ستترك المرارة أثرها في شعر نزار قباني، وبالأخص في المرحلة المتأخرة من شعره ومن حياته. وهو للحقيقة يكون قد قرأ فنجان الأمة العربية منذ القصيدة الجميلة «قارئة الفنجانّ» التي غناها عبد الحليم حافظ، وكأنه يستشرف أمرا جللا سيقع لهذه الأمة، وسنرى أنه سيتدرج في الإفصاح عن «مواقفه الشعرية» تباعا في المرحلة التي أقام فيها في لندن. لقد بدأ الرجل في إطلاق النار على الجميع، وكأنه، كما يذهب إلى ذلك بعض العالمين ببواطن الأمور، كان مدفوعا ومحرضا من طرف قيادات سياسية عربية بما فيها تلك القيادات التي نقول عنها»رجعية» ومتخلفة و»لاديمقراطية»، فهذه الأنظمة التي ينتقدها، هي التي تفسح له المجال في الصحف التي تملكها، وهي التي تنشر شعره على الصفحات الأولى لجرائدها. كانت هذه علامة لافتة في تجربة هذا الشاعر، وفي دخول الشعر إلى لعبة السياسة.. كان هناك نوع من حنين العرب «الأماليد» إلى استعادة ذلك الغرض الشعري القديم، ألا وهو» الهجاء»، ولو قدموا من أجل إحيائه المال الوفير، لأن العرب، كما يقول الغذامي، ما هم في النهاية إلا مجرد «ظاهرة صوتية». هل كان نزار قباني ظاهرة صوتية؟ من الصعب تماما قول ذلك، فالرجل أحد أعمدة الشعر العربي الحديث بلا منازع، وأكثرهم جماهيرية ومقروئية في العالم العربي، وهو الشاعر العربي الوحيد مع محمود درويش ومظفر النواب الذين كانوا أصحاب جماهير، وكان قباني شاعرا قويا ومنشدا من عيار ثقيل لنصوصه، وعلى نصوصه تربت أجيال شعرية، كما أن طريقته في الأداء الشعري قد أصبحت علامة دالة عليه. منذ قصائد «هوامش على دفتر النكسة» ظهرت البوادر الأولى لشاعر قريب من الوجدان العربي الشعبي العام، لكنه ظل مترددا، يهرب كل مرة إلى قصيدة «الغزل» أو قصيدة الحب التي كان يتقنها، لأنه كان يعرف تقنيتها ومرجعيتها جيدا، لكن قصيدة «المهرولون» التي كان كتبها مباشرة بعد توقيع ياسر عرفات لاتفاقية أوسلو في سنة 1995 قد هزت الوجدان العام، وعبرت عن الموقف الشعبي العربي من اتفاقية أوسلو، وفيها هوجم عرفات شر هجمة وكال له قباني كل الأوصاف. بعد مضي أكثر من 13 عاما على كتابة هذه القصيدة لا تزال راهنيتها موضع إعجاب، فلا الدولة تحققت ولا القدس عادت، وما هذا في رأي قباني إلا تتويجا لحالة السقوط العربي المتواصل منذ سقوط غرناطة إلى الآن، والنتيجة أن «عروق الكبرياء قد يبست فينا». عندما نشرت قصيدة «المهرولون» في أكتوبر من سنة 1995 تلقفها الناس، وترددت على كافة الألسن، ووجد فيها السياسيون الوصف الدقيق للوضع الفلسطيني وللحال العربي على وجه العموم، وأصبحت أية حركة في اتجاه أمريكا هي «هرولة»، وأصبح الوصف الدقيق للانتهازيين الذين يغيرون معاطفهم عند كل زاوية هم مجرد « مهرولين» يثيرون الشفقة. معركة قصيدة «خبز وحشيش وقمر» التي أثارت رجال الدين في سوريا ضده، وطالبوا بطرده من السلك الدبلوماسي، وانتقلت المعركة إلى