الذي ستؤثر تقويته إيجابا على الكتلة الناخبة، كما يمكن أن يقف كسلطة مضادة تجاه الإدارة الترابية حتى تقطع مع ممارساتها السابقة. كانت كل الانتخابات السابقة موضوع انتقادات في المغرب، بما في ذلك انتخابات 7 شتنبر 2007، حيث انتقدتها الأحزاب التي حصلت على مراتب متقدمة. إن إجراء الانتخابات يقتضي الخوض في التدابير المتعلقة بها، ومن أبرزها من سيشرف على الانتخابات: القضاء أم وزارة الداخلية أم هيئة وطنية مستقلة، كما أن الملك بإمكانه أن يعيد النظر في التعيينات المتعلقة بالولاة والعمال لضمان حياد أكبر للإدارة الترابية. يتوفر المغرب الآن على نص دستوري وافق عليه المغاربة بنسبة مشاركة تجاوزت 73 في المائة، وهو نص شدد على ضرورة نزاهة وشفافية العملية الانتخابية في ظل حياد كامل للإدارة الترابية. من حيث المبدأ، ينبغي أن تجتهد وزارة الداخلية في التفكير في أفضل وسيلة لضمان نزاهة الانتخابات وشفافيتها، خاصة وأن نسبة التصويت المرتفعة في الاستفتاء الدستوري تُلقي على السلطات مسؤولية كبيرة على صعيد التطبيق الأمثل لنص الدستور وروحه، وأولها أن تحتفظ الإدارة الترابية بمسافة بينها وبين كل الأحزاب السياسية، وهذا لا ينبغي أن ينسينا أن بعض الأحزاب السياسية تستفيد من تدخل الإدارة الترابية، وتعمل ما وسعها العمل للضغط من أجل استمرار استفادتها من خدمات تلك الإدارة رغم أن خطابها المعلن يشدد على ضرورة التزام الحياد. حينما ننتقل من النص إلى واقع الممارسة، حينها نصطدم بالأشخاص الذين يسترزقون من العمل الانتخابي، وهؤلاء موجودون كمسؤولين في الدولة وموجودون كقيادات وطنية أو محلية في الأحزاب السياسية، وعليه فإن الأحزاب تتحمل مسؤوليتها على مستوى منح التزكيات، كما يتحمل المجتمع المدني بدوره مسؤولية التصدي لفضح مفسدي العملية الانتخابية، وفي هذا الإطار يمكن لحركة شباب 20 فبراير أن تلعب دورا كبيرا.