هي قصة واقعية هزّت اليمن والوطن العربي، بل العالم بأسره، مسرحها بلاد سحرية، أساطيرها مذهلة، ومنازلها شبيهة بقطع الكعك والزنجبيل، وذات أبراج طينية صغيرة تجثم على قمم الجبال المنثنية، تتضوّع منها ببهجة رائحة البخور، حيث ملكة سبأ، تلك المرأة فائقة الجمال والصلبة، التي أحرقت قلب الملك سليمان، وحيث لا يخرج فيها الرجال أبدا دون خناجرهم المعقوفة والمعلّقة بفخر على أحزمتهم، أما بطلتها فهي نجود، تلك الطفلة ذات العشرة أعوام أو أدنى وذات الغمّازة على خدّها الأيسر، التي أجبرها والدها على الزواج من رجل يكبرها بثلاثة أضعاف عمرها في جلسة من جلسات القات، فأطفأ إشراقتها وجعلها تبدأ رحلة التمرد على قدرها المستحيل، الذي سرعان ما تحول إلى واقع بعد أن تمرّدت عليه رفقة الصحافية الفرنسية دلفين مينوي، ذات الأصول الإيرانية، والعاملة في مجال حقوق الإنسان، بعد أن تداخلت قصتها مع خيوط مسيرتها المهنية، التي ابتدأتها صحفية منذ اشتغالها مراسلة بجريدة «لوفيغارو» الفرنسية لتمنح الطفلة الصغيرة قارب النجاة بعد أن غاصت في أعماق بحر الموت لتطالب بما هو لها ولأترابها في زمن ضاق صدره بالحقيقة. إنها نجود، ابنة العاشرة وأصغر مطلقة في العالم. كانت ضحكات والدتي على كلمات شقيقتي منى تزيد من رحابة الفرح والشجون داخل المنزل الصغير، الذي لا يؤوي بداخله سوى الخبز وبعض الجبن والحليب، الذي تجود به الأغنام التي يقتنيها والدي. كنا نعيش بفرح عارم وسعادة كبيرة تنسينا متاعب الحياة وهمومها، خاصة أمام بعدنا وانقطاعنا عن العالم الخارجي، فلا تلفاز ولا مذياع ولا صحيفة ولا... ولا... حيث اللاشيء من جديد هنا في «خارجي». كنا نمرح دون أن نعي شيئا بعد، ودون أن نعرف شيئا سوى لعب الغميضة ومناكدة الدجاج بين الفينة والأخرى، لكنني مع ذلك كنت أصرّ دائما على والدتي لتمنحي إجابة عن سؤالي الذي حملته معي دائما: تاريخ ميلادي. لكنها كانت تتهرّب على الدوام. تنظيم الأسرة الحقيقة أن والدتي كانت تتهرب لأنها لا تملك أدنى فكرة عن تاريخ ميلادي، فلا وجود لاسمي ولشهرتي في السجلات الرسمية، فنحن في الريف حيث يولد الأطفال بكثرة ودون بطاقة هوية أو شهادة ميلاد. لكن والدتي كانت تقول دائما إنني أُقارِب العشرة أعوام، رغم أنني أستطيع أن أقول إنني ربما لم أكن أتعدى بعد الثامنة أو التاسعة حين زواجي. «هذا هو سنك وهذه هي الطبيعة التي لا يمكن أن نسير بعكسها»، تقول لي والدتي في بعض الأحيان، مفسّرة لي كثرة حملها وامتناعها عن تناول جرعات الحبوب التي وصفتها لها عاملة مؤسسة تدعى تنظيم الأسرة، فقد كانت أمي لا تبالي بكثرة الحمل، فهذه هي سنة الحياة والطبيعة التي خلقنا الله عليها، ولا يمكن لأحد تغييرها أو السير بعكسها تماما. لقد كانت تهتم بالمنزل بينما كنت أشاهد شقيقتي، جميلة ومنى، وهما تذهبان لاستقاء الماء من النبع بواسطة صفائح صغيرة صفراء دون أن أكون قادرة على أن أتبعهما في ذلك المناخ الجاف، الذي يجعلك تشربين عدة لترات من الماء في اليوم لتفادي الجفاف. كنت أشفق عليهما كثيرا، لكنني كنت أسأل نفسي في تلك اللحظة: ومن الذي سيجلب الماء؟؟، فأشقائي في المدرسة، ووالدي في المرعى مع ماشيته، وأنا لا زلت صغيرة وغير قادرة، ووالدتي منشغلة بشؤون البيت. إذن فلتفعلا ذلك!!! ذهب اليمن وما إن تجلب شقيقتاي الماء من النبع حتى تعودا ثانية لجلب الأغصان لتغذية نار التندور (فرن الخبز التقليدي باليمن)، الذي من خلاله نعد فطائر الخبز المقرمشة، التي نرويها على الدوام بالعسل (أو ذهب اليمن كما يقول الكبار) في انتظار طعام الغداء التقليدي، الذي تعدّه والدتي في قدر مليء بالمرق (بطاطا ويخنه وقطع من الخروف أو العجل مع صلصة الحلبة) الذي نغمس أيدينا بداخله لإعداد كرات الرز بعد مزجها بذلك المرق قبل أن تختفي سريعا في أفواهنا دون صحون أو سكاكين أو معالق، فنحن تعودنا أن نتناول الطعام هكذا في قرى اليمن السعيد. كانت حياتنا بسيطة، لكنها هادئة، فلا وجود للكهرباء ولا مياه جارية سوى مياه النبع فقط، ولا مراحيض سوى تلك الحفر البسيطة المخبأة وراء جدران قصيرة من القش وبعض الأحجار من الآجر، وغرف النوم لدينا هي نفسها غرف الضيافة، التي تتحول إلى مهجع لنا في الليل وصالة لاستقبال الزائرين لنا في النهار، حتى الضيوف لا يأتون إلينا كثيرا في النهار، فرّب العائلة (والدي)غير موجود في البيت، ولن يعود سوى بعد غياب الشمس مع قطعان الماشية، التي يستيقظ معها منذ أشعة الشمس صباحا بعد أن يجلب لنا ما درّت من حليب تحوله والدتي إلى ألبان وأجبان يقينا جوعنا في أيام كثيرة. يذهب والدي وقد تزيّن بخنجره المعقوف، الذي لا يفارقه إطلاقا، فهذا الخنجر (الذي يختلف سعره حسب قبضته، التي تكون مصنوعة من البلاستيك أو قرن حقيقي لوحيد القرن) هو سلاح للأبهة والثقة بالنفس ورمز العدالة القبلية، ويمنع، حسب ثقافاتنا القبلية، استخدامه للدفاع بالقوة أو مهاجمة الخصم في حالة الخلاف، لكونه أضحى يستخدم كوسيلة التحكيم في المنازعات، والذي لا نحتاج إليه في التقاتل والصراعات بين الرجال إلا في حالات نادرة . كان ذلك الخنجر الذي غرسه والدي فوق لباسه التقليدي أسفل البطن يشكل مصدر إلهام وقوة بالنسبة إليه، وكان يحرص دائما على التسلح به من طرف شقيقي الكبير محمد، خاصة أن الشائعات راجت كثيرا حول وجود عصابات للمتاجرة بالأولاد اليمنيين وبيعهم في المملكة العربية السعودية، وكانت بالتالي تشكل لنا، نحن القرويين، كارثة كبيرة أخذت تصيب الأطفال الصغار بالجنون وتدفعهم إلى البكاء والصراخ كلما اقترب منهم رجل غريب عن القرية النائية، لكن مع ذلك كنا حريصين جدا على عدم الابتعاد عن المنزل وعن أنظار والدتي، التي لا تزوغ نظراتها عنا خشية وقوع ما لا يمكن حسبانه، وهو الذي وقع فيما بعد لأحد أطفال قريتنا الصغيرة بعد أن تم اختطافه من طرف أحد الرجال ولم يتم العثور عليه إلا بعد أربع سنوات عندما تلقت عائلته مكالمة هاتفية من شخص غريب أفاد بوجود الصغير «أحمد» لديهم في السعودية ويعمل راعيا للأغنام. وعندما عاد والدي في المساء أخذت والدتي تتحدث معه عن تلك الحادثة، التي وقعت للصغير «أحمد»، ثم بدأ الاثنان في الصراخ دون أن نفهم، نحن الصغار، سبب ذلك حتى خرج والدي تاركا البيت باتجاه مجلس الرجال في القرية، الذي تعود فيه على أخذ جرعات من القات اليمني الشهير، قبل أن يعود من جديد وينضم إلينا على طاولة العشاء، وقد بدا مبتسما (ربما فعل القات فعلته حينها) ويبدأ بمداعبتنا وملاطفتنا ودعوته لنا إلى الاحتراس الشديد من الغرباء وعدم الابتعاد عن البيت إطلاقا. بدأت أتأمل والدي عن قرب وأتأمل خنجره المعقوف أسفل بطنه، والذي طالما افتخر به على الدوام دون أن أعلم حينها بأن هذا الخنجر سيتم استعماله بالتحديد ذلك اليوم، الذي سيكون بداية تحول في حياتي إلى الأسوأ بعد أن اضطررنا للهروب من القرية في أربع وعشرين ساعة فقط باتجاه صنعاء. كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب