هي قصة واقعية هزّت اليمن والوطن العربي، بل العالم بأسره، مسرحها بلاد سحرية، أساطيرها مذهلة، ومنازلها شبيهة بقطع الكعك والزنجبيل، وذات أبراج طينية صغيرة تجثم على قمم الجبال المنثنية، تتضوّع منها ببهجة رائحة البخور، حيث ملكة سبأ، تلك المرأة فائقة الجمال والصلبة، التي أحرقت قلب الملك سليمان، وحيث لا يخرج فيها الرجال أبدا دون خناجرهم المعقوفة والمعلّقة بفخر على أحزمتهم، أما بطلتها فهي نجود، تلك الطفلة ذات العشرة أعوام أو أدنى وذات الغمّازة على خدّها الأيسر، التي أجبرها والدها على الزواج من رجل يكبرها بثلاثة أضعاف عمرها في جلسة من جلسات القات، فأطفأ إشراقتها وجعلها تبدأ رحلة التمرد على قدرها المستحيل، الذي سرعان ما تحول إلى واقع بعد أن تمرّدت عليه رفقة الصحافية الفرنسية دلفين مينوي، ذات الأصول الإيرانية، والعاملة في مجال حقوق الإنسان، بعد أن تداخلت قصتها مع خيوط مسيرتها المهنية، التي ابتدأتها صحفية منذ اشتغالها مراسلة بجريدة «لوفيغارو» الفرنسية لتمنح الطفلة الصغيرة قارب النجاة بعد أن غاصت في أعماق بحر الموت لتطالب بما هو لها ولأترابها في زمن ضاق صدره بالحقيقة. إنها نجود، ابنة العاشرة وأصغر مطلقة في العالم. كنت أشعر بأنني أميرة صغيرة تعيش في مكان آخر وفي زمن آخر. هدايا متعددة ومتناثرة في مكتب «اليمن تايمز»، ابتسامات عريضة بيضاء تنتقل من واحد إلى آخر. كنت أريد أن أبقى هناك وسط هؤلاء الناس الذين عشقتهم كثيرا، لكنني كنت أريد معانقة والدتي وشقيقتي الصغيرة هيفاء، كنت أريد أن أصالح والدي وأطلب السماح والمغفرة منه، فربما بقدر ما جاءتني فعلتي بالحرية بقدر ما لطخت سمعة العائلة، حسب ما قاله لي عمي. زهوة الانتصار وأنا أهمّ بالخروج من قاعة المحكمة كنت أشعر بالنصر الذي تحقق لي أخيرا. كنت أريد أن أنتظر القضاة الثلاثة الذين ساندوني في محنتي وتفهموا ظروفي ومعاناتي لأشكرهم وأقبّل أياديهم، لكنني طرت سريعا رفقة شدا إلى بيت عائلتي لأعانق والدتي وهيفاء وروضة الصغيرتين وأقنعتهما بالخروج معا إلى أحد المطاعم العجيبة لتناول البيتزا، التي «تقرمش» تحت الأسنان مثل كعكة كبيرة عليها الكثير من الأنواع اللذيذة كالطماطم والذرة والدجاج والزيتون، وهناك أخذنا نشاهد الندلاء وهم يضعون قبعاتهم الصغيرة على رؤوسهم ويأخذون الطلبات من هنا وهناك وهم يصيحون عبر المذياع المنصب على المنصة الصغيرة في آخر الرواق. كان الجميع ممّن تواجدوا في ذلك المطعم الواسع يحاولون أكل البيتزا بتقطيعها بأدوات المطبخ (السكين والشوكة) عكس الطريقة التقليدية اليمنية (بالأيدي) التي طالما تعودنا عليها. حاولت مجاراتهم، لكنني فشلت بعد محاولتي الأولى التي نثرت فيها قطعة البيتزا على الأرض، ولاحظت هيفاء فتاة أخرى تفرغ زجاجة عصير الطماطم فوق قطعتها فأرادت هي لنفسها ذلك، لكن حلقها سرعان ما التهب من أول مرة قضمة واحمرت عيناها كليا. وعندما عدنا إلى المنزل بدأنا، أنا وهيفاء، نذهب إلى والدتي في المطبخ قائلين لها: نحن زبونتان في مطعم البيتزا جئنا لتناول أطباقنا المفضلة. عودة شقيقي فارس سرعان ما حضرّت والدتي وجبة الغداء في اليوم التالي وصاحت هيفاء بالجميع إلى المائدة، وما أن شرعنا في وجبتنا المتواضعة حتى دوّى صوت طرق على الباب، فسألني شقيقي محمد: «هل ما زالت تنتظرين صحافيين؟؟»، فقلت له: «لا ليس اليوم»، فقالت له والدتي: «ربما هي شاحنة المياه التي جاءت لملء الخزان»، لكنني أجبتها بالقول: «كلا يا أمي فشاحنة المياه لا تأتي إلا في الصباح». مرّت دقائق قليلة حتى سمعنا صرخة ابتهاج شقيقي محمد التي لم تتأخر كثيرا. إنه فارس.. لقد عاد فارس. أحسست حينها بقواي تخور كما هو حال والدتي التي انتصبت سريعا وأخذت تجري باتجاه الباب وبدت بمعانقة فارس كثيرا وضمه إلى صدرها وقد استطاعت أشعة الشمس أن تغير بشرته، كما استطاعت الحياة أن تأكل منه شيئا حتى بدا نحيلا. إذ لم يعد فارس المراهق كما في صورته الوحيدة التي احتفظت بها والدتي طوال فترة غيابه. لزم فارس الصمت وقد استقام كالرمح وبدا منهكا وهو بين أحضان والدتي وأخذ ينظر إلى والدي بألم وحسرة كبيرتين قائلا له: «سامحني يا أبي لأنني صرخت بك ذات يوم وأرغمت على ترككم دون أن أقول لكم... فقد كنت أشعر بالخجل وأنا أطلب منك النقود لشراء الثياب التي يشتريها أصدقائي. كنت أحلم بملابس جديدة مثلهم». كان يقول ذلك وهو يريد أن يقبل يدي والدي، لكنه لا يزال بين أحضان والدتي التي رفضت تركه، لكنه استطاع أن يفرّ منها وينهال على يدي والدي يقبلهما ويطلب مغفرته ومسامحته. نسيان الجوع.. وعودة الفرحة فرحتنا بعودة فارس وقد أنستنا جوعنا وأنستنا تناول طعامنا الذي أخذ يصاب بالبرودة شيئا فشيئا. كنا مندمجين لحظة الاستماع إلى حكاية فارس وقصته التي أوصلته إلى السعودية منذ خروجه من المنزل حتى عودته الآن. كان قد واجه المصاعب الكثيرة. «واجهت مشاكل كبيرة وكنت أحلم بالعودة منذ زمن، لكنني لم أستطع توفير ثمن الرحلة، لكن في الفترة الأخيرة عزمت على العودة وبدأت بالادخار حتى جمعت ثمن الرحلة وها أنا أعود، لكنني لن أهجركم بعد ذلك، سأحاول تدبر أمري هنا كالآخرين، سأبتاع العلكة في الشوارع والطرقات» قال ذلك وقد بدا مستسلما للأمر الواقع مهزوما يشعر بالغثيان، لكنه عاد.. عاد أخيرا.. بعودة فارس إلى البيت عادت بعض السعادة والضحكات إلينا، وبدا هواء آخر الصيف يهب على صنعاء، معلنا عودة الأمسيات المنعشة وأولى قطرات المطر، فعمّا قريب ستصفرّ أوراق الأشجار ويعاود باعة الأغطية المتجولين الظهور عند المفترقات، لكن الأهم من ذلك أنني سأعود إلى المدرسة كي أبدأ السنة الدراسية. سأعود إلى تلك اللحظات التي طالما انتظرتها منذ زمن طويل، فغدا ستبدأ أولى أيامي الدراسية وربما تمر لمرافقتي صديقتي الوحيدة ملاك التي اشتاق إليها كثيرا، وربما سنذهب من جديد معا لرؤية مياه البحر الزرقاء، لكنني على الأرجح سأجعلها ترى حلّتي الجديدة ومحفظتي الجديدة التي سارعت إلى تحضيرها في الليلة السابقة قبل نومي. تلك الحقيبة الجديدة المصنوعة من القماش والممتلئة بالدفاتر الجديدة وأقلام التلوين والرصاص بعدما تمرّنت بها على كتابة اسمي من جديد على قصاصات صغيرة من الورق. وعندما فتحت عيني في الصباح التالي أحسست بأن قلبي يختلج، فنهضت على رؤوس أصابعي كي لا أوقظ الآخرين. نظفت أسناني وأديت صلاتي كما هي العادة وسرت ببطء شديد حتى وصلت إلى مرقد شقيقتي هيفاء وقلت لها: «هيا سنتأخر عن المدرسة. استيقظي كفاك نوما». كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب