في مداخلة شهيرة، قال كيبلينغ: «ليس هناك سوى وسيلتين لحكم الناس: تقطيع الرؤوس أو عدها». وقد اختارت بعض الأنظمة العربية السبيل الأول، وهذه حال ليبيا وسوريا واليمن. وفي المقابل، اختار المغرب عدها، بمعنى الديمقراطية، فهل نجح؟ منذ ثلاثة أشهر والبلاد تنتظر. الخطاب الملكي لتاسع مارس الماضي أدخل البلاد كلها في حالة من الترقب. وقد أسدل الستار عن هذا التشويق يوم الجمعة الماضي عندما أعلن الملك محمد السادس عن دستور جديد لاقى ترحيبا من فئات واسعة من الشعب المغربي. الآن، ينبغي أن نتساءل: ما الذي ينبغي أن نفكر فيه؟ لنسجل، أولا، معطيات أساسية: تبنى المغاربة بشكل عفوي منذ البداية، ككلمة مفتاح، الجملة الشهيرة لفيكتور هيغو: «لا للاستبداد، لا للعنف، نريد تنمية هادئة». ففي إطار هذه الرؤية، يتم دائما تفضيل مبادرة للإصلاحات على المواجهات والنزاعات. بعبارات أخرى، بدل اللجوء إلى الصعق بالكهرباء ورفع كل الحجب بقوة وترك الروائح تغزو كل شيء، يحسن بهم تحمل مسؤوليتهم التاريخية من أجل تفادي كثير من المشاكل. إن هذا الأمر علامة على النضج، لأنه يرتكز على القيام برد فعل معتدل سعيا إلى تحقيق المطالب المشروعة. فبصرف النظر عن الإصلاح الدستوري، الذي يعتبر موعدا تاريخيا هاما، لا يجب أن تغفل الأعين عن الهدف الأسمى من وجهة نظر المواطنين، وهو السهر على استقرار البلاد وأمنها من أجل التمكن من اجتياز منطقة الإعصارات هذه بدون خسائر. غالبية المغاربة لم يكونوا يريدون قطع اللوحة الخشبية التي يقتعدونها. ثانيا، كان المغاربة ينتظرون الإصلاح بتفاؤل وأمل. والحال أنه كلما تطلبت علمية الإصلاح الانتظار استنفد الصبر وبات ممكنا إصدار حكم في حقه حسب الأحاسيس والمشاعر التي يثيرها. ومشروع الدستور لا ينفلت من هذه القاعدة، إذ يستحيل أن يرضي جميع انتظارات وتطلعات أولئك الذين ساهموا في بلورته. ومن ذا الذي يجرؤ على المطالبة بإنجاز من هذا القبيل؟ غير أن هذا يعني كذلك أن قلة من الناس يمكن أن تقبل في الوقت الراهن ذرائع من قبيل: هذا كل ما تسمح به الظرفية الحالية وما يتلاءم مع إرثنا التاريخي أو ذكائنا المحلي... وفي حال ما إذا تم الإكثار من توظيف كلمة الإرث الثقافي، فإن ذلك سيبدو لا محالة مبالغا فيه، أما الذكاء المغربي فمثل شعار يمكن رفعه كل مرة نقرر فيها التطلع إلى التقدم والحداثة. إننا اليوم أمام مشروع سيرهن مستقبل البلاد لسنوات عديدة، بل لقرون. مشروع يقف في منتصف الطريق بين الاستبداد والديمقراطية.. يطمئن المتحزبين بالاستقرار والمستفيدين من النظام، المرتاحين -بفضل امتيازاتهم- إلى أوضاعهم، لكنه يفتح في الآن ذاته شهية الديمقراطيين دون أن يمنحهم الوسائل لإرضاء هذه الشهية. أول ما يثيرنا في القراءة الأولية لهذه الوثيقة الدستورية الجديدة هو النظام السياسي المغربي مثلما تم تصوره فيها (في الوثيقة)، فهو يبدو أكثر استبدادا للذين يرفعون شعار الليبرالية وأكثر ديمقراطية للذين يرغبون في الحفاظ على الاستبداد. وعلى هذا الأساس، فإن محرري هذه الوثيقة منحونا نسخة بتعليب عقيم لتصور معقم للعلاقات بين السلط ويقدمونها بوصفها نتيجة قرارات جماعية. في هذا الإطار، يسلِّط تصورُ السلطةِ حسب الأماكن التي تمارس فيها الضوءَ على تفاصيل يمكن أن تمر دون أن تلفت نظرا. النظام يوفر كل الظروف التي من شأنها تمكين المجتمع من الولوج إلى الديمقراطية، غير أن «يافطة» الديمقراطية -كما يعلم كل واحد منا في أنظمة مثل نظامنا- تغطي على جميع البضائع مهما بلغ اختلافها. هل يمكن أن نتحدث عن الديمقراطية حين تكون السلطة العسكرية، السلطة الدينية، رئاسة المجلس الدستوري، مجلس الأعلى القضاء، تعيين مسؤولي المجلس الاقتصادي والاجتماعي ومجلس المنافسة والهيئة المركزية للوقاية من الرشوة ووالي بنك المغرب من اختصاصات رئيس الدولة غير الخاضع لأي مراقبة أو تقييم؟ باختصار، ثمة ما يُتساءل عنه بخصوص طبيعة النظام الديمقراطي المقترحة إقامته في بلادنا. على أي حال، ثمة شيء مؤكد.. ثمة إحساس لدى فئة عريضة من الديمقراطيين، مثل الشباب الذين يقفون من وراء هذا الإصلاح، بأن الجبل تمخض فولد فأرا. أما المنهجية المتبعة فهي تماثل تلك التي كتب عنها سياسي شهير ما يلي: «يجب اتباع الجماهير من أجل قيادتها، وترك كل شيء لها من أجل سلبها كل شيء». توشك منهجية من هذا القبيل أن تحول الربيع المغربي إلى صيف.