-1 رصد الانشغال عرف المغرب منذ سنة 1999 إلى اليوم سيلا من الأحداث والمتغيرات، محطات يستلزم التعامل معها وفق خيط رابط وناظم لطبيعة هذه التحولات من حيث هي تعبير عن إرادات قناعاتية أكثر منها استراتيجية آنية ترهن معها الخطوات التي تتلوها على المدى المتوسط والبعيد. لقد حفل الخطاب الرسمي بمجموعة من المفاهيم ذات الأبعاد الدلالية، المفهوم الجديد للسلطة، تحقيق القرب الاستثماراتي من خلال إحداث المراكز الجهوية للاستثمار وتوسيع سلطات العمال والولاة في مجال تدعيم اللامركزية، تبعا لفحوى الرسالة الملكية التي بعث بها جلالة الملك إلى الوزير الأول آنذاك السيد عبد الرحمان اليوسفي سنة 2002، مرورا بهيئة الإنصاف والمصالحة وكذا مجموع الخطوات الاقتصادية والاجتماعية وعلى رأسها المباردة الوطنية للتنمية البشرية وغيرها من المحطات والأحداث، إلى حيث نحن اليوم، حيث الحديث عن مثبطات العمل السياسي – خاصة جانبه الحزبي –وما نتج عن ذلك من سلوكات تستوجب الوقوف عندها باعتبارها قطع غيار ضمن مجموع مكونات المحرك، تفسد مادته بالضرورة إذا فسد الجزء. إن مقاربة السرد في طرح أي موضوع إنما تمليه الحاجة لاسترجاع الذاكرة ومثول الواقع في مقابل البناء الفوقي – الخطاب وتمثلاته الأخلاقية -، وذلك بغاية التأكد من الفراسة السياسية فيما إن كانت تقتنص الفرص وتستثمرها، أم تبددها في إطار البعد التكتيكي وغلبته عن البناء الاستراتيجي القناعاتي. إنه انشغال يراود كل مهتم غيور على المسار العام للأشياء بما يحقق التطابق شبه الخالص بين القول – الخطاب – والفعل على أرض الواقع، ويسلم مفاتيح الاستمرار عبر مراحل على نحو أفضل للقادم من الأوراش. لقد أتى الخطاب الملكي السامي بتاريخ 3 يناير 2010 في شأن الجهوية من أجل التأكيد على روح الاستمرارية والرغبة في ملامسة آفاق الأمور بما يتلاءم ومتطلبات ما يخدم القضية المركزية، «المغرب الحديث في مختلف أبعاده الموضوعاتية والمجالاتية»، سواء أكان ذلك في إطار انخراط قسري أملته طبيعة المراحل وإكراهاتها باعتبارها تعبيرا عن ردود أفعال لما يتداخل داخليا وخارجيا، أم في إطار التطور العادي لطبيعة الأشياء بما يتلاءم ونوعية المراحل استجابة لانتظارات وتطلعات وتحقيقا لفكرة رئيسية «لكل مرحلة قضاياها». لقد كان الخطاب الملكي في شأن الجهوية فرصة للاضطلاع على مختلف التصورات وطبيعة المطارحات الفكرية التي سواء كان مصدرَها الفاعلون السياسيون – الأحزاب خاصة – أو الباحثون العلميون من أساتذة ومهتمين، لتنتصب أمامنا صورة يتوجب الوقوف عند عتبة تلاؤمها من عدمه مع طبيعة الإشكالات التي يحفل بها المناخ السياسي والاجتماعي، إنها مساءلة للذاكرة السياسية، حضورها وغيابها؟. لقد أطنب الجميع، أثناء الحديث عن الجهوية، في العناصر التي تحملها في طياتها، اعتماد نظام جهوي (فعال) باعتباره من مصنفات مكونات العمل الديمقراطي ومنها، الأبعاد التشاركية وتحقيق سياسة القرب والتدبير الترابي وفق مقاربة – حكامة ترابية – جيدة يرتكز فيها تسيير الشأن المحلي والجهوي على أسس تمثيلية انتخابية ديمقراطية شفافة ضمانا لجهوية فعالة كما سبق وضعها بين قوسين. الجهوية على هذا النحو سارت ضرورة ملحة لتيسير التخطيط وإنجاز المشاريع التنموية وفق مقاربة تقاسم الأعباء التنموية ابتغاء للنجاعة، وذلك ضمن إطار الملاءمة مع الواقع الجهوي والمحلي، خاصة أمام تعدد المجالات وتشعبها، مما أضحى معه مبدأ التخصص يقضي بضرورة تقاسم العمل، ناهيك عن الصبغة الإشراكية والتشاركية كإحدى مقومات الديمقراطية بوجه عام والمحلية بوجه خاص. في سياق كل ما جرى ويجري عمد كل المناقشين مع اختلاف أوجه نظرتهم للموضوع، على مقاربة الموضوع من حيث أفضل الأشكال التي يمكن بها تنزيل المولود المنتظر – الجهوية -، ورامت الأفكار الحديث عن فكرتين رئيسيتين تنوعت بين الجهوية في بعدها السياسي والعمل على انصهارها في بوثقة تعديل دستوري يسمح بتصورات أكثر ديمقراطية، تروم الاستجابة لمتطلبات التنمية في مجموع أبعادها السياسية، الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وفي ذلك فكرة تأسيس كيانات جغرافية سياسية جهوية متعددة ضمن وحدة سياسية كبرى، خاصة حينما نعتر على مقترح تكوين برلمانات جهوية. ومن جهة أخرى نلامس مقاربات وإن كانت في سياق دراسة مقارنة لتجارب دول رائدة في مجال الجهوية كما هو الحال بالنسبة للنموذج الألماني، و إسبانيا ولما لا فرنسا وأن بسطه من حيث الراهن كما لو هو إيحاء لاقتداء بهذا النموذج أو ذلك. لقد ورد في خطاب جلالة الملك نصره الله « فإننا ندعو اللجنة إلى الاجتهاد في إيجاد نموذج مغربي - مغربي للجهوية، نابع من خصوصيات بلدنا. وفي صدارتها انفراد الملكية المغربية بكونها من أعرق الملكيات في العالم. فقد ظلت، على مر العصور، ضامنة لوحدة الأمة، ومجسدة للتلاحم بكافة فئات الشعب، والوقوف الميداني على أحواله، في كل المناطق «. إذا كان مفهوم الخصوصية يبدو تعبيرا فضفاضا لبعض الأساتذة المهتمين والمتخصصين ( حالة الأستاذ بوشعيب أوعبي في إحدى استجواباته مع جريدة الصباح )، فإن المفهوم ليس فيه ما قيل، بقدر ما يحمل في طياته ما يوحي بضرورة الملائمة مع الحقائق المجتمعية بمختلف تمظهراتها خاصة منها العنصر الفاعل، ألا وهو العنصر السياسي بكل أبعاده. هذا وتجدر الإشارة إلى أن كل الإصلاحات التي عرفها المغرب في مجال تدبير الشأن العام السياسي والحقوقي على وجه الخصوص انبنى على أساس فكرة الخصوصية المغربية. لهذا فإن الطموح الجارف – العلمي الصرف - يجب أن يقابله التعقل الرزين، وإن كنا صراحة بالقدر الذي نتوق إلى تحقيق القفزة الكبيرة للتموقع ضمن مصاف النماذج المعتد بها، - خاصة وأن المغرب يحتدى به كمرجعية في تدبير الشأن العام في مفهومه الواسع على المستويين الإفريقي أو العربي - ، بالقدر الذي لابد من الوقوف عند عتبة بعض الأمور. صحيح أن كتابات متعددة رامت الحديث عن وحدة الأمة والوطن، وسايرت الكتابات في ذلك طبيعة التحولات التي عرفتها بعض الدول النموذجية الرائدة في الجهوية كتلك التي سبق ذكرها، غير أن ذلك تم في سياق تفريغ الإنزال المقارناتي من الملابسات النوعية وطبيعة التطورات التي عرفتها هذه المجتمعات لترتقي بتنظيمها إلى هذا المستوى من التنظيم الجهوي السياسي، ذلك أن الشروط الموضوعية لتحقيق هذا التلاحم المواطناتي - الوطني/ الجهوي - سمح بتحقيق هذا التبني والتحول النوعي في علاقة المركز بالمحيط الممتد على كل الأطراف. شروط استمدت من درجة النضج والتقدم السياسي الناتج عن درجة التنظيم البيروقراطي للمجتمع الذي سطر الحدود الفاصلة بين التنظيمات البدائية والمتوسطة التقليدية للعلاقات والمصالح، وما ترتب عنها من تقديس للقانون كأسمى تعبير عن الأمة، ووسيلة لحماية المصلحة العامة في إطار التصالح المؤسساتي بينها وبين مجموع المصالح الخاصة والمصالح الفئوية. -2 رصد الفعل لهذه الأسباب سنأتي على نموذجين من الحالات كمدخل لتبرير المواقف السابقة وكمخرج لولوج عناصر أخرى. لا يخلو أي مجتمع من إشكالات وقضايا، غير أن طريقة تدبير ذلك تحيلك على نوعية التفكير ودرجة تقدمه من عدمه، وطبيعة ردود أفعال بعض الفاعلين (مناضلين في نظر البعض). تندرج الحالة الأولى في مكونات وطبيعة الاستراتيجية المعتمدة من طرف بعض المدافعين عن الهوية الأمازيغية، فإذا كان عنصر الانتماء الهوياتي واللهجة والتاريخ الجزئي يقر بالحق في التعبير والمشاركة ضمن الفسيفساء الكلي، واعتبار ذلك قدرا من «العقلانية» التي يستلزم مرافقتها بكثير من الحكمة، خاصة أمام الإقصاء أو التهميش أو لنسميه عدم الاكتراث بالمغرب غير النافع ليس اقتصاديا فقط، ولكن كذلك بشريا في إطار انتماء ضيق لهوية جغرافية جزئية، فإن ذلك لا يجب أن يغيب عنا الإحساس بالانتماء الكلي، ذلك أن القاعدة الحصيفة هي أنه «لا تزر وازرة وزر أخرى»، وأن من يؤدي الثمن، الجغرافية في كليتها، وليس الفاعلون فيها على نحو الإقصاء أو الاعتناء أو منزلة بينهما. لقد تصدى بعض أصحاب هذه النظرية ومنهم الدغرني الحركي الأمازيغي لهذا الواقع باستراتيجية التدويل لمشكلة الأمازيغية والأمازيغيين، وقام بتنقلات خارج الوطن خص بها العرب والعجم. ومن ضمن ما قاله في إحدى لقاءاته الصحفية المتلفزة مع إحدى القنوات العربية في ما يخص مرتكزات تحركاته: - الأمازيغيون شعب بدون حكومة/ ولعمري لو تتبعنا هذا المنطق لأصبح المغرب دولة الحكومات بقدر الهويات. - اللغة العربية وسيلة أرستقراطية مخزنية ولا صلة لها بلغة الشعب، وأنها أفشل لغة لأن لا أحد يتكلمها،/ وفي هذا جزاه الله خيرا أن خرج بمنطق جديد، لم نعهد أن الله الذي بعث الرسالة المحمدية بالعربية فكر بمنطق أرستقراطي. - وفي حديثه عن ضرورة إحداث حزب أمازيغي وحق المغاربة الانضمام إليه، أسائله ما إن فكر مليا في كون صلب الفكرة ستجعل الآخر غير الأمازيغي ينطلق من تصورات ضيقة كما انطلق منها الأخ – المناضل – لزرع نفس الشكوك والضبابية. إن ما سلف طرحه لا يشكل سوى جزء من سيناريوهات مماثلة لجهات وحركات أخرى اتخذت من طبيعة التحولات والانفتاح الذي يعيشه المغرب على مستويات متعددة ولو ببطء، فرصة للتشويش على المغرب لا كنظام فقط ولكن كشعب هو في حاجة إلى تقوية الحوار الداخلي لإيجاد حلول – مغربية / مغربية - لمشاكله الوطنية، بشكل يعيد الاعتبار للوطن ضمن دولة مقاولة للجميع. في نفس السياق نسائل الغاية من مطالبة الدولة بإحداث وزارة للأمازيغية طبعا إلى جانب مؤسسة المعهد الملكي للأمازيغية، وقد جاء هذا الطلب على لسان شيخ السياسيين النخبويين المحجوبي