لم أكن متأكدا من أنني سأستطيع انتزاع موافقة عميد الأسرى المحررين سمير القنطار لإجراء أول حوار صحفي لجريدة مكتوبة عقب تحرره من الأسر، خاصة وأنني كنت في بيروت بعد أقل من أسبوع على عملية الرضوان الشهيرة، وذلك بحكم تزاحم أجندته وبرنامجه الذي يبتدئ في الساعة السادسة صباحا ولا ينتهي إلا عند العاشرة ليلا. غير أنني استطعت في النهاية أن انترع دقائق من وقته بعد عشرة أيام من رجوعه إلى لبنان، ليتم اللقاء مع من كان يصرح الصهاينة مفتخرين بأنه لم يولد بعد الرجل الذي سيحرره من أيديهم، فجاء من يجبرهم على ذلك! سمير القنطار ليس شخصية عادية، بل إنك سرعان ما تكتشف أنك في حضرة شخصية مثيرة بذكائها وعمق ثقافتها ورؤيتها التكاملية وتواضعها الجم. إنه الشخص الذي قام بعملية فدائية وهو ابن السادسة عشرة من العمر (بتاريخ 22 أبريل 1979 واستشهد فيها مقاومان وأسر اثنان)، من أجل احتجاز رهائن إسرائيليين لمبادلتهم بأسرى فلسطينيين وعرب، فأصبح أسيرا لدى إسرائيل بعد عملية «نَهَارْيا» الشهيرة التي حملت اسم جمال عبد الناصر، وكانت ردا على اتفاقية «كامب ديفيد» التي وقعها السادات. في هذا الحوار يفتح القنطار صدره لقراء «المساء» متحدثا عن مستقبله مع المقاومة. - ما الذي يمكن أن تقوله حول تجربة ثلاثين سنة من الأسر؟ < تجربة مليئة بالمعاناة وبالصمود، بالتعب والتضحية والعطاء، بالتعلم، كنا نتعلم ونستغل وقتنا دائما في القراءة والمطالعة لتثقيف ذاتنا وتحسين إمكانياتنا. المناضل داخل المعتقل هدفه دائما أن يحسن نفسيته ويبقي على معنوياته مرتفعة ليكون قادرا على مواجهة كل الظروف الصعبة. هذا ما كان يميز بشكل عام تجربة ثلاثين سنة من الأسر. - هل من استراتيجية عملية لتحرير الأسرى (أكثر من 11 ألف أسير فلسطيني وعربي)، خاصة وأنكم أكثر من جرّب الأسر؟ < فقط من خلال المقاومة وأسر جنود صهاينة، ومبادلتهم بالأسرى في سجون الاحتلال، مثلما أكدتها تجربة المقاومة في لبنان. هذه هي الطريقة الواقعية لتحقيق هذا الهدف، وعملية الرضوان فاتحة خير لمناضلي حماس لإنجاز صفقة تبادل مشرفة. - ما الذي يمكن لك أن تقوله حول تجربتك التنظيمية، أنت بدأت مقاوما في صفوف جبهة التحرير الفلسطينية وفي إطارها نفَّذْت عملية جمال عبد الناصر التي أسِرْت فيها، والآن يبدو أنك مقرب من حزب الله؟ ما هي العِبَر التي يمكن استخلاصها من هذه المسيرة؟ < أهم العبر أن كل مقاومة تضع لنفسها أهدافا تعمل على تحقيقها، عليها أن تواصل المسير إلى النهاية. يعني لا يمكن أن نبدأ بمشروع وطني، وتقف عند منتصف الطريق أو إلى ما قبله وتقول انتهينا إلى هنا! لا يمكن، لابد من استكمال المشوار. وفي التجارب الإنسانية أحيانا تقوم قوة بتسليم قوى أخرى لتكمل ما بدأته القوة الأولى، ومرحلة التسلم هي ما يحصل الآن. في المرحلة الماضية كانت هناك قوى في الساحة هي التي أطلقت شرارة المقاومة وحافظت على استمراريتها إلى حين، والآن تسلمت الراية قوة أخرى هي المقاومة الإسلامية في لبنان الجناح العسكري لحزب الله. حيث إنه منذ عشرين أو خمسة وعشرين عاما يقود هذه المرحلة التاريخية من المقاومة ويمثل طليعة هذه المرحلة. لذا فأنا أعتبر أن ما يوجد أمامنا في الحاضر هو استمرار للماضي، هذه مراحل تنتقل فيها الراية من جهة إلى جهة، والراية الآن بيد حزب الله. - هل يمكن إذن أن نعتبر أن المدرسة التي تؤمن بالتكامل بين القوى والتيارات داخل الوطن العربي هي المدرسة الأكثر تأثيرا وفاعلية على هذا المستوى؟ < نعم هذا صحيح، لأنه إذا استثمرنا كل تجربة، بمعنى كل تجربة تأتي إلا وتستثمر ما قبلها من تجارب، سنكون أمام تطور دائم في مشروع المقاومة الذي يتطلع في النهاية إلى تحقيق التحرير والكرامة. - ما هو موقعك الآن، وما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه في الساحة اللبنانية والعربية؟ < أنا الآن مقاوم في صفوف المقاومة الإسلامية، وأعتبر بعد الذي أنجزته المقاومة أن مشروعها في أوجه بدايته في المنطقة، وتحرري هو صفحة جديدة لكي أبدأ مقاومتي من جديد، ومهمتي في المقاومة ستكون بالسلاح لا بالكلام فقط. وسنواصل هذا الكفاح بهمم أكبر من السابق، لأن تحرير لبنان لا يعني تحرير مقاوم أسير، ورسالتي إلى الجميع أن فلسطين ليست قضية الشعب الفلسطيني فقط إنها قضية الأمة العربية وجميع الأحرار في العالم. أما في ما يتعلق بدوري الآن داخل لبنان، طبعا لن يكون من مهمتي الخوض في الخلافات الداخلية وما يهمني هو حماية المقاومة وسلاحها الموجه للاحتلال والعدوان الإسرائيلي الذي يتهدد لبنان في كل لحظة. - ماذا عن فلسطينك التي قلت إنك عائد إليها للمساهمة في تحريرها. هل هي فلسطين الفلسطينية من النهر إلى البحر؟ والتي نفذت من أجلها عملية جمال عبد الناصر وقضيت 30 سنة من الأسر بسببها؟ أم ماذا؟ < بالطبع شعار فلسطين من النهر إلى البحر لا ينبغي أن يسقط لأن نشأة منظمة التحرير الفلسطينية كانت من أجل تحرير فلسطينالمحتلة سنة 1948 وليس ما سقط سنة 1967. ولأن هذا الشعار واقعي، وإمكانية تحقيقه إمكانية واقعية جدا جدا. إن المجتمع الصهيوني مجتمع متفكك ويعاني من أزمات كثيرة، وبالمقابل هناك مقاومة اشتد عودها ونضجت خبرتها واستطاعت أن تهزم هذا العدو في سنة 2000 وتقسم ظهره أثناء عدوان تموز (يوليوز) 2006. - ما هو تقديرك للرؤية التي تقول إن أقرب طريق لتحرير فلسطين يمر عبر التسوية والمفاوضات ومسلسل السلام؟ < يمكن أن نتحدث عن هذه المسألة بالنتائج، وهي أمامنا بوضوح، ففي ما يتعلق بالأسرى لم تحرر المفاوضات التي تجري منذ ست عشرة سنة الأسرى، كما أنها لم تحرر الأرض، في حين أن المقاومة أعطت الدليل العملي على قدرتها على تحرير الأرض والأسرى بدون قيود أو التزامات مع العدو... - ما هو دور العائلة في هذه التجربة الإنسانية الطويلة، تجربة الأسر؟ < طبعا دور العائلة أساسي، لأنها تقف إلى جانب المناضل تعزز صموده وتجعل منه قادرا على مواصلة طريقه دون أن يقلق كثيرا، وهو الدور الذي لعبته أسرتي بدْءا بالوالدة، وشقيقاتي وأخي بسام، إضافة إلى أبنائهم الذين ولدوا وأنا في الأسر، وقد تحملوا كثيرا، إذ لم يزرني أي منهم ولو لمرة واحدة. وقد كنت، كما أقول دائما، نصيب عائلتي في فلسطين. إذ إن قضيتي هي جزء من قضية فلسطين. كما لعب شقيقي دورا كبيرا في نقل قضية الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني، والتعريف بهم في مناطق مختلفة من العالم. - ألا تخشى الاغتيال وقد أصبحت الأضواء مسلطة عليك بشكل غير مسبوق؟ وما هو شعورك إزاء التهديدات المعلنة بتصفيتك؟ < أبدا أنا لا أخشى اغتيالي، وأنا لست أغلى من شهداء فلسطين ولبنان الذين قضوا على مذبح الحرية والكرامة، وهي مسألة أبلغتها إلى رفاقي في المعتقل حيث قلت لهم إنني خارج من السجن وقرار الاغتيال في جيبي. وإذا كان الصهاينة لم يُخيفونني وأنا بين أيديهم فكيف لي أن أخشاهم وأنا حرّ ببلدي. وكل ما أتمناه أن تكون شهادتي مقابل ثمن كبير يدفعه الصهاينة. - هل ستكتب مذكراتك حول تجربتي المقاومة والأسر؟ < بإذن الله، لكن هذا ليس الآن، لأن المشوار طويل وتجربتي في المقاومة لا تزال مستمرة، إذ لم تعد هذه التجربة خلفي، بل لا تزال أمامي وأنا جزء منها، ويمكن لي ذلك فيما بعد، لكن ليس الآن بالتأكيد. - كلمة أخيرة تريد توجيهها؟ < إن قضايا الأمة مترابطة، فعندما نتحدث عن لبنان وعن عدوان تموز نتحدث عن فلسطين، وعندما نتحدث عن الفقراء والكادحين في أي قطر عربي فإننا بالطبع نتحدث عن فلسطين وعندما نتحدث عن المقموعين ومعتقلي الرأي في البلاد العربية نتحدث عن فلسطين، وعندما نتحدث عن التجزئة في الوطن العربي فإننا نتحدث عن فلسطين. إنها حلقات مترابطة ومتداخلة لا يمكن الفصل بين أجزائها، وهي الرسالة التي أتمنى أن يعيها كل مواطن عربي من المحيط إلى الخليج.