ينطفئ محمود درويش الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس ليلتحق بموكب الراحلين الكبار ليلتحق برفاقه في الوطن والقضية كغسان كنفاني وجبرا ابراهيم جبرا، وناجي العلي وإميل حبيبي، وفدوى طوقان، وإدوارد سعيد وكل البقية ليطرح بإلحاح السؤال الذي طرحه بنفسه وهو « من يملأ فراغ الذين يغيبون؟» كصيغة للمواساة نقول الكبار لا يموتون. ودرويش حاضر بيننا بشعره وإبداعاته، ومواقفه من كل القضايا الإنسانية الكبرى، فبعد أن أنجز حلمه المتجلي في كتابة أشعار رقيقة وشفافة مثل زهرة اللوز ستكون قراءته الآن وإلى الأبد الصيغة الأقوى لتخليده الكبير، بل إنها الصيغة الأكثر فاعلية لنسيان غروبه خاصة أن مجال عمل الأدب هو التعامل مع الضعف البشري كما قال إميل حبيبي يوما مع اشتراط إبداعه من طرف الكبار ودرويش هو أحدهم. غروب درويش اليوم هو وجه آخر لخسارتنا الجماعية ولخسارات الثقافة في وجودنا. قد تسعف لغة الشعر في تدبيج كلام أبلغ من اللحظة وهذه مهمة شعراء، لكن في غياب ذلك تبقى للغات الأخرى إمكانياتها البسيطة لقول الإحساس الخاص وتوجيه فاجعة الخسران ويبقى لقرائه، وأنا منهم، صيغة وحيدة لتوديعه هي الاعتراف له ولشعره بطبعنا في وجداننا العميق. لقد تعودنا انتظاره في قصائده التي أفرحنا دوما الاستماع إليها بصوته والعثور عليها في منابر متفرقة وفي دواوينه جميعها وفي كل ما خطه من مقالات وإبداعات ومراسلات في هذا المنبر أو ذاك. وما يحزننا اليوم هو أنه في الوقت الذي كنا ننتظر عودته بالكرمل وعبرها رفقة الأسماء الكبرى التي رافقته في التجربة يقرر لانسحاب بعد أن أغنت إقامته في الرحيل وحزن التيه قلبه. لقد عاش درويش متاهات الجرح الشاسع وكان عليه أن يصمد كما صمد كل الفلسطينيين الصادقين أمام عنف الأعداء والأخوة. جمع بصيغة ملحمية بين الفلسطيني والشاعر مع العلم أن الجمع بين الهويتين هو انفتاح على الجنون وكما قال يوما « فما أصعب أن يكون الشاعر فلسطينيا وأصعب من ذلك ألا يكون ما وهمته اللعنة: فهو مطالب بسباق مع إيقاع اليومي وبإدارك لا يدرك بذاك الإيقاع مطالب بالشرط ونقيضه، منبوذ، ملتبس، ناجح فاشل معا سلفا، مختوم محكوم، مدلل مظلوم، متنازع عليه في الشعر كتنازع البورصة على وطنه في «السياسة». ستبدو القصيدة يتيمة بدونه كما ريتا وأغنية مارسيل خليفة. وذكرى مجلة «الكرمل» وإنسانية القضية الفلسطينية وجمهوره في المغرب الذي كان يملأ القاعات التي جاء لقراءة أشعاره فيها بفاس والرباط حتى حين كان يتصادف موعد قراءته مع مباريات كروية لا يفكر في عدم متابعتها إلا المجانين. كان قدر درويش التورط في المنفى بلا حدود بعد أن حرم من العودة لهذا سعى حراسة الحنين والذكريات، ورفض التذويب في النسيان والإكراه على الانقراض التديرجي. في كل أشعاره يحضر الشموخ الإنساني، حتى قضية فلسطين صبغها بهذا الملمح حتى لا تنعزل في منطق قومي ضيق. فقد حضرت فلسطين دوما في وعيه فترجم ذلك بالتعبير عن الإبادة اليومية لشعبه. وعن زحف الموت القادم من كل الجهات ومن كل الأعداء ومن كل الإخوة الأعداء وانشغل