أحرضان المنتمي إلى الأمازيغيين وأحد الوجوه المدافعة عنهم، ونسائله من خلال ذلك في سياق الجلسة الافتتاحية للجامعة الشعبية المنظمة يومي 8 و9 ماي الماضي والتي قدم فيها مداخلته بالفرنسية وليس بالعربية ولا بالأمازيغية، عن الطبيعة والنوعية التي يجسدها حضور فرحات مهني الجزائري في هذا اللقاء، خاصة وأن آخر الأيام عرفت إعلان هذا الأخير لحكومة في المنفى تمثل قبايل الجزائر زادها الله إزعاجا وانشغالا حتى يستريح منها المغرب. أهكذا تجازي النخبة الدولة التي صنعتها. إن الحدث الأخير يسائل الدولة والنخبة، وذلك في سياق بعض الانشغالات التي نروم من خلالها مقاربة الجهوية، ونخص بالذكر منها في الراهن من الحديث النخب المحلية القادرة على تحمل مسؤولية التصورات الجديدة للآفاق المفتوحة على مستوى التفاعل وطني- جهوي. إن الدولة هي من كان ولا زال وراء إحداث النخب، لهذا فالسؤال البديهي هو: هل الشروط الموضوعية على أرض الواقع تسمح بتصور بزوغ نخبة محلية – جهوية قادرة على تحمل الأعباء القادمة وتحقيق تصور مشروع مجتمعي وطني – جهوي، أم أن الدولة ستلجأ إلى نفس الوجوه ونفس النخب التي استعملتها وهي تدبر أمور الشأن العام من المركز؟ لقد استعانت بالأعيان، وأحدثت أعيان ونخب إدارية في نطاق تأطير تبعي أبوي، ما شكل ضمانة لاستمرارها - النخبة / الأعيان - ولمراكزها ومصالحها إلى جانب السلطة المركزية بمجموع مشملاتها المؤسساتية. لقد كان الملك الحسن الثاني رحمه الله محقا حينما خطب في النخبة قائلا بأن أفضل مدرسة لتعلم أبجديات تدبير الشأن العام هي الجماعات المحلية، وها نحن اليوم نقف عند أهمية هذا المعطى، وعلى الفراسة القوية التي ميزته رحمه الله والتي يشيد بها كل متتبع ولو بسيط للحياة العامة، بل حتى ذاك الذي لم يكن يستسيغ ضيق العيش بمفهومه الواسع الحقوقي والاجتماعي والاقتصادي الذي ميز واقع المغرب ولازال النضال فيه مستمرا. فهل الدولة قادرة على الاستمرار في نفس النهج بنفس النخبة؟ أم لها ضوابط لم تعلن عنها بعد لتحقيق دوران النخبة بما يخدم المشاريع المجتمعية من قبيل الجهوية؟. إن مشكلة المغرب من ضمن أخريات طبعا، دوران النخب، وأي نخب؟ النخبة المواطنة التي تستمد وجودها من الانغماس الفعلي في مشاكل الشعب، مصالحها ضمن المصلحة العامة وغير منعزلة عنها. -3 رصد واقع مجالي لا يجب أن يقف تصورنا لإشكاليات الجهوية على ما سلف فقط، بل يتوجب الوقوف كذلك على نقطة من الأهمية بما كان. ذلك أن التفاوتات التي نتجت عن سنوات من التدبير الاقتصادي الذي مركز الاستثمارات في المغرب النافع، أفلحت في تحقيق بون ساشع بين الجهات من حيث البنيات التحتية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية وغيرها من المرافق الإدارية والخدماتية وما شابه ذلك. لقد عممت وسائل الإعلام آخر الدراسات التي أنجزتها المندوبية السامية للتخطيط حول الاختلافات بين الجهات، إذ كشفت أن إنتاج الثروات يتمركز في خمس جهات، حيث ارتفعت مساهمتها في الناتج الداخلي الخام الوطني من 59.6 % سنة 2004 إلى 60.6 % سنة 2007، في حين تتقاسم الجهات 11 المتبقية ما يقارب 40 % المتبقية. وبلغة الأرقام التي صدرت