من 9 مارس إلى 17 يونيو، لا بد من استحضار جسر الأحداث لربط طبيعة الأشياء بمختلف المعطيات الواقعية المادية ببعضها البعض، في محاولة لاستجلاء الحقيقة أو ما يماثلها. وللتاريخ فقط، ظل الملك أقوى عبر هذه المرحلة، من الناحية الواقعية والمبدئية، من أي فاعلين آخرين. سند ذلك أنه أصر على أن يبقى وفيا للواقع مجيبا عن المخاوف التي عبر عنها الشعب من النخبة، وهي المخاوف التي عبرت عنها جموع المطالبين بالتغيير بعيدا عن الأحزاب السياسية خلال خروجها في 20 فبراير. ولمقاربة أكثر حيادا، لا بد أن نستجلي طبيعة الأشياء من واقع التاريخ من جهة، ومقارنة الحقيقة بالحقيقة من جهة أخرى، وذلك قبل الحسم في ما آلت إليه الأمور والحمد لله على المسلك والمنهج. حينما يقف المرء على طبيعة التحولات الجارية ومقاربتها بالمواقف المبدئية الثابتة لتبين الرؤى، لا تعدو وفق الواقع أن تعبر في آخر المطاف سوى عن المصالح الخاصة لكتلة علائقية، تفسد جراءها كل المشاريع المجتمعية الرصينة، ونقف لا محالة على ما يصطلح عليه بالديماغوجية، وهي التي قال فيها مصطفى علوش: «الديماغوجي هو القائد الذي يبشر بمبادئ، يعلم هو أنها باطلة لجموع يعلم أنها مغفلة». يعود أصل ديماغوجي- ديماغوجية، وهي مفردة من أصل يوناني والتي تعني قائد الشعب أو العمل لمصلحة الشعب، إلى أفلاطون، فهو أول من استخدمه للتعبير عن الامتعاض الذي أحدثته له ميكانزمات النظام الديمقراطي في أثينا -منها الخطاب- والتي كانت وسيلة للاستدارة عن متطلبات الديمقراطية الحقيقية، حيث الخطاب كوسيلة للإقناع وبلوغ مراتب العمل السياسي انتصار على القناعات العقلية المبدئية في إدارة الشأن السياسي وما ينتج عنه من حقوق أخرى، لذلك كان الخطاب الوجداني النضالي وسيلة من أن أجل الاستحواذ على السلطة كغاية، وهو ما جعله يتذمر من استعمال الوجدان بدل العقل. ولهذا كله وصف القادة الديمقراطيين بالديماغوجيين. قبل 20 فبراير وهنا لا نحمل الأشياء ما لا طاقة لها بها، وإنما نقر، إحقاقا للإنصاف والتاريخ، بأن الأحزاب السياسية لم تكن منشغلة، من حيث القناعة، بالمقاربة الدستورية كركيزة رئيسية لتحقيق مشروع مجتمعي سياسي ينتج عنه ما يلبي مطالب التغيير على المستويات الحقوقية بالمفهوم الشمولي للكلمة. ركيزة ذلك أن المسألة الدستورية كانت مناسباتية -مطالب انتخابوية- صرفة، تحاول من خلالها الشركات الحزبية أن تعبر من خلال الخطاب -الوجدان- عن كونها قريبة من هموم الشعب ومنشغلة بطبيعة التطورات النسقية التي لا بد من بلورتها تحقيقا لدولة المؤسسات. وما إن تمر الانتخابات حتى تخف طبيعة هذه المطالب بما يتلاءم وطبيعة التوافقات التي يعرفون، هم أكثر من غيرهم، أنها بمثابة التزامات سرية-ضمنية بين قيادات بعض الأحزاب والسلطة على حد تعبير بعض قياديي أحزاب تدعي أنها من صلب الشعب. سندنا في كل ما سبق، أولا أن هذه الأحزاب وإلى عهد قريب إلى تاريخ 20 فبراير، لم تكن تلامس في مفهوم المراجعات الدستورية -المؤسساتية- إلا ما اصطلح عليه بالجيل الجديد للإصلاحات والمتعلقة بنمط الاقتراع ومدونة الانتخابات وقانون الأحزاب، والتي لا تعدو أن تكون مجرد مطالب إصلاحية تقنية محدودة، وسموها بالجيل الجديد من الإصلاحات. ثانيا، ألم تشارك هذه الأحزاب بمختلف أطيافها في حكومات متعاقبة بدساتير منها الدستور الأخير -1996- من دون أن تحمل فشل سياساتها لهذه الدساتير، خاصة وأن كل المسؤولين كانوا يعتبرون المغرب دولة ديمقراطية بدستور حداثي، تتمتع فيه السلط بكافة ضمانات الفصل بينها وعدم التدخل في شؤون السلطة القضائية على سبيل المثال؟ ثالثا، ألم تساهم هذه الأحزاب -إلا الراديكالية منها، بالرغم مما عرفته من انقسامات في بعضها جراء المسألة الدستورية- عبر مختلف الاستفتاءات الشعبية في إقرار الدساتير التي عرفتها البلاد في تعبئة الشعب من أجل إقراره عبر هذه الآلية -الاستفتاء- لصبغه بصفة الدستور التعاقدي. وإلى الأمس القريب، تبادلت بعض أعضاء الكتلة الاتهامات في ما بينها بخصوص عدم التشاور وغياب التنسيق وما إلى ذلك في شأن التعديلات الدستورية. هذه في الواقع ليست سوى جزء من كل ما يمكن أن تؤاخذ عليه النخبة السياسية -الأحزاب- التي انبرت للدفاع عن موقفها بأنها عبر التاريخ كانت حاملة للواء تحقيق تعديلات دستورية تتماشى وطبيعة المتطلبات المرحلية وما بلغه المغرب من تقدم ومن انخراط ضمن المنظومة الدولية، في تحقيق الحماية للحقوق والحريات وبناء دولة عصرية ديمقراطية، وما إلى ذلك. كفى إذن من الديماغوجية، ولنقف عند حقائق الأشياء حتى لا يطول غياب الشعب عن الواقع ويغرق في مناقشات تفاصيل الطقوس السلطانية، ما يجب أن يزول منها وما لا يجب، لأن السؤال الحقيقي ليس في من تجاوب فعلا مع الشعب حينما طلبه، وإنما في من يخذلون انتظارات المواطنين ويخلفون الموعد عند كل نهاية للسفر الخطابي/الديماغوجي. كلكم تعالت أصواتكم بعد خروج حركة 20 فبراير بأنكم كنتم دائما تطالبون بملكية برلمانية، وأنكم سعيتم قبل هذا الخروج الذي نأى عنكم مسافة إلى تحقيق مصداقية في مطالبه، وأنكم كنتم دائما تنادون بمقاربة دستورية ديمقراطية يتحقق فيها فصل السلط، وتمكين البرلمان من اختصاصات حقيقية، وتأكيد أن القضاء سلطة مستقلة. وعبر كل ذلك المخاض، تأملتم في أنفسكم وأنتم تتصورون غدا يصبح فيه بإمكان رئيس الحكومة أو الوزير الأول -وهي في الواقع كلها تسميات وليست بالضرورة مؤسسات ترتبط بخصوصيات حالما تتوفر تنتج عنها اختصاصات بعينها- (بإمكانه) أن يعين من يشاء في أي موقع يشاء، وأدخلتم الفصل 19 في متاهات قرائية وتأويلات لا يحتملها واقعيا الفصل المذكور، وتغافلتم في كل ما بسطتموه من سجال الحديث عن الواقع الخفي لطبيعة الأشياء الذي كنتم فيه جزءا يقويه والذي لا يستطيع أن يعلو على الحقيقة. إن الفصل 19 في دستور 1996 لم يكن يوحي في تركيبته بما يفيد بأن الملك له صلاحيات التشريع، ولما لم يجد الفصل مع الواقع الممارس في الوجهة المقابلة من يضعه موضع سؤال من طبيعة التأويلات التي تلحقه على أرض الواقع، فإن الأمر في ذلك كان يشي بوجود توافقات على طبيعة التفسير والفعل بين الفاعل (المؤسسة الملكية) والمتفاعل معه (النخبة السياسية)، ومن الجبن والغباء أن يتنكر المرء لتعاقدات يعرف مسبقا أنها جزء من الواقع المتفق في شأنه. في سياق نفس التوجه، تبدو المطالب في بعض منها، في مضمون نفس الفصل، كما لو أن أعتى الديمقراطيات الغربية، التي يعتد بمقاربتها التنظيمية الديمقراطية، تخلو من وجود رموز للدولة تمثلها على المستوى الوطني رقابيا/تحكيميا، وتمثيليا على المستوى الدولي، بما يضمن اختصاصات وازنة باعتبار طبيعتها الرمزية والواقعية. إنه الأمر الذي تحفل به جل، إن لم نقل كل، دساتير الدول العريقة في الممارسة الديمقراطية، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، دستور إسبانيا الذي خص الملك بمكانة بارزة (ابتداء من الفصل 56 إلى الفصل 65)، مكانة رئيس الجمهورية الإيطالية (الفصل 87 من الدستور)، رئيس الجمهورية الفرنسية (من الفصل 5 إلى الفصل 19 من الدستور الفرنسي)، وغير ذلك من الأنظمة التي ساقها عدد من الباحثين مشيرين إلى أنه ليس في الأمر ما يسيء إلى هذه المكانة أو يقلل من أهميتها، ولا تجد لدى مختلف هذه الأنظمة أي حرج أو ما يستدعي مناقشتها ومعالجتها. ومما يعاب على مقاربة بعض من الأساتذة الباحثين -وهي وجهة نظر تحترم- أنهم أسقطوا حتى صفة التحكيم عن مقتضيات الفصل 19 -الدكتور حنين في مقال نشر له في «المساء» و«الصباح»- والحال أن مقتضيات الفصل 19 زاوجت بين ثنائيين التقليدي/الحداثي، أمير المؤمنين/رئيس الدولة، وبما أنه الملك بالوراثة فهو فوق كل المكونات والفرق وراع لكل المؤسسات، فمن الطبيعي أن تندرج ضمن كل ذلك صفة الحكم. يتبع... جلال أومزلوك - دكتور في القانون العام