يقول محمد ضريف، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الحسن الثاني، إن منطق الدستور الجديد يقتضي تجاوز منطق الصراع والتنازع بين السلطة والمجتمع، واعتبار أن الدستور الجديد هو ربح للجميع، لا خاسرين فيه. وأكد ضريف أن الدولة مطالبة بمزيد من إجراءات الثقة فيما يخص إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ومحاربة الفساد، والإعداد الجيد للانتخابات المقبلة، وأبرز أن غالبية الأحزاب تواجه تحديات حقيقية، فيما يخص إقرار الديمقراطية الداخلية، وتحسين صورتها أمام المواطنين. فيما يلي نص الحوار: لقد أضاع المغرب سنوات من التقدم الاقتصادي والثقافي والسياسي بسبب الصراع بين السلطة والمجتمع أظن أن الفرصة الآن مواتية للتخلص من كل الآفات السلبية، ومنها بعض القيادات الحزبية التي تستفيد من علاقتها بالسلطة ● رغم إقرار دستور جديد، يبدو أن المغرب لم يتجاوز منطق السلطة والمعارضة، المحكوم بمنطق الصراع والتنازع وليس منطق التوافق والتراضي، كيف تنظر إلى هذا الواقع الجديد؟ ●● أظن أن أغلب الفرقاء السياسيين لم يستوعبوا لحظة فاتح يوليوز 2011، والتي كانت لحظة فاصلة في تاريخ المغرب. لقد منحت المغرب دستورا جديدا، لا علاقة له بالدساتير السابقة التي اعتمدت منذ 1962، لدرجة يمكن القول معها أن المغرب مرّ بثلاث ملكيات: الأولى هي ملكية محمد الخامس، التي عمّرت من سنة 1956 تاريخ الاستقلال حتى 1962 بداية حكم الملك الحسن الثاني، والملكية الثانية هي التي دشنها الملك الحسن الثاني بدستور 1962 واستمرت حتى نهاية يونيو 2011، وهي ملكية عرفت خمسة دساتير إلا أنها كانت مؤسّسة على فلسفة الملكية التنفيذية. ثم الملكية الثالثة التي بدأ تاريخها يوم فاتح يوليوز 2011. ومن الناحية التاريخية يمكن أن نعتبر أن هذا الدستور هو السادس من نوعه في تاريخ المملكة، لكن من الناحية السياسية هو أول دستور للملكية الثالثة للمغرب. ولذلك كان منتظرا أن يقطع مع التدبير الذي ميّز المرحلة السابقة. لقد أضاع المغرب سنوات من التقدم الاقتصادي والثقافي والسياسي بسبب الصراع بين السلطة والمجتمع، وفي تقديري لا يجب أن نكرر هذه التجربة، ولا نريد أن يقسم المغرب مرة أخرى بين تيارين أحدهما مع السلطة والآخر معارض، بل يفترض أن ننظر إلى ما يجري حاليا بأنه نتاج تكامل بين السلطة والمجتمع. والسلطة لا ينبغي أن تندفع وراء تقسيم المجتمع، بل أن تؤمن بأن من مقومات الديمقراطية وجود الاختلاف، وينبغي أن نعتبر أن العهد الجديد الذي دشنه دستور فاتح يوليوز هو انتصار للجميع، للذين عارضوا وللذين وافقوا. وأعتبر أن انقسام الشارع يوم الأحد الماضي إلى فريقين هو بداية سيئة، ولهذا أقول إنه لا يمكن تضخيم التناقض بين المعارضين للدستور والمؤيدين له. ● لكن ألا تعتقد أن البداية الصحيحة تقتضي تبني إجراءات من الدولة تؤسس بها للثقة بين الفرقاء وتدخل بها مرحلة ما بعد التصويت على الدستور؟ ●● دعني أنبه بداية إلى سلوك بعض الأحزاب التي تُصور للرأي العام أن النتيجة التي تحققت لصالح الدستور هي انتصار للمؤيدين على حساب المعارضين، أي هناك رابحين وخاسرين، وهذا منطق كان ينبغي تجاوزه، وهو منطق مخزني لن يساعد على تدبير المرحلة المقبلة. كان المفترض والمطلوب هو الانطلاق من الدستور الذي جعل من ثوابت الدولة «الخيار الديمقراطي»، بما يعنيه من وجود للمعارضة، وحريتها في الرأي والتعبير والتظاهر، وبحقهم كاملا. أعتقد أن هناك من يريد أن يلتف على روح يوم فاتح يوليوز، والدفع بعدم تبني مزيد من الإجراءات التي تعزز الثقة، والانخراط في سلسلة إصلاحات اقتصادية وسياسية فعالة، هناك من يريد أن يوقفنا عند لحظة فاتح يوليوز، بالقول إن المؤسسة الملكية خرجت منتصرة، وأن نسبة المشاركة كانت بمثابة بيعة جديدة، وبالتالي تجديد للتعاقد على أسس جديدة، ولكن يجب الانتباه إلى أن نسبة 27 الذين قاطعوا نسبة محترمة جدا، وينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، لأنها ليست ضئيلة ويمكن تجاوزها. ولذا لا بد من التفكير بطريقة جديدة، طبقا لروح الدستور الجديد، يُحترم فيها الاختلاف، وتُتجاوز الأحكام الجاهزة التي تقول مثلا أن حركة 20 فبراير قد دفنت يوم فاتح يوليوز بنسبة المشاركة المرتفعة، وهو زعم يفيد أن أصحاب هذا الرأي لم يستوعبوا منطق اللحظة الجديدة التي بدأت. ● ولكن إجراءات الثقة التي تحدثت عنها هي مسؤولية الدولة وليس الأحزاب أو الفرقاء الموالين لها؟ ●● أعتقد أن الدولة تتحرك الآن على إيقاع مطالب حركة 20 فبراير، منذ البداية طالبت هذه الأخيرة بدستور ديمقراطي وملكية برلمانية، وخطاب 9 مارس وضع الخطوط العريضة لمشروع الدستور الجديد، لكن للأسف، تم التركيز على صلاحيات الملك مما أضاع الفرصة للقبض على المفاتيح الأساسية التي وردت في الدستور الجديد، خاصة ما يتعلق بضمان الحريات وحقوق الإنسان، ولكن كما قلت فإن الدستور الجديد يستجيب في جزء كبير منه إلى مطالب القوى المعارضة والحركة الاحتجاجية، إلا أن حركة 20 فبراير كان لها مطالب أخرى مثل إطلاق سراح المعتقلين السياسيين ومحاربة الفساد وناهبي المال العام، وأظن أن الشروط متوفرة للاستجابة لهذا المطالب، ولذا بدأ نسمع معلومات مؤكدة عن تحريك ملفات الفساد أبطالها مسؤولين في الجماعات وموظفين في الدولة، وهناك حديث عن إمكانية طي الملفات المتعلقة بحرية التعبير مثل ملف رشيد نيني، كما أن هناك أمل في أن يعلن الملك في خطاب 30 يوليوز، أي خطاب العرش، عن إجراءات تقطع مع ملف الاعتقال السياسي. وكما قلت المغرب يعيش مرحلة تاريخية، خاصة وأن التفكير قد بدأ في إحالة القوانين الانتخابية التي تفيد أنباء أن وزارة الداخلية انتهت من إعدادها، وستحيلها على البرلمان الذي قد تمدد دورته التشريعية إلى ما بعد 14 يوليوز الجاري، حتى يتمكن من مناقشة والمصادقة على القوانين التي ستعرض عليه. ● الدستور الجديد يفرض تجديد المؤسسات السياسية، مما يجعل الأحزاب في قلب هذه العملية، ألا ترى أن تجديد المؤسسات يتطلب تجديد النخب الحزبية حتى تكون في مستوى اللحظة السياسية حاليا؟ ●● رغم وضوح السؤال لا يمكن الجواب عنه بسهولة، ولا يمكن أن يكون الجواب عنه بوضوح أيضا، لأن كل الإجابات المقدمة حين يتعلق الأمر بالأحزاب السياسية، غالبا ما تحكمها خلفيات سياسية أو مواقف إيديولوجية مسبقة، وأحيانا يختلط فيها الحابل بالنابل. وفي تقديري ينبغي أن ننطلق مما هو موجود، أي من واقع الأحزاب ذاتها، وتصورات المواطنين حولها. إذ أن تصور المواطن لدور الأحزاب سلبي في الغالب، والأغرب من ذلك أن داخل الأحزاب نفسها هناك من يسيء إليها، مما يطرح إشكالا مضاعفا عليها. أعتقد أن أغلب الأحزاب تواجه إشكالات حقيقية. ● إذن كيف يمكن القطع مع هذه المرحلة من تاريخ الأحزاب؟ ●● نحن أمام تصورين فيما يخص تنزيل مقتضيات الدستور الجديد بخصوص الأحزاب على أرض الواقع: التصور الأول يقترح تنظيم انتخابات سابقة لأوانها، وعلينا الانتقال بشكل سريع ومباشر، والتصور الثاني يقترح تأجيل الانتخابات حتى تتأهل الأحزاب وتستطيع تجاوز الممارسات السابقة. وفي تقديري أن الإسراع بتنفيذ مقتضيات الدستور الجديد سيمكن من إعادة تأهيل الأحزاب في الميدان، وليس الأحزاب فقط بل المجتمع المدني أيضا، وعندما نتحدث عن الانتخابات هناك ثلاث أطراف: الإدارة، والأحزاب، والكتلة الناخبة، لكن النقد يتوجه أساسا إلى الإدارة الترابية التي لا تلتزم الحياد، وتعتبر نفسها طرفا في النزاع وتتدخل في توجيه نتائج الانتخابات وفي توجيه الناخبين، لذلك لا يمكن أن يُنزل الدستور الجديد في ظل إدارة ترابية تشتغل بهذا المنطق، ثم هناك أحزاب سياسية تفتقر إلى الديمقراطية الداخلية، وكثير من القيادات الحزبية تعتبر الأحزاب ضيعات خاصة بها، تحصل من خلالها على امتيازات في علاقتها بالسلطة. وهناك كتلة ناخبة ينتقدها الجميع، لأن الحديث عن استعمال المال الحرام، وشراء الأصوات، موجه إلى الناخبين. الدستور الجديد في الفصل السابع منه ينص على مقتضيات مهمة جدا إذا تم احترامها يمكن أن تؤهل الأحزاب السياسية فعلا، وكذلك الفصل الخاص بالمجتمع المدني، بحيث أن تقويته سيؤثر إيجابا على الكتلة الناخبة، كما يمكن أن يقف كسلطة مضادة تجاه مؤسسات الدولة والإدارة الترابية حتى تقطع مع ممارساتها السابقة. إذا علينا أن نسرع، ما دام الملك قد أسرع في إصدار الدستور، وما دامت الشروط متوفرة.. ● لكن الذين يطالبون بتأجيل الانتخابات يبررون موقفهم بأن المؤسسات القائمة هي نتاج انتخابات غير شفافة تماما، ويمكن أن تؤثر بشكل قوي، خاصة المجلس الجماعية، على الانتخابات المقبلة التي يريد الجمع أن تقطع ممارسات الماضي؟ ●● هذا تخوف مشروع، ولكن علينا أن نعرف أن كل الانتخابات السابقة كان موضوع انتقادات في المغرب، حتى انتخابات 2007 انتقدتها الأحزاب التي حصلت على مراتب متقدمة. رأي أن الإسراع إلى الانتخابات يعني الخوض في التدابير المتعلقة بها، أبرزها من سيشرف على الانتخابات القضاء أم وزارة الداخلية أم هيئة وطنية مستقلة، كما أن الملك بإمكانه أن يعيد النظر في التعيينات المتعلقة بالولاة والعمال لضمان نزاهة الانتخابات، كذلك المجتمع المدني والأحزاب، كلها منوط بها حماية العملية الانتخابية، وأظن أن الفرصة الآن مواتية للتخلص من كل الآفات السلبية، ومنها بعض القيادات الحزبية التي تستفيد من علاقتها بالسلطة. أما من يطالب بالبدء بالانتخابات الجماعية، فعليه أن ينتبه إلى مقتضيات الدستور الجديد التي تنص على جهوية متقدمة، وهو ما يحتاج إلى ترسانة قانونية جديدة، ومنها قوانين تنظيمية، تحتاج إلى مناقشة عميقة ومصادقة من قبل البرلمان. أعتقد أن هذا المطلب قد يسمح بالالتفاف على روح الدستور الجديد، لأن الأمر قد يحتاج حينها إلى أكثر من ثلاث سنوات. ولهذا الأولوية في نظري ينبغي أن تكون للانتخابات التشريعية، والتي منها ستنبثق حكومة جديدة. ● هناك من يعتقد أن التحدي الأكبر خلال المدى المنظور مطروح على السلطة، ومدى جاهزيتها للتكيف مع روح الدستور الجديد ومتطلبات الديمقراطية؟ ●● بين يدي نص دستوري وافق عليه المغاربة بنسبة مشاركة تجاوزت 73 في المائة، كما تجاوزت 98 في المائة من الأصوات الإيجابية، وهذا النص عندما يتحدث عن الانتخابات يؤكد أنها يجب أن تكون حرة ونزيهة وشفافة.. ● (مقاطعا)، ولكن قد لا يكون النص مطابقا للواقع؟ ●● المهم اليوم أننا عندنا نص دستوري، ومن حيث المبدأ، ينبغي أن تجتهد وزارة الداخلية في التفكير في أفضل وسيلة لضمان نزاهة الانتخابات وشفافيتها. هناك من يقول إن القضاء كفيل بتحقيق هذا الهدف، وهناك من يقول إن لجنة مستقلة قد تكون الأفضل. لكن أعتبر أن نسبة التصويت المرتفعة تُلقي على السلطات مسؤولية كبيرة في التطبيق الأمثل لنص الدستور وروحه، وأولها أن تكون الإدارة الترابية محايدة وعلى مسافة من جميع الأحزاب. إلا أن مما ينبغي قوله أيضا أن بعض الأحزاب تستفيد من تدخل الإدارة الترابية، ويمكن أن تضغط لكي تستمر الإدارة الترابية في التواطؤ معها، إلا في العلن تطالب بالعكس، إنها «تأكل الغلة وتسب الملة» كما يقول المثل، وهذه الأحزاب توجد في اليسار واليمين والوسط. ● إذا هل تعتقد أن مشاريع القوانين التي ستعرض قريبا على البرلمان هي التي ستظهر مدى جدية السلطة مستقبلا؟ ●● أكثر من ذلك، الآن صودق على الدستور، ومدونة الانتخابات تتضمن، حسب المعطيات التي أتوفر عليها، الكثير من الآليات لضمان الشفافية ومحاربة الفساد الانتخابي. المشكل هو حينما ننتقل من النص إلى الواقع والممارسة، حينها نصطدم بالأشخاص الذين يسترزقون من العمل الانتخابي، وهؤلاء موجودون كمسؤولين في الدولة، وموجودون كقيادات وطنية أو محلية في الأحزاب، وعلى هذا المستوى، فإن الأحزاب تتحمل مسؤوليتها على مستوى منح التزكيات، ويتحمل المجتمع المدني بدوره مسؤولية كبرى، وأنا أتصور أن حركة 20 فبراير يجب أن تلعب دورا في حماية العملية الانتخابية من كل الممارسات التي تفسدها. ● قلتم إن حملات قد تبدأ لمحاربة الفساد لكن رئيس مجلس المنافسة صرح قبل يومين يقول إنه من الصعوبة الاقتراب من بعض القطاعات الاقتصادية الحساسة، ألا تعتقد أن الدولة لا تمتلك الرؤية والإرادة الكافية لمحاربة الفساد؟ ●● أظن أنه في العمل السياسي يجب التوفر على رؤية واضحة بخصوص الموضوع الذي نتعاطى معه، والسؤال المطروح الآن في المغرب هو هل التغيير الذي نعيشه هو نتيجة عمل ثوري أم نتيجة عمل إصلاحي. في الحالة الأولى معلوم أنه يتم فتح كل الملفات دفعة واحدة، وهدم كل البنيات القائمة من أجل بناء أخرى بديلة، أما في العمل الإصلاحي فإن الأمر يتطلب التوافق، ولذلك قد تكون هنا ملفات يصعب الاقتراب منها، ولكن يبقى أن هناك أمل في أن تُفتح مع الوقت، وأن يُسمح بالاقتراع منها، ولذلك الدستور الجديد ليس دستور المرحلة الديمقراطية، بل دستور الانتقال الديمقراطي، المغاربة يعملون من أجل بناء أحزاب قوية، ومجتمع مدني قوي، ورأي عام قوي، وآنذاك الكثير من الطابوهات ستسقط، وحينها يمكن الاقتراب من الملفات الحساسة، وأعتقد أن هذه أول مرة يربط فيها الدستور ممارسة السلطة بالمحاسبة، ولا أظن أن هذه مقاربة تبريرية بل مقاربة واقعية تتعامل مع الواقع الذي يعيشه المغرب، الذي يعيش حالة إصلاحية وليس ثورية، ولذلك لا زال محكومين بمنطق اللحظة الإصلاحية الذي يستوجب التعامل التدريجي مع القضايا والملفات.