أن يدرك السجين من تسببوا في سجنه ويَخبر نوايا من يديرون مسرحيات تعذيبه المعنوي والفكري.. هي ربما أسمى درجات التحرر. في حين أن من يمعنون سرا وراء الكواليس في الانتصار للذة القمع والظلم هم السجناء الحقيقيون، لأنهم يحاربون كل من يشبهون الشاعر «بودلير» في قدرته على رؤية الجمال مختبئا وسط كومة من القبح. كما أن هناك دائما مؤمنين شرسين بقضايا عادلة، يجابهون المتاعب من أجل إيصال أفكارهم إلى مناطق آمنة. في حين يتكفل بقمعهم من يؤمنون بأن القبح هو الأصل، وأن أي محاولة لتغييره هي من ضروب الخيال لا يقوم بها سوى غر ليست لديه تجربة أو معرفة بخبايا الأمور. هذا ما يعنيه الحكم بالسجن على الصحافي «رشيد نيني» والذي قد يُفهم ما دام أنه كان هناك إصرار على محاكمته بالقانون الجنائي عوض قانون الصحافة، لكن ما لا يُفهم هو حين يتم منعه من ملامسة القلم والورقة داخل السجن، لأن ذلك يعني ضمنيا أن العقاب صوِّب نحو الصحافي في المقام الأول. ويظهر بوضوح أن هناك، في جهة ما من المشهد العام للحريات، من يحاول، بعصا الفساد، أن يضرب على أرجل حرية التعبير لكي يطرحها أرضا. الحقيقة أن سجن الصحافي وسط هذه المتغيرات، التي نستعد لاستقبالها بإيجابية في مغرب اليوم، يشبه انتكاسة المريض الذي ما إن تماثل للشفاء حتى تكالبت على جسده العلل كي تمنعه من التعافي. والدليل أن هناك فكرتان في بلادنا، تبحث واحدة منهما عن هواء سياسي وحقوقي صحي، والأخرى ترى أن هذا الهواء ليس حقا مضمونا، بل مجرد حمى أصابت بعض الحالمين الذين لا يمتلكون التجربة والحكمة، أو على الأقل يجب أن يسعدوا بالجرعات التي تحدد من طرف من يظنون أن حرية التعبير والإفصاح عن العطش للتغيير هي هبة وأعطية وليست حقا مشروعا. مثل هذه المواجهة بين الفكرتين جاءت في مسرحية «الرهان» للكاتب الروسي أنطوان تشيكوف الذي أورد فيها نزالا فكريا بين محام شاب ورجل أعمال ثري، راهن فيه المحامي الشاب، مقابل ثروة رجل الأعمال، على تحمل السجن لمدة من الزمن في قبو منزله. وهو نزال بين عالمين، واحد لا يعترف فيه الأقوياء بأي قدرة للآخرين على الصمود والتحدي بدعوى قلة التجربة والسذاجة. لكن المحامي الشاب انتصر، بعد أن صمد، ومرت سنوات السجن بسرعة، لأنه كان على امتدادها منغمسا في لذة الاغتراف من المعرفة التي جعلته يكتشف أن الثروة وصفقة الرهان تافهة، مقارنة بالمعرفة والإيمان. في حين أن الرجل الثري ظل طوال تلك المدة متوجسا ومضطربا من إمكانية فقدان ثروته ومشوش الذهن بسبب هزيمته الفكرية أمام الجميع. ليبرز الكاتب أسئلة عن معان وأشكال أخرى للحرية، وعمن هو السجين الحقيقي، الجلاد أم الضحية. لأن مفهوم الحرية يظل نسبيا جدا حين يكون الجلاد بدوره أسيرا لأفكاره التي تقاوم التحول، وينكر على من يراهم أقل تجربة أو عمرا أو نفوذا قدرتهم على التغيير. نريد فقط أن نستوعب من هو رشيد نيني الذي حكم عليه بالحبس النافذ لمدة سنة.. هل هو قاطع طريق لا نعرفه أم هو الكاتب والصحافي الذي قُرر ألا يتمتع بحقه في الورقة والقلم والحرية؟