في الماضي كانت طنجة أقرب إلى البحر مما هي عليه اليوم. كانت الأمواج تصل حتى أرجل العابرين، وكان الناس في الغالب يسيرون حفاة لأن المدينة كانت أصغر وأجمل وأنظف، وأيضا أقرب إلى رمال الشاطئ. الناس في طنجة، اليوم، لم يعيشوا تلك الأيام التي كان فيها البحر قريبا جدا، لكن الصور شاهدة على ذلك، لذلك فإن أول شيء يتعلمه أهل طنجة هو أن يستعيدوا تلك الأيام الجميلة في ذكراهم، ثم يشيرون إلى أمكنة معينة ويقولوا لبعضهم البعض: انظروا.. البحر كان يصل حتى هذا المكان. فندق «سيسيل» أكبر شاهد على أن البحر كان أقرب إلى الناس مما هو عليه اليوم. فهذا الفندق، الذي كان من بين أول الفنادق العصرية التي أقيمت في طنجة في القرن التاسع عشر، بني على حافة الموج، وبالضبط في المكان المعروف اليوم بالشاطئ البلدي. فندق سيسيل ذاكرة طنجاوية بامتياز إنه فندق يؤرخ لدخول المدينة عهد العصرنة حتى قبل فرض الحماية الدولية رسميا عليها. إنه يؤرخ، أيضا، لبداية فترة توسع طنجة خارج مدارها المعهود، المدار الذي كان يتركز على ما يعرف اليوم بالمدينة العتيقة، الممتدة من مرتفع الحافة والقصبة، والممتد نزولا نحو واد أحرضان والسقاية والسوق الداخل وحي بني يدّر، أي من الأسوار العليا المقابلة لمضيق جبل طارق حتى الأسوار البرتغالية في الأسفل. فندق سيسيل بني في منطقة اعتبرت وقتها خارج المدينة الأصلية، وفوق هذا وذاك بني بطراز عصري ومتطور جعل منه آية في التطور والجمال، وصار في ذلك الإبان يشكل هدفا عزيزا لعشاق السفر والترحال، وتم طبع صوره في البطاقات البريدية التي جعلت منه واحدا من أفضل فنادق العالم، خصوصا وأنه كان ضمن سلسلة فنادق شهيرة في كل مناطق العالم، وهي سلسلة فنادق سيسيل، والتي كانت تمتد من الإسكندرية حتى اليابان شرقا، ومن باريس حتى نيويورك غربا، وفندق سيسيل الطنجاوي كان في الوسط، وهذا رمز أهميته، أي أنه كان يستقطب أناسا من الشرق ومن الغرب، من الشمال ومن الجنوب. وتقول مصادر تاريخية إن اسم «سيسيل» أعطي له وفق الاختيار الذي قرره صاحبه، وهو ثري ألماني، كان له ابن يحمل اسم سيسيل، فقرر أن يطلق هذا الاسم على الفندق، أو على فنادقه، التي دخلت بعد ذلك التاريخ من أوسع أبوابه. بني فندق سيسيل بطريقة أوروبية محضة، وكان يعلو سطحه القرميد الأحمر، ليس لأن الثلج كان يتساقط على طنجة، بل فقط لأن الكثير من البنايات الأوروبية في المدينة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كانت تبنى بتلك الطريقة لسببين، الأول لأنها طريقة معمارية شائعة، وثانيا لأن الأوروبيين الذين استقروا في طنجة كانوا يعتقدون أن الثلج يتساقط على المدينة شتاء كما هو حال أوروبا، لذلك كانوا يستعدون له بالقرميد الأحمر. فندق سيسيل كان لا يبعد عن الموج إلا ببضعة أمتار، لذلك بني على مرتفع صغير حتى يعصمه من الماء، فجزؤه السفلي كان عبارة عن سور كبير به مداخل واسعة تؤدي إلى مخازن لإيواء المؤن، أو مرائب للسيارات القليلة جدا وقتها، بينما جزؤه العلوي هو الذي استضاف غرف الفندق وحديقته وساحته، بحيث لم تكن غرف الفندق تتجاوز الثلاثين، لكنها كانت غرفا باذخة بزخارفها المغربية الممزوجة بطابع أوروبي، وأيضا بنوافذها المشرعة على رائحة البحر وأصوات النوارس وأبواق البواخر وهي تدخل أو تغادر الميناء القريب. موقع الفندق كان استراتيجيا أيضا، إنه لم يكن يبعد سوى ببضع عشرات من الأمتار عن الميناء. وفي تلك الفترة كان الناس من مختلف مناطق العالم يتقاطرون على طنجة لأنها كانت بمثابة الحلم الوردي لهم، وكان هذا الفندق من بين أولى المعالم العصرية التي تبدو لهم وهم يلجون المدينة من بحرها شمالا. موقع سيسيل كان استراتيجيا أيضا على مستوى الطريق البري، لأنه كان يوجد مباشرة على الطريق المؤدية إلى المدينة، وهي طريق تربط ما بين قلب طنجة وما بين الطرق الأخرى المؤدية إلى المدن والقرى البعيدة أو القريبة. لكن سيسيل كان في كل الأحوال يعتمد على القادمين عبر البحار، في زمن كانت الملاحة الجوية نادرة ومتعثرة. ظل سيسيل بعد بنائه يصنع لنفسه تاريخا متفردا، وفيه نزل مشاهير كثيرون من مختلف الاتجاهات والمشارب زاروا المدينة وبقوا فيها لأيام، أو حتى شهورا وسنوات، وآخرون بقوا فيها حتى آوتهم قبورها. شهرة فندق سيسيل في استضافة المشاهير استمرت لعقود. وحين جاء السلطان محمد الخامس إلى طنجة، في أبريل 1947، لإلقاء خطابه الشهير المعروف اليوم بخطاب 9 أبريل، فإنه لم يجد وقتها فندقا أفضل منه، ونزل فيه خلال مقامه بالمدينة، على الرغم من توفر طنجة آنذاك على إقامات سلطانية وأخرى في ملكية الأعيان، إلا أن السلطان الراحل ربما آثر أن ينام على حافة الموج في طنجة الدولية، ليحس بعبق هذه المدينة المختلفة التي أطلق منها خطابا دعا فيه البلدان التي تفرض حمايتها على المغرب بضرورة الرحيل. فندق سيسيل كان تحفة معمارية حقيقية، والذين بنوه في ذلك الوقت جعلوا منه «صندوق عجب» حقيقيا، وكانت مختلف مرافقه تشي بأن أصحابه ليسوا مجرد مستثمرين سياحيين أو عشاق ربح سريع، بل كانوا فنانين ومبدعين، وهذا ما جعل الفندق يعتبر ضمن المصنفات التاريخية لطنجة، وللمغرب عموما. لكن لكل شيء إذا ما تم نقصان.. فلا يغر بجمال الفنادق إنسان... وهكذا دار الزمن على هذا الفندق العجيب، وتحول مع مرور الوقت إلى مجرد جحر فئران، خصوصا وأن زمن الاستقلال جاء برياح التهميش على طنجة، التي تحولت من حلم عالمي إلى مجرد مدينة مهمشة لدى المغاربة. الذي يريد أن يعرف اليوم مصير فندق سيسيل، عليه أن يتوجه إلى محج محمد السادس، حيث يوجد الفندق، أو بتعبير أصح، حيث توجد أطلال الفندق، الذي صار يفقد أطرافه شيئا فشيئا، حيث تحولت فضاءاته إلى عمارات، وأكل وحوش العقار ساحاته ومحيطه، وها هم اليوم جعلوا منه مجرد خربة آيلة للسقوط في أي وقت، وآخر ما حدث فيه انهيار خطير أدى إلى جرح ستة أشخاص، وكلهم من المشردين والسكارى والمنحرفين الذين جعلوا منه كهفا للنوم والعربدة، بعد أن كان محجا للسلاطين والمشاهير. عمليا، لم يعد فندق سيسيل التاريخي موجودا في طنجة. إنه مجرد جدران مهددة باكتمال السقوط في أي وقت. إذا كان من شيء يرمز إليه اليوم فندق سيسيل، فهو أن زمن طنجة الجميل كان في عهد الحماية، وزمن طنجة السيء جدا كان في عهد الاستقلال.