على طول رقعة هذا الوطن العربي، وعلى امتداد المخاضات التي مر منها إنسانه من أجل التحرر والبقاء والكينونة، نواكب هذا الحراك الذي لم يفتر يوما منذ اشتعل مع أحلام النهضة العربية المؤجلة، من خلال زاوية خاصة: زاوية الكاريكاتور ومبدعيه. في هذه السلسلة ننفتح على تجارب رسامي كاريكاتور عرب سخروا ريشاتهم وفنهم للانخراط في نهضة أمتهم، غير أن حبهم لهذا الوطن لم يكن دائما ليشفع لهم ويكف عنهم الأيدي. فكثير من فناني الكاريكاتور قدموا أرواحهم فداء لريشاتهم وأفكارهم وأحلامهم، لكن الكثير منهم أيضا ألهم القراء والمتابعين وطبع ذاكرة وتاريخ الوطن العربي. في هذه السلسلة نسترجع محطات من حياة هؤلاء وفاء لهم ولفنهم النبيل.. لم يكن أحد يتخيل في بداية الخمسينيات أن صلاح جاهين، سليل العائلات الكريمة، سيقع في عشق هذا الفن المشاكس المسمى «كاريكاتير»، ولم يكن هناك أحد على الإطلاق يتكهن بأن ابن المستشار الناجح سيخالف التقاليد العائلية ويهجر كلية الحقوق، ويتمرد على كلية الفنون الجميلة ليصبح شاعرا ينظم الأشعار ويحترف رسم الكاريكاتير، بل و يخلق مدرسة جديدة للكاريكاتير تتلمذ فيها على يده عدد من رواد هذا الفن النبيل.. اسمه الحقيقي صبح الدين حلمي، ولد فى 25 دجنبر عام 1930 في شارع جميل باشا بحي شبرا بالمنصورة. كان جاهين أبدع من كتب بالعامية المصرية الأصيلة، مستخدما ألفاظ الشارع المصري البسيط لتصوير الأحداث الجارية في كلمات أشعاره أو «رباعياته» بطريقة ساخرة، هو ما جعل رسومه الكاريكاتيرية التي كان يرسمها أسبوعيا في مجلتي صباح الخير و روز اليوسف وصحيفة الأهرام ، تلقى صدى واسعا لدى القراء . خلق جاهين تجربة جديدة في الكاريكاتير المصري لم تكن معتادة في الصحف والمجلات آنذاك، كما تمرد على كاريكاتير الشخصية الواحدة، وأدخل مدرسة جديدة للكاريكاتير للصحافة العربية هي «كاريكاتير الموقف» أو ما بات يعرف بعد ذلك ب«مدرسة صلاح جاهين للكاريكاتير»,، التي مازالت معتمدة في الكاريكاتير العربي حتى يومنا هذا. تكمن قوة صلاح جاهين الكاريكاتيرية، عدا عن سلاسة الخطوط و توازن رسم الشخصيات، في ابتعاده عن الموضوعات الشائعة أو التقليدية. ونظرة واحدة لرسومه الآن، رغم مرور كل هذه السنوات، توحي بأنها رسمت حديثا، فهي تعبر عن هموم المجتمع العربي التي لم تفارقنا حتى الآن منذ السبعينيات . توفي صلاح جاهين يوم 21 ابريل عام 1986، حين ابتلع جرعة زائدة من الحبوب المنومة والتي كان يتناولها للتخلص من مرض الاكتئاب، ولكنه أسلم الروح وهو لم يتجاوز السادسة والخمسين من العمر، مخلفا وراءه ثروة فنية هائلة مكونة من مئات القصائد ورسوم الكاريكاتير.