عن وزارة الصناعة والتجارة والتكنولوجيا الجديدة برسم سنة 2007 في شأن عدد وحدات المؤسسات الإنتاجية، يلاحظ استحواذ 6 جهات على ما يقارب 72 % من المؤسسات الإنتاجية على رأسها جهة الدارالبيضاء الكبرى ب 34.07 %، ويبلغ عدد هذه الوحدات بهذه الجهات 5713 من أصل 7893 على مجموع الجهات وطنيا (أي 2180 وحدة مقسمة على باقي الجهات 10 بحصص متفاوتة تقل عن 1 % بالنسبة لجهتي كلميمالسمارة وواد الذهب لكويرة ). إن أولى الأوليات التي يجب الوقوف عندها هو تصحيح هذه الاختلالات التي تعرفها المجالات الجغرافية الجهوية، وذلك ضمانا لانطلاقة جهوية في حدود دنيا من الاختلاف. لهذا يتوجب التفكير في السبل الكفيلة بتحقيق الإنعاش الاقتصادي بمختلف تمظهراته الإنتاجية والبنياتية والتنمية الاجتماعية في مجموع أبعادها الخدماتية، وذلك في إطار مشاريع جهوية تأخذ بالخصوصية المحلية من جهة والتكامل الوطني من جهة أخرى، ولعمري أن في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي صاغ فلسفتها وأعطى انطلاقتها جلالة الملك محمد السادس، صورة رائدة لرؤيا حصيفة خاصة في الجانب المتعلق بمحاربة مظاهر الفقر. هذا المسلسل لابد للدولة أن تدخله كرهان مثله مثل رهانات أخرى حقوقية اقتصادية واجتماعية همت أقاليم وجهات أخرى من الوطن. وأن تعمل في إطار مخطط تنموي شمولي مستديم ومندمج، سواء في إطار جهوي صرف أو في اعتماد متبادل ما بين الجهات لتحقيق التكامل الوظيفي المجالي. إن مجموع المواقف سالفة الذكر لا نتوخى من خلالها القول بأننا ضد جهوية متقدمة أو موسعة، ولكن التصور يروم مقاربة واقعية بغية إنزال الأدوات والآليات الموازية لتحقيق النجاح المتوخى من التجربة التي سيدخل المغرب غمارها، سواء تعلق الأمر بالتأطير اللازم من طرف الفاعلين المعول عليهم رسميا أو من خلال فعاليات المجتمع المدني التي أصبحت تحتل مكانة في العمل الوطني يوما بعد يوم، وكذا الباحثين والمهتمين وغيرهم. هذه الآليات والأدوات يجب أن تتنوع من حيث النوع والغاية، بين البيداغوجي التربوي – التربية على المواطنة – والمؤسساتي القانوني بالشكل الذي يصير فيه القانون أداة أسمى لتعبير الكل. سواء كان هذا الوجه – في القانون - توجيهيا أو جزريا عقابيا، وأن تنمحي بوجوده كل مؤثثات الواقع التدبيري الراهن للشأن السياسي وميكانيزماته التقليدية (قرابة وقبلية وزبونية وفوجوية)، وأن نقطع مع عملية نقل أسلوب التدبير المركزي إلى مراكز الجهات كما لو ننقل الدولة إلى الجهة ومنها النخبة، وما يترتب عن ذلك من إعادة إنتاج نفس القيم والسلوكات. -4 عقلانية قانونية وواقعية إن الاعتداد بمنطق التدرج تبعا لما سلف يسمح لنا بمقاربة نوعية للتوسع في الجهوية من خلال إنزال فعلي لهذا الإصلاح، وذلك في إطار عقلاني يسمح بتلمس تقدم نوعي فعلي من حيث المحتوى أكثر من الاعتداد بالمظاهر ومحاكاة لتجارب من هنا وهناك، وعليه فإن دسترة الجهة قائمة فعليا باعتبارها جماعة محلية بمقتضى الدستور كما هي واردة فيه (المادة 100 من الدستور)، ويكفي قياسا على ذلك بلورة قانون جهوي حقيقي من حيث الاختصاصات التي تناط بهذه الوحدات الترابية. لهذا فإن النهوض باللامركزية يجب أن يبتدئ بإزالة صبغة التردد والاستشارية التي لازالت تطبع محتوى القانون الحالي الخاص بالجهة، خاصة في ما يتعلق باختصاصات المجالس الجهوية وتلازم ذلك بمدى درجة النضج الذي يلزم بلوغه في التنظيم المرتبط بعدم التمركز. ويأتي هذا التصور في سياق تحقيق الانشغال بضرورة فك الارتباط من حيث التدبير اليومي مع الأسلوب المركزي في إدارة الشأن الجهوي والمحلي، مع ما يستلزم ذلك من الناحية العملية والواقعية من استمرار التقييم والرقابة لتقويم الاعوجاج، والتدخل كلما تطلب الأمر ذلك. لهذا لابد في سياق حمائي للقناعة المبدئية المتمثلة في إحقاق جهوية قوية من إعادة النظر في الاختصاصات الموكولة لمجالسها، وذلك من قبيل (على سبيل المثال لا الحصر): - تحديد فعلي لماهية الاختصاصات الموكولة للجهة بشكل مباشر من جهة، مع العمل على توضيح لطبيعة الاختصاصات التي تنقلها لها الدولة (المواد 6 -7 و 8 من قانون الجهات). سواء أكان ذلك في إطار علاقات تشاركية بين الجهة والمصالح المركزية وتمثيلياتها لها بهذه الوحدات الترابية الجهوية (أقاليم وعمالات)، أو في إطار صيغ تعاقدية (عقود برامج) يتم تنفيذ التزاماتها في إطار التشاور والمواكبة والمراقبة. وهو الأمر الذي يستدعي إعطاء دفعة قوية لعدم التركيز لتحقيق التوازي في التخطيط والتدبير وإمكانية اتخاذ القرارات. ويتعلق الأمر هنا بمجموعة من مؤسسات تقديم الخدمات من قبيل الصحة والتعليم والأنشطة السوسيو-تربوية وتحقيق سياسة الإنعاش الاقتصادي وغير ذلك. * الإلزام القانوني بمشاركة المجالس في اتخاذ المواقف وإبداء الآراء في كل ما يتعلق بالسياسات القطاعية العامة ذات التأثير الجهوي منه والوطني، واستبعاد بعض الصيغ الواردة في النص الحالي من قبيل «إذا طلبت منه السلطات والهيئات المختصة إبداء رأيه»، وهو تعبير كما لو أريد منه تكبيل يد المجالس الجهوية، وأن مشاركتها ليست بالأهمية المنتظرة. - لقد سمحت التراكمات التجريبية العملية للجهة ومنها الجماعات المحلية برصد مجموعة من الأسباب والمظاهر التي ترتبط بحالات الإقالة أو التوقيف والحل، لذلك واقتداء بطبيعة ونوعية هذه الحالات لا بأس في أن تتم الإشارة إلى الأسباب التي توجب ذلك ولو على سبيل المثال مع تضمين النص القانوني صيغة «كل ما يماثل ذلك أو ما كل ما من شأنه أن ..»، عوض الاكتفاء بذكر المراسيم والقرارات للجهة الوصية دون تحديد بعض الأوجه على الأقل الموجبة لذلك (المواد 16، 17 و 19 من قانون الجهة )، وغيرها من المقتضيات التي تستوجب هذه الإمكانية. * العمل على تمكين رئاسة المجلس الجهوي من سلطة الآمر بالصرف في ميزانية الجهة، وكذا سلطة تنفيذ وتتبع قرارات المجلس الجهوي، وتمثيل الجهة باعتباره السلطة التي انتخبت لأجل تدبير الشأن الجهوي. وهي السلطات التي يمنحها القانون الحالي للعامل مركز الجهة. أمر صراحة لا محل له في منطق الأشياء، وإلا لِمَ كل هذه المتاعب في إقامة جهاز تمثيلي انتخابي، وبعد ذلك نحرمه من المشاركة الفعلية في اتخاذ القرارات، التنفيذ والتتبع (المواد 1 –الفقرة ما قبل الأخيرة-، 54 و56 وغيرها من مقتضيات قانون الجهة). عمل المشرع حسنا حينما أحال الخلافات بين المجالس الجهوية وبين سلطات الوصاية إلى المحاكم الإدارية، وهو أمر طبيعي ما دام الأمر يتعلق بقرارات إدارية، غير أنه يستحسن من جهة بالنظر إلى أهمية المواضيع التي تعرض للنزاع باعتبار التصاقها بالشأن العام الجهوي ومنه المصلحة العامة الوطنية بشكل عام، أن يتم من جهة تقليص المدة المخصصة للنظر في النزاعات المعروضة من 30 يوما كما هو وارد في مقتضيات قانون الجهة إلى نصف المدة، وأن تحال إلى جهة أكثر تمرسا، الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى من أجل البث فيها ابتدائيا ونهائيا، وذلك لما عرف عن فقهاء المجلس من طول تجربة ودراية عميقة بالنصوص وإمكانيات جمة للاجتهاد، وإن كان البعض سيقول أن في ذلك هدرا لحق التدرج في التقاضي، فإن الأمر هنا يهم نزاعات أطرافها مؤسسات الدولة ذات الصبغة العمومية، على خلاف القضايا التي يكون فيها طرفا خاصا – مواطن ضد الإدارة-. - تحقيق التناغم من خلال التدرج في مجال الاختصاصات بين مجموع مكونات الوحدة الجهوية، وهو ما يستوجب إعادة النظر في العلاقة الواجب توافرها بين الوحدات الصغرى (الجماعات) والوحدة المتوسطة (الجهة) وعلاقة كل ذلك على مستوى التنسيق والمراقبة والتتبع على المستوى الوطني. وطبعا كل ذلك لا ينسينا المبدأ القائم، الوصاية الثلاثية على الأعمال، الأشخاص، الأموال. إن الإدلاء بهذه الملاحظات أعلاه أتى على سبيل المثال لا الحصر، غاية ذلك التأكيد على أن مسألة الجهوية المتقدمة وإن كان لها مبرراتها على مستوى المعطيات الموضوعية وطنيا داخليا، أو في إطار محاكاة التجارب الرائدة على مستوى اقتباس مقارناتي، فإن الجهوية الرزينة يجب أن تكون على منوال ما يفي بالغرض الحقيقي المبدئي التنموي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وذلك في إطار التضامن والوحدة الوطنية، وتكريس مبدأ الالتزام بكل مقدسات الأمة المغربية من ملكية دستورية قائمة على إمارة المؤمنين، الإسلام واللغة العربية، وإعادة الاعتبار اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا لمختلف مكونات الهوية الوطنية المغربية. إن العدالة - الديمقراطية إن كانت تمشي على الأرض حية تتنفس فإنها كذلك سواء بالجهوية أو بدونها. لن نخفي شيئا مما يشكل انشغالنا في كون تحقيق قفزة نوعية من خلال بعد جوهري في تحقيق اختصاصات فعلية للجهة عوض الاعتداد بشكليات الموضوع، تندرج ضمن الهاجس الذي ظل ينغص صدر كل غيور، ألا هو تمكين الفعل المؤسساتي على أرض الواقع من الديمقراطية الحقيقية التي تعني شفافية الانتخابات، الشخص المناسب في المكان المناسب، الرقابة الفعلية والتي تتولد عنها مساءلة حقيقية، وأن استمرار الستاتيكو لن يقدم كثيرا في طبيعة الأشياء. إن فكرة دسترة كل شئ لتحقيق قيمة فعلية، ليس كل شئ، وهو ما ذهب إليه Pierre Messmer حينما اعتبر أن دسترة مؤسسة الوسيط الجمهوري الفرنسي لن تضيف شيئا إلى قيمتها، ذلك أن «أهميتها تكمن في الاحترام الذي تستلهمه من مشروعيتها، وكذا ارتباط ذلك بالوسائل التي تتوفر عليها لإتمام وإنجاز مهمتها». وعلى رأي فيكتور هيكو «ليس هناك جيش أقوى من فكرة حان وقتها».حبا في الوطن نسأل الله التوفيق والتألق.