في الحقيقة، إن قراءة وتفكيك أي نص أو وثيقة قانونية، إنما هو من اختصاص أصحاب الميدان، الذين هم فقهاء القانون والباحثون في قضاياه والخبيرون بشؤونه، لاسيما وأنهم على دراية عميقة بمبادئ القانون ونظمه، والقانون الدستوري، والقانون الدولي، ومناهج البحث القانوني، وغير ذلك. غير أن هذا لا يمنع الفئات المثقفة الأخرى من تناول ما هو قانوني بالقراءة، إما سعيا إلى استيعاب مضامينه ومحتوياته، أو استفهاما حول بعض الحيثيات الملتبسة عليها أو على الرأي الوطني العام. وهذا ما ينطبق على مسودة الدستور المغربي، التي ألقى نصها المستشار الملكي محمد معتصم، مساء يوم الجمعة 18 يونيو 2011، مباشرة بعد الخطاب الملكي، على مختلف القنوات المغربية، بل وعلى قناة الجزيرة مباشر كذلك، وهي بذلك ليست حكرا على جهة دون أخرى، بقدر ما إنها ملك للمغاربة كلهم أجمعين، لهم الحق في فهم مقتضياتها، ومناقشة مضامينها. كما تجدر الإشارة إلى أن الاستيعاب الحقيقي لمضامين الدستور المغربي الجديد المعروض للاستفتاء الشعبي مستهل الشهر القادم (يوليوز)، لن يتأتى إلا في ضوء خطاب 8 مارس السابق، الذي يشكل المرجعية الأولى لهذا التعديل الدستوري، ثم على أساس خطاب 18 يونيو الفاصل، الذي جاء مفسرا لمختلف ملامح الدستور الجديد، عبر عشرة عناصر تناول فيها الملك أهم معالم المرحلة القادمة. من هذا المنطلق، أقدم هذه القراءة الأولية المتواضعة لمسودة الدستور المغربي الجديدة، قصد المساهمة بشكل هادئ وبناء في هذه القضية القانونية، ذات البعد الوطني والمصيري، وأطرح بدءا هذه المساءلة المشروعة؛ ما هي القيمة المضافة التي أضافتها مسودة الدستور الجديدة إلى ما سبقها من دساتير (1908، 1962، 1970، 1972، 1992 و1996)؟ وما علاقة ذلك بالحراك السياسي والنضالي الذي يشهده الواقع المغربي منذ أكثر من أربعة أشهر؟ لأن أي حديث عن التعديل الدستوري الحالي في المغرب مفصول عن الحركة الاحتجاجية التي تجتاح مختلف مدن المغرب وقراه، يظل بعيدا عن الصواب والواقعية، لذلك فإن خطاب 9 مارس 2011، الذي طرح ورش التعديل الدستوري، إنما جاء استجابة لحركة المجتمع المغربي، ومطالبته الأكيدة بسقوط الاستبداد والتهميش والظلم، وتسريع وتيرة الإصلاح والتغيير والتنمية، لكن ما مدى ارتباط ما جاءت به مسودة الدستور من تغييرات تشريعية وإضافات قانونية، بنبض الشارع المغربي ومطالبه الاجتماعية والاقتصادية المشروعة؟ لعل الجديد الذي أتت به مسودة الدستور المغربي يتنوع ويتعدد، وهذا، مما لا شك فيه، كان متوقعا بالاستناد إلى خطاب 9 غشت، الذي أرسى الخطوط العريضة للدستور المغربي المقبل. وتتحدد أهم العناصر الجديدة التي أضافتها مسودة الدستور الجديد في: اعتبار نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية برلمانية ديمقراطية واجتماعية، ونقل العديد من سلط الملك إلى رئيس الحكومة، واعتبار الملك شخصا محترما (وليس مقدسا) لا تنتهك حرمته، وإضافة اللغة الأمازيغية باعتبارها لغة رسمية ثانية للمغرب، والاعتراف بمختلف روافد الهوية الوطنية، وغير ذلك. وما يهمنا في هذه الصدد، هو الجانب المتعلق بالبعد اللغوي الأمازيغي، الذي يمكن اعتباره عنصرا جديدا في مشروع الدستور، ولعله يعد بذلك أهم قيمة مضافة جاء بها هذا المشروع، حيث الإقرار باعتماد اللغة الأمازيغية لغة رسمية ثانية للمغرب، استجابة لرغبة وكفاح قسم عظيم من الشعب المغربي، الذي حرم عبر عقود طويلة من التعبير عن هويته الأصلية، وتوظيف لغته الأم، غير أن هذا الجانب يشوبه بعض اللبس والغموض، يتعلق سواء بطبيعة السياق النصي الذي يقر ترسيم اللغة الأمازيغية ودسترتها، أم بطبيعة السياق الواقعي لهذه اللغة ولذويها المتحدثين بها. عندما نقرأ العبارة التي ورد فيها معطى ترسيم اللغة الأمازيغية، وجعلها لغة رسمية للمغرب، ندرك أنها أنصفت اللغة الأمازيغية بقدر ما كشفت عن عجز ما في التعاطي مع وضعيتها الهشة، التي لا تؤهلها حاليا لأن تتبوأ موقع لغة رسمية في المغرب! ثم إنها لم تفسر أكثر المقصود بهذه اللغة. فلنتأمل العبارة كما جاءت في الفصل الخامس: "تظل العربية اللغة الرسمية للدولة. وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها. تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة، بدون استثناء. يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وذلك لكي تتمكن من القيام مستقبلا بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية". المستفاد من هذه الفقرة المتعلقة بمقام ترسيم اللغة الأمازيغية، أنها تعتبر اللغة العربية هي اللغة الرسمية الأولى، ثم تليها اللغة الأمازيغية، مما يعني أن اللغة الأمازيغية تأتي في الدرجة الثانية بعد اللغة العربية، وهذا ما قد يؤوله أي أمازيغي بشكل سلبي، ليس لأن اللغة الأمازيغية وردت في المرتبة الثانية على مستوى النص، وإنما لأن وضعيتها الراهنة لا تسمح بأن تكون لغة رسمية، إلا على مستوى وثيقة الدستور، أما على مستوى الواقع، فهي في أمس الحاجة إلى التفعيل والإدماج، وهذا لن يتأتى إلا في المستقبل المجهول، مما يرسخ منطق التسويف والتأجيل وإعطاء الوعود، عوض الانكباب الفوري على تأهيل هذه اللغة وترقيتها، وهذا ما يستحضر تاريخيا سيناريو الاعتراف بالأمازيغية واستحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وإدخال هذه اللغة في المنظومة التعليمية المغربية الرسمية، وبعد مضي أكثر من عقد زمني، اكتشف الأمازيغ أن دار لقمان ما تزال على حالها الأول! من هنا ينشأ التخوف من أن يتكرر السيناريو نفسه، فيظل هذا الترسيم للغة الأمازيغية مجرد إجراء دستوري ليس غير، جاء ليمتص غضب الشارع الأمازيغي. ثم إنه ما المقصود باللغة الأمازيغية؛ هل اللغة الأمازيغية الموحدة التي تبدو بعيدة المنال، وأنها سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء! بالقياس إلى الجهود المحتشمة التي تبذل قصد توحيدها ومعيرتها، أم لغة أهل سوس التي أصبحت هي المحظوظة والمستأسدة في المشهد الثقافي الأمازيغي، أم ماذا؟ هذا على مستوى النص، أما على مستوى الواقع، فحدث ولا حرج! أو حدث ولا تسل! ومرد ذلك إلى جملة من الأسباب: • أولها؛ أن مشروع تدريس اللغة الأمازيغية وتعميمها يظل متأخرا، وقد ترتب عن ذلك أن الأغلبية الساحقة من الأمازيغ والمغاربة لا يعرفون القراءة بأبجدية تيفيناغ، فكيف سيتعاملون في المستقبل القريب مع الوثائق الرسمية الأمازيغية، قصد فهمها واستيعاب مضامينها، خصوصا وأنها سوف تكتب لا محالة بحرف تيفيناغ، كما يصنع المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية! ألا يحتاجون إلى مترجم أو بالأحرى إلى تقني متخصص في حرف تيفيناغ لفهم لغتهم الأصلية، التي ناضلوا من أجلها أمدا طويلا؟ • وثانيها؛ ما جدوى ترسيم لغة ما، سواء أكانت العربية أم الأمازيغية، واللغة الفرنسية؛ وهي لغة المستعمر الغريبة عن الواقع المغربي وتقاليده وثقافته، تهيمن بشكل كاسح وفاحش، في مختلف الميادين الثقافية والاقتصادية والتعليمية والتكنولوجية؟! • وثالثها؛ ألا يعني هذا الترسيم للغة الأمازيغية، مجرد ذر للرماد في الأعين، وامتصاص لسخط فئة عريضة من المجتمع المغربي، دون أية استشارة مع ذوي التخصص من خبراء اللغة الأمازيغية ولسانييها وفقهائها. عود على بدء، إن ترسيم اللغة الأمازيغية لا يكتسي أية قيمة ملموسة إلا إذا أخذت بعين الاعتبار واقع الإنسان الأمازيغي الحقيقي، الذي لا يوجد إلا في المغرب الخلفي، مغرب الجبال الوعرة والصحارى القاحلة، وفي ضواحي المدن الكبرى المهمشة، وهذا يعني أنه يتحتم ربط التعديلات الدستورية الجديدة بما هو اجتماعي واقتصادي وتنموي، لا التركيز على الأبعاد الرمزية والشكلية لبعض القضايا السياسية والثقافية، في حين يغيب تماما البعد المعيشي اليومي، الذي يعتبر الهاجس الأوحد الذي يسكن نفوس معظم المغاربة، عربا وأمازيغ. وهذا ما يسري كذلك على البعد اللغوي الأمازيغي الذي جاءت به مسودة الدستور فقط لسد باب قد تأتي منه ريح الثورة فتستريح، ولم تفكر لجنة صياغة الدستور، أو لنقل الدولة المغربية في إعادة النظر جذريا في تعاطيها مع ملف تدريس اللغة الأمازيغية وتعميمها. على هذا الأساس، يمكن القول أن ترسيم اللغة الأمازيغية ودسترها، يعد مكسبا من الأهمية القصوى بمكان، لا ينبغي التفريط فيه، غير أنه يشكل في الوقت ذاته، التحدي الفعلي لخدمة اللغة الأمازيغية وتنميتها لأن ترقى بحق إلى لغة رسمية في المغرب، لا لأن تظل مجرد نص ذي طابع شكلي ورمزي مرهون بالمتن الدستوري لا أقل ولا أكثر. مما يدعو الدولة المغربية إلى وضع استراتيجية جديدة لهذا الغرض، مغايرة عن الاستراتيجية الترقيعية المعتمدة من قبل المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الذي أنيطت له مهمة تقعيد اللغة الأمازيغية ومعيرتها وتعميمها، غير أنه فشل إلى حد الآن في تحقيق هذا المبتغى المفصلي والمصيري للثقافة الأمازيغية، مقتصرا على الأنشطة ذات الطابع التواصلي والترويجي والبروتوكولي، والآن عندما حظيت اللغة الأمازيغية بالترسيم والدسترة، انكشف للعيان مدى الوضعية الهشة والمزدرية لهذه اللغة، التي يرطن بها أكثر من نصف ساكنة المغرب، فلم يملك المشرع المغربي، أمام ضغط حركة المجتمع الاحتجاجية، إلا أن يعلن عن دسترتها، لكن بكيفية جزئية مشروطة بقانون تنظيمي، لا ندري متى سوف يظهر، وكيف سوف يتعاطى مع هذه اللغة!