استكمالا لقول العدد السابق في موضوع خصوصية امتحانات الباكلوريا هذه السنة، والتي تفترض يقظة حقيقية وتنازلا من طرف الجميع عن بعض تقاليد «شد لي نقطع ليك» والتي تخصص فيها الجميع هذه السنة، من الوزارة الوصية التي تنفي جملة وتفصيلا وجود مشكلة في تعليم المغرب، لاعتقادها أن كل مطالب الشغيلة التعليمية هي مطالب مبالغ فيها، مرورا بالنقابات والتي صحت فجأة بعد «غفوة السلم الاجتماعي»، التي دامت أكثر من عقد لتجد نفسها «تناضل» دون بوصلة لفرض الذات في مغرب يتحول، هذا أولا، ولاحتواء سرطان الفئوية في الجسم التربوي ثانيا، فتبنت سياسة «الإضراب أولا» لتحقيق الأمرين معا، الأول رسالة للدولة أنها لاتزال موجودة، والثاني رسالة للجميع أنها لولاها لما تحقق شيئ.. فامتحانات هذه السنة تتويج لسنة ملتبسة على جميع الأصعدة، والوجه البارز لالتباسها هو هذا التشرذم «الحقوقي» في الجسم التربوي بشكل غير مسبوق، ودخول جميع الفئات في دوامة «حقي أولا»، صحيح أن هذا نقاش يعيد طرح أسئلة كثيرة منها أسباب فقدان حبل التواصل بين رجل التعليم ووزارته، ومنها أيضا أسباب تشجيع النقابات للفئوية بدل محاربتها، لكن السؤال الأهم في تقديري هو أسباب التباس العلاقة بين الحق و الواجب، وأقول الأسباب، مادامت نتائج هذه العلاقة لا تحتاج قوة ذكاء لاستنتاجها، فأبناء الشعب الذين تتجاوز نسبتهم %90، وخصوصا الذين تنتظرهم الامتحانات والمباريات المصيرية هذا الصيف أو بداية السنة المقبلة لم يتعلموا شيئا البتة، والذين تعلموا شيئا فقد اقتطعها آباؤهم من مصاريف «الكفة». وبصدد الحديث عن الواجب، وخاصة واجب المدرسين الذين ستُناط بهم مهمة التصحيح، سيكون من نافلة القول التذكير بواجباتهم الأخلاقية قبل المهنية وهم يصححون أوراق تلاميذ هم ضحايا «نسق» لم يختاروه، فإذا كان نسقنا الاجتماعي والسياسي هذه السنة قد فرض علينا جميعا أن ننخرط دونما تردد في «معارك» لانتزاع حقوقنا من دولة ممعنة في احتقار رجل التعليم، فإن المعركة الآن ستكون ضد أنفسنا وضد بعض تقاليدنا الذهنية والتي نصوغ بها ظلمنا للتلاميذ، خصوصا بعض المواد الدراسية، التي راكم أصحابها «اعتقادات» سيكولوجية أكثر منها معرفية، تصور مانح النقطة المنصفة ظالما «لخصوصية» مادته، فكلنا يعرف أن بعض المواد الدراسية ابتليت بذهنيات تعتبر تجاوز نقطة 14/20 إهانة لواضعها، مع أن المُقَوَّم، بفتح الواو، لا يفترض فيه أن يكون نسخة المقوَّم، بكسر الواو، تماما كما لا يفترض فيه أن يكون نسخة عن طه حسين في اللغة العربية أو نسخة عن شكسبير في الانجليزية، أو نسخة عن هيدغر في الفلسفة، أو نسخة عن باسكال في الرياضيات، أو نسخة عن ستيفن هوكينغ في الفيزياء أو نسخة عن ابن خلدون في التاريخ، إذ الأمر يتعلق بتلميذ أولا، وثانيا لأنه تلميذ قضى معظم أوقاته هذه السنة في الشارع لغياب مؤسسات بديلة حاضنة في جل مدننا وقرانا، وثالثا لأنه تلميذ في سنة ختامية يتعلق بها كل مستقبله. قيل الكثير عن ذاتية عملية التصحيح في تاريخ علوم التربية، ورغم كل المحاولات الجدية لإضفاء الحيادية عليها، خصوصا في الأسلوب الأنجلوساكسوني للتقويم، فإن العوامل المتعلقة بذات المصحح، شخصيته، وضعه النفسي والاجتماعي، علاقاته المهنية والإدارية، مستواه المعرفي و خبراته العملية، كلها عوامل تدخل في تحديد النقطة، لذلك فهي عملية ذاتية تصبح لها امتدادات غير ذاتية في الواقع الفعلي للمترشحين، فالمطلوب من الوزارة و الجهات المسؤولة عن الامتحانات في الأكاديميات أن تحرص أشد الحرص في اختيار المصححين، عبر نهج مقاربة كيفية وليست كمية في توزيع عدد الأوراق على المصححين، ثم التعامل الجدي مع تقارير مفتشي المواد عن المدرسين، إذ لا معنى أن يتم تكليف مدرسين تم تعيينهم هذه السنة تعيينا مباشرا في عملية التصحيح دون أن يخضعوا لأي تكوين نظري وعملي في مجال التقويم والتصحيح، فإذا كانت قلة التكوين البيداغوجي أو انعدامه قابلة للاستدراك على مستوى التدريس بالدعم التربوي مثلا، فإن عملية التصحيح في الباكلوريا تترتب عنها وضعيات نفسية بل واجتماعية خطيرة قليلا ما ينتبه إليها المصححون. مشكلة أخرى وهي أنه يرتقب أن تحطم هذه السنة رقما قياسيا جديدا في حالات الغش، لذلك يتوجب على الجهات الوصية أن تحمي المدرسين المراقبين، فقد تم تسجيل عشرات الحالات في السنوات القليلة الماضية لمدرسين تعرضوا للإهانة أو الضرب في الشارع من طرف تلاميذ أو ذويهم لمجرد حرصهم على تطبيق القانون المانع للغش، والنتيجة هي ضياع حقوقهم في دهاليز محاكمنا الحلزونية، وهنا لا بد من الوقوف أيضا على مشكلة أخرى داخل هذه المشكلة، وهي أن هناك جهة في المغرب، يعرف الجميع أن الغش في الامتحانات أضحى فيها هو الأصل، وذلك بسبب طغيان المقاربة الأمنية في تعاطي الدولة مع هذه الامتحانات، وعندما يحاول مدرس مراقب القيام بعمله يصبح بقدرة قادر شخصا «غير متفهم»، سواء عند التلاميذ أو عند الدولة أيضا و التي تضغط عليه ليسحب شكواه التي تقدم بها ضد تلميذ ضربه بسلسلة حديدية لمنعه من الغش، وهذه حالة حقيقية..فإما أن نمنع الغش عن الجميع أو ندع الجميع يجتازون الامتحانات في بيوتهم ليفعلوا ما يريدون..فالباكلوريا حق لجميع المغاربة من طنجة إلى لكويرة.