بهوية الفلسطيني الذي لا يعترف أحد بهويته وبمحنته ككائن لا مكان له كائن يتكلم لغة جنون لا يفهمها أحد. كانت كل أشعاره مفتوحة على الجراح العميقة للإنسان في فلسطين وفي كل أرض الله، وقد وجد ما يكفي من الصور والبلاغات لتوصيف الوضعيات الخربة للوجود الإنساني، وهكذا تحدث عن الضحية وتزييف الوعي وتربية الاستلاب وتقهقر الحق العاجز إلى عدوان، وعن الحد الأقصى للعزلة التي تقصيك عن جلدك وغربة الموت كامتداد لغربة الحياة والحاجة للدفاع عن صورة الروح، وعن الدساس البرابرة في كل شيء وفي ما لانراه، وعن تحول الجسد الخاص إلى ساحة معركة، والموت من فرض الاستسلام، وإزعاج الغيبوبة، وحشو الذاكرة بالنسيان ونهش اللحم البشري. وتجار ثمار الكوارث ومحنة الاقتلاع التي لا تنتهي وتحويل الهوية الخاصة إلى عدو مشترك ألخ. لقد سعى درويش إلى الإيقاظ الدائم للضمير الانساني حتى لا يبقى أسيرا لما تقرر المحكمة الأخلاقية المعنوية الصهيونية أنه الخير المطلق أو الشر المطلق, وحين فعل ذلك لم يدع امتلاك الحقيقة يوما ولم يعتبر الشاعر فيه ملاكا لكنه لم يقبل بالحط من قيمته. وإلى هذا يشير بقوله» كتبت أكثرمن مرة: إن الشاعر ليس ملاكا، إن الشاعر ليس حشرة، وأن الشاعر ليس ملكية خاصة لأحد لذلك لا أطرب لما يوجه إلي من مطالب ترفع الشاعر إلى مستوى البديل السحري ولا أحبط أيضا مم ينهال علي من هجاء. محمود درويش أحب الحياة وعاش للشعر وحبّبَ القصيدة للكثير من القراء الذين يقدرون كل أعماله للبحث عما يصدم يقينياتهم، وعن كل ما يعلمهم الانصات الجليل للأشياء واللحظات العميقة. كان حلمه أن يعود إلى أرضه وأن يكون لهذا عوض السؤال الوجودي الخاص وهو أن نكون أو لا نكون بالقرار الوجودي الخاص وهو «لا نكون أو نكون» ضدا على كرنفال الأحزان وضدا على احتلال الذاكرة. وعلى الرغم أنه ارتاح الآن من عنف التيه ومحنة كتبة القصائد التي شبهها يوما بالعملية الجراحية، كان حلمه أن يدفن بالجليل وبالضرورة أساسا تحت شجرة الخروب التي أحبها لأنه هناك ولد وهناك ترقد الكثير من عناصر ذاكرته.» لكنه دفن بفلسطين، بل لم يدفن نهائيا لأنه يحيى في قلوب الفلسطينيين وكل من أحبه. وما يهم بعد طقوس العزاء هو الحرص على حياته في أعماقنا وأن يشتغل شعره فينا بكامل التوهج والصيغة البحتة لذلك هي أن تبقى أعماله مفتوحة دوما فوق حكاياتنا. فالقراءة، التي أحبها، هي الصيغة الوحيدة والجليلة لاستحضاره بيننا، غير هذا لن يبقى لنا إلا عنف الفراغ وتحقيقا لهذا الوعد نستحضره في قصيدته «وداعا لما سوف يأتي» وهو يقول: وداعا لما سوف يأتي به الوقت بعد قليل ..وداعا. وداعا لما سوف تأتي به الأمكنة.. تشابه في الليل ليلي، وفي الرمل رملي، وماعاد قلبي مشاعا. وداعا لمن سأراها بلادا لنفسي: لمن سأراها ضياعا. سأعرف كيف سأحلم بعد قليل وكيف سأحلم بعد سنة. وأعرف ما سوف يحدث من رقصة السيف والسوسنة، وكيف سيخلع عني القناع القناعا. أأسرق عمري لأحيا دقائق أخرى! دقائق بين السراديب والمئذنة لأشهد طقس القيامة في حفلة الكهنة. لأعرف ما كنت أعرف! إني رأيت.. رأيت الوداعا.