بعد الكشف عن مسودة الدستور القادم للمملكة، ما الملاحظات الأساسية التي سجلتموها على مضامينه؟ - أولى ملاحظة هي إعادة بناء هندسة دستورية مختلفة عن الدساتير السابقة، إلى درجة أن القارئ للمسودة يحس بما يسمى في القانون الدستوري ب«بالوقع السيكولوجي للقاعدة الدستورية»، نظرا للتغييرات التي حدثت في شكل صياغتها وترتيب موادها، وهنا يجب الاعتراف بأن اللجنة المغربية لمراجعة الدستور كانت أكثر جرأة من لجن الفرنسيين، الذين كانوا يصوغون الوثائق الدستورية السابقة، رغم اختلاف المحيط السياسي للصياغة تاريخيا، ولكن أعتقد بأنه لو عهدت صياغة الدستور إلى لجنة أجنبية، فإنه من الصعب عليها أن تقدم مسودة بالشكل الموجود أمامنا في وثيقة 2011. وبالرجوع إلى المضمون، يبدو أن النظام الدستوري المغربي سيشتغل بأدوات برلمانية تحت مراقبة أدوات رئاسية، فالعلاقات بين رئيس الحكومة والبرلمان تخضع لقواعد النظام البرلماني، لكن علاقة الملك برئيس الحكومة ستكون محددة بقواعد النظام الرئاسي. كما يمكن أن نورد كملاحظة ثالثة أننا بصدد بداية عصرنة الملكية، إضافة أن الملك بدأ في وضع مسافة بينه وبين الحكومة والقضاء، رغم استمرارية العلاقة التي لم تعد بنفس الشكل الدستوري الموجود في وثيقة 1996. أما الملاحظة الرابعة، فتتعلق بحجم الحقوق والحريات التي تتجاوز عشرين مادة لدرجة أننا نعتقد بأن اللجنة، وهي تصوغ المشروع، كانت ترد على بعض ما يروج في الشارع من مطالب حقوقية. لكن هذه الملاحظات لا تنفي بأن صياغة الدستور قد تخلق بعض الصعوبات المرتبطة بالتأويل، لأن العديد من المقتضيات جاءت في صيغة إعلانات، إضافة إلى حجم القوانين التنظيمية المشار إليها في مسودة الدستور التي تحتاج إلى فترة زمنية كافية لإخراجها، مع ضرورة الانتباه داخل كل هذه العناصر إلى حالة الفاعل السياسي الحزبي والنقابي، إن كان مهيئا للملاءمة مع مضامين هذا النص الجديد، فالمقتضيات الواردة في النص ستكون في مواجهة بعض البنيات الحزبية والنقابية العتيقة لحد الآن.
هل مشروع أول دستور في عهد الملك محمد السادس يتماشى مع مفهوم الملكية البرلمانية الذي طالبت به بعض الأحزاب السياسية وحركة 20 فبراير ؟ - إن التحليل السياسي والدستوري لمطلب الملكية البرلمانية، التي راجت في الشارع وفي مذكرات بعض الأحزاب السياسية، يبين أن من حملها يستعملها كشعار سياسي أو مطلب سياسي دون ضبط لميكانيزماتها الدستورية، وقد لاحظنا أن بعض الأحزاب السياسية التي أشارت إلى الملكية البرلمانية طرحتها في مقدمة مذكراتها، وانتقلت في المضمون إلى تقديم مقترحات مختلفة تتناول ازدواجية السلطة التنفيذية وليس ملكية برلمانية. ويلاحظ بأن الأحزاب السياسية ومكونات حركة 20 فبراير، التي حملت شعار الملكية البرلمانية، لم تعد إلى التجارب الدستورية التي تبين أن الانتقال إلى الملكية البرلمانية هو مسلسل وليس حالة تقع بين عشية وضحاها، مسلسل يحتاج إلى مرحلة زمنية توضع فيها البنيات والمؤسسات القابلة لاستيعابه وتطبيقه دستوريا، بل لم تنتبه إلى أنه داخل مسلسلات بناء ملكيات برلمانية يحتفظ الملك بسلطاته، ولكنه يقرر تدريجيا مع الزمن عدم ممارستها لما تكون البنيات مهيأة ومستقرة سياسيا وسيكولوجيا، ونحن في مشروع 2011 أمام إشارات بعض مظاهر بداية التنازل. لكن دعنا نتناقش صراحة هل المغرب مهيأ للعمل بأدوات الملكية البرلمانية؟ أعتقد أن المغرب غير مهيأ لاستيعاب الحمولة الدستورية للملكية البرلمانية حاليا، وهو رأي قد لا يعجب الكثيرين. لكن ما الحجج الداعمة التي تستند إليها في هذا الطرح؟ - الحجة الأولى تتمثل في أنه لوحظ داخل الملكيات الأوربية أن بناء واستقرار المنظومة القانونية يعد عنصرا أساسيا في المسلسل الزمني للانتقال التدريجي نحو الملكيات البرلمانية، ونحن في المغرب لازالت القاعدة القانونية غير مرسخة بقوة. الحجة الثانية أن النظام السياسي وإن شهد تطورا بتغير التوازنات وبروز القواعد العامة للعبة السياسية وانتقال الصراع بين الفاعلين السياسيين إلى نقاش حول الإصلاح ومقارباته ومناهجه، فإنه لازال لم يجرب ازدواجية السلطة التنفيذية، ومن الصعب سياسيا ودستوريا الانتقال مباشرة من ملكية تنفيذية إلى ملكية برلمانية دون الاشتغال الدستوري بمعادلة ازدواجية سلطة تنفيذية، يمارس داخلها الوزير الأول لأول مرة بعض الصلاحيات الدستورية إلى جانب الملك. الحجة الثالثة أن انتقال الدولة في المغرب من دولة موحدة بسيطة إلى دولة جهات اقتصادية وتمثيلية موحدة يتلاءم مع نظام ازدواجية السلطة التنفيذية أكثر من الملكية البرلمانية، لأن هذا التحول في نقل السلطات من الدولة إلى الجهة يحتاج إلى المحافظة على الاستقرار الدستوري للمؤسسات الكبرى في الدولة الناقلة للسلطات إلى الجهة. أما الحجة الرابعة فتكمن في حالة النخبة السياسية في المغرب: هل لدينا نخبة سياسية قادرة على استيعاب حمولة الملكية البرلمانية وأثرها الدستوري؟ فدورة النخب السياسية تتغير بشكل بطيء في المغرب، ويبدو أن الكثير من النخب السياسية تستعد للانتخابات التشريعية المقبلة، مما يعني أنه يجب انتظار 2017 لميلاد جيل جديد من السياسيين، وبالتالي، فالذين يطالبون بملكية برلمانية كشعار سياسي لا ينتبهون إلى حالة النخب الموجودة. وبالتالي، أعتقد أن اللجنة وإن كانت قد صاغت بعض المقتضيات لتجيب بها عما كانت تحمله حركة 20 فبراير من شعارات، فلا أظن أن أحدا كان يعتقد بأنه بمجرد خروج مسودة الدستور سوف تقول حركة 20 فبراير إن مطالبها قد تحققت، فالحركة هي حركات بموضوعات مختلفة ويمكن أن تقع بينها اختلافات في تقييم مشروع الدستور. كان الفصل 19 من الدستور الحالي، الذي كان يوصف بأنه دستور داخل الدستور، يثير على امتداد السنوات جدلا في المشهد السياسي. كيف ترى على ضوء مضامين الدستور القادم تعامل لجنة مراجعة الدستور مع هذا الفصل؟ وهل هناك قطع مع هذا الفصل والإشكالات التي يطرحها؟ - أشير، أولا، إلى أن الفصل 19 هو ضحية أطروحات جامعية وكتابات فقهية دستورية، أولته وضخمته بشكل قد لا يعرفه الفصل 19 نفسه أو الذي صاغ الفصل 19 نفسه، وأدعو هنا إلى العودة إلى هذه الكتابات التي رسمت العديد من الخطوط الحمراء، وهنا أنبه إلى خطورة التأويل، خاصة أن العديد يمارسه بدون ضوابطه العلمية المهنية. وأوضح، ثانيا، أن الهندسة الجديدة غيرت الأرقام التي لها دلالتها النفسية. كما تم تقسيم الفصل 19 إلى فصلين، وإن كانت لم تصل إلى مسألة الفصل بين الصفات والسلطات الدستورية، ولكنها فصلت بين مجالين: مجال ديني قابل للتأويلات الما فوق دستورية، ولكنه مقيد مؤسساتيا، ومجال وضعي دستوري للملك مقيد بما هو مكتوب في الوثيقة الدستورية.