أحدث الشاعر العربي نزار قباني رجة كبيرة عندما تحول 360 درجة من شاعر الحب والمرأة، كما أطلق عليه، إلى شاعر لا يشق له غبار، يخوض حتى الركب في شؤون هي بعيدة كل البعد عن شأن آنساته الجميلات. وهي مفاجأة كبيرة نزلت على القارئ العربي لشعر نزار قباني، حتى إن الكثيرين ممن عبروا عن موقفهم السلبي من شعر هذا الشاعر قد عادوا ليراجعوا أوراقهم، عقب النصوص القوية التي كتبها في المرحلة الأخيرة من تجربته الشعرية، وهي المرحلة الأقوى فنيا والأوعى على المستوى الشعري.. وربما أن عمله الدبلوماسي قد منحه بالإضافة إلى تجربة الحياة الثرية، وزخمها الجميل، رؤية أخرى أكثر واقعية إلى الحال العربي الممزق، وكان أن انتهى به الحال إلى غسل يديه من قدرة العرب على تغيير واقع الحال. لو أردنا أن نقرأ قصائد نزار قباني قراءة سياسية ربما لظلمناها كثيرا، فنحن نعرف أن الرجل حتى وإن كان صاحب خبرة دبلوماسية، إلا أنه لم ينج من التأثيرات التي مارسها عليه الجو العام العربي في فترة السبعينات والثمانينيات من القرن الماضي، وهذا الجو الذي اتسم أساسا بانهيار الجدارات، جدارا وراء جدار، وانكشاف الذات العربية في مرآة عريها القميء والفادح. عاش نزار قباني طويلا متغنيا بجمال نسائه اللواتي لا «مشغلة» لديهن إلا المرايا والعطر، بينما كان ياسمين دمشق يرافقه أينما ذهب، ومن بين جنبات شعره تبعث نساء من عصر عمر ابن أبي ربيعة والمجنون وأندلسيات المعتمد بن عباد. استفاق نزار قباني على «وعي شقي» آخر ليجد أن المرأة التي أفرد لها كل هذا القول الجميل ماعادت، وأنها لا يمكن أن تكون في ظل وجود رجل عربي مخصي، رجل عربي عقيم، مسلوب الحرية. يقول نزار قباني عن نشأته: «ولدت في دمشق في آذار (مارس) 1923 في بيت وسيع، كثير الماء والزهر، من منازل دمشق القديمة، والدي توفيق القباني، تاجر وجيه في حيه، عمل في الحركة الوطنية ووهب حياته وماله لها. تميز أبي بحساسية نادرة وبحبه للشعر ولكل ما هو جميل. ورث الحس الفني المرهف بدوره عن عمه أبي خليل القباني الشاعر والمؤلف والملحن والممثل وبذر أول بذرة في نهضة المسرح المصري». التحق بعد تخرجه بالعمل الدبلوماسي، وتنقل خلاله بين القاهرة وأنقرة ولندن ومدريد وبكين ولندن. وفي ربيع 1966 ترك نزار العمل الدبلوماسي وأسس في بيروت دارا للنشر تحمل اسمه، وتفرغ للشعر. وكانت ثمرة مسيرته الشعرية إحدى وأربعين مجموعة شعرية ونثرية، كانت أولها «قالت لي السمراء» 1944. كان ديوان «قصائد من نزار قباني» الصادر عام 1956 نقطة تحول في شعر نزار، حيث تضمن هذا الديوان قصيدة «خبز وحشيش وقمر» التي انتقدت بشكل لاذع خمول المجتمع العربي. تميز قباني بعد ذلك بنقده السياسي القوي، من أشهر قصائده السياسية «هوامش على دفتر النكسة» 1967 التي تناولت هزيمة العرب على أيدي إسرائيل في نكسة يونيو. من أجمل قصائده أيضا وأروعها، القصيدة التي رثا فيها ابنه توفيق، وزوجته بلقيس التي قضت في انفجار للسفارة العراقية في بيروت سنة 1982، وقد رثاها بقصيدة تحمل نفس الإسم «بلقيس». مرحلة لندن من المراحل المهمة في الحياة الشعرية لقباني خاصة قصائده السياسة خلال فترة التسعينات مثل: متى يعلنون وفاة العرب؟ والمهرولون. توفي نزار قباني في لندن في 30 من أبريل سنة 1998 عن عمر يناهز 75، بعد حياة حافلة وسيرة شعرية صاخبة. في قصيدة «متى يعلنون وفاة العرب؟» التي كتبها نزار قباني في السنة التي توفي فيها، ما يشبه التأبين الذاتي للحال العام والخاص، ننشرها هنا للنظر في المرآة. مقاطع من: متى يعلنون وفاة العرب؟ - 1 - أحاولُ منذ الطُفولةِ رسْمَ بلادٍ تُسمّى - مجازا - بلادَ العَرَبْ تُسامحُني إن كسرتُ زُجاجَ القمرْ... وتشكرُني إن كتبتُ قصيدةَ حبٍ وتسمحُ لي أن أمارسَ فعْلَ الهوى ككلّ العصافير فوق الشجرْ... أحاول رسم بلادٍ تُعلّمني أن أكونَ على مستوى العشْقِ دوما فأفرشَ تحتكِ، صيفا، عباءةَ حبي وأعصرَ ثوبكِ عند هُطول المطرْ... - 2 - أحاولُ رسْمَ بلادٍ... لها برلمانٌ من الياسَمينْ. وشعبٌ رقيق من الياسَمينْ. تنامُ حمائمُها فوق رأسي. وتبكي مآذنُها في عيوني. أحاول رسم بلادٍ تكون صديقةَ شِعْري. ولا تتدخلُ بيني وبين ظُنوني. ولا يتجولُ فيها العساكرُ فوق جبيني. أحاولُ رسْمَ بلادٍ... تُكافئني إن كتبتُ قصيدةَ شِعْرٍ وتصفَحُ عني، إذا فاض نهرُ جنوني - 3 - أحاول رسم مدينةِ حبٍ... تكون مُحرّرةً من جميع العُقَدْ... فلا يذبحون الأنوثةَ فيها...ولا يقمَعون الجَسَدْ... - 4 - رَحَلتُ جَنوبا...رحلت شمالا... ولا فائدهْ... فقهوةُ كلِ المقاهي، لها نكهةٌ واحدهْ... وكلُ النساءِ لهنّ - إذا ما تعرّينَ- رائحةٌ واحدهْ... وكل رجالِ القبيلةِ لا يمْضَغون الطعامْ ويلتهمون النساءَ بثانيةٍ واحدهْ. - 5 - أحاول منذ البداياتِ... أن لا أكونَ شبيها بأي أحدْ... رفضتُ الكلامَ المُعلّبَ دوما. رفضتُ عبادةَ أيِ وثَنْ...