البرلمان السوري وكان أول شاعر تناقش قصائده في البرلمان. في الحياة الأدبية لنزار قباني عدة محطات يمكن أن نوجزها في التالي: - محطة «هوامش على دفتر النكسة» وقد أثارت القصيدة عاصفة شديدة في العالم العربي، وأحدثت جدلاً كبيراً بين المثقفين.. ولعنف القصيدة صدر قرار بمنع إذاعة أغاني نزار وأشعاره في الإذاعة والتلفزيون. - محطة عام 1990 حيث صدر قرار من وزارة التعليم المصرية بحذف قصيدته «عند الجدار» من مناهج الدراسة بالصف الأول الإعدادي لما تتضمنه من معاني غير لائقة.. وقد أثار القرار ضجة في حينها واعترض عليه كثير من الشعراء في مقدمتهم محمد إبراهيم أبو سنة.. - المعركة الكبيرة التي خاضها ضد الشاعر السوري الكبير «أدونيس» في أوائل السبعينات، قصة الخلاف تعود إلى حوار مع نزار أجراه، منير العكش، الصحفي اللبناني ونشره في مجلة مواقف التي يشرف عليها أدونيس. ثم عاد نزار ونشر الحوار في كتيب دون أن يذكر اسم المجلة التي نشرت الحوار... فكتب أدونيس مقالاً عنيفاً يهاجم فيه نزار الذي رد بمقال أعنف، وتطورت المعركة حتى كادت تصل إلى المحاكم لولا تدخل أصدقاء الطرفين بالمصالحة. - ثم محطة آخر العمر فبعد مقتل بلقيس تنقل بين باريس وجنيف حتى استقر به المقام في لندن التي قضى بها الأعوام الخمسة عشر الأخيرة من حياته. ومن لندن كان نزار يكتب أشعاره ويثير المعارك والجدل.. خاصة قصائده السياسة خلال فترة التسعينات مثل: متى يعلنون وفاة العرب، والمهرولون، والمتنبي، وأم كلثوم على قائمة التطبيع. مقاطع من: «المهرولون» تركوا علبةَ سردينٍ بأيدينا تسمّى «غزّة» عظمةً يابسةً تُدعى «أريحا» فندقاً يدعى فلسطينَ.. بلا سقفٍ ولا أعمدةٍ.. تركونا جسداً دونَ عظامٍ ويداً دونَ أصابعْ... ***** بعدَ هذا الغزلِ السريِّ في أوسلو خرجنا عاقرينْ.. وهبونا وطناً أصغرَ من حبّةِ قمحٍ.. وطناً نبلعهُ من دون ماءٍ كحبوبِ الأسبرينْ!! ***** لم يعدْ ثمةَ أطلالٌ لكي نبكي عليها. كيفَ تبكي أمةٌ سرقوا منها المدامعْ؟ ***** بعدَ خمسينَ سنهْ.. نجلسُ الآنَ على الأرضِ الخرابْ.. ما لنا مأوى كآلافِ الكلابْ!! ***** بعدَ خمسينَ سنهْ ما وجدنا وطناً نسكنهُ إلا السرابْ.. ليسَ صُلحاً، ذلكَ الصلحُ الذي أُدخلَ كالخنجرِ فينا.. إنهُ فعلُ اغتصابْ!!.. ***** ما تفيدُ الهرولهْ؟ ما تفيدُ الهرولهْ؟ عندما يبقى ضميرُ الشعبِ حياً كفتيلِ القنبلهْ.. لن تساوي كلُّ توقيعاتِ أوسلو.. خردلهْ!!.. ***** كم حلمنا بسلامٍ أخضرٍ.. وهلالٍ أبيض.. وببحرٍ أزرقَ.. وقلوعٍ مرسلهْ.. ووجدنا فجأةً أنفسنا.. في مزبلهْ!! ***** من تُرى يسألهم عن سلامِ الجبناءْ؟ لا سلامِ الأقوياءِ القادرينْ. من تُرى يسألهم عن سلامِ البيعِ بالتقسيطِ..؟ والتأجيرِ بالتقسيطِ.. والصفقاتِ.. والتجّارِ والمستثمرينْ؟ وتُرى يسألهم عن سلامِ الميتينْ؟ أسكتوا الشارعَ.. واغتالوا جميعَ الأسئلهْ.. وجميعَ السائلينْ...