شهدت الساحة النقابية في السنوات الأخيرة تحولات ساهمت في بروزها متغيرات وطنية وأخرى دولية، وعلى رأس المتغيرات الأولى جولات الحوار الاجتماعي بين الحكومة وأرباب المقاولات والنقابات الأكثر تمثيلية للموظفين والعمال والأجراء (يقصد بالأكثر تمثيلية النقابات التي استطاعت الحصول على نسبة لا تقل عن 5 % في الانتخابات المهنية)، هذا الحوار الذي بدأ منذ عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وتكثف في السنوات الأخيرة ليفرز بعد أخذ ورد اتفاقات كان آخرها اتفاق 28 يناير المنصرم، والذي اعتبرته المركزيات النقابية المشاركة في الحوار (الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، والاتحاد المغربي للشغل، والاتحاد العام للشغالين بالمغرب، والفيدرالية الديمقراطية للشغل) مكسبا لصالح الشغيلة في انتظار تحقيق المزيد من المكاسب عملا بقاعدة خذ وطالب، في حين رأت فيه فئات أخرى لم تسو وضعيتها حصيلة هزيلة، سيما في موضوع الترقية الداخلية، ومن هذه الفئات أساتذة الإعدادي الذين لم يسبق لهم أن كانوا معلمين، والذين سبق لهم أن كانوا معلمين... إلخ. ونتج عن هذا الوضع والحديث عنها قطاع التعليم توجيه انتقادات حادة للمركزيات النقابية، واتهامها بالعجز عن الدفاع عن كل مطالب الشغيلة، خاصة وأن النقابات المنخرطة في الحوار الاجتماعي دخلت في سلم اجتماعي تطبيقا للالتزامات مع الحكومة لمدة 4 سنوات، كما نتج عنه اختيار الغاضبين للعمل النضالي الفئوي في إطار لجن وطنية أعدت ملفها المطلبي، وانتخبت مكاتبها المسيرة، وعملت من خلال عدة وفقات احتجاجية وإضرابات على ممارسة الضغط على الجهات الحكومية للاستجابة لمطالبها. وقد قوبل تحركها بمواقف متباينة من النقابات الكبرى، فبعضها اعترف بمشروعية مطالبها، وأنه ينبغي الانكباب عليها، والآخر استخف بعملها، ورأى فيه فورة غضب سرعان ما تخبو في بحر أشهر معدودات، وذلك بفعل محدودية تجربة هذه اللجن، وغياب أساس قانوني لها يمكنها من تأطير الفئات التي تدافع عنها، والتفاوض حولها إن دعت الضرورة مع الجهات الرسمية. في هذا الملف، حاولت التجديد ملامسة ظاهرة الفئوية في العمل النقابي (التي تظل موجودة في بعض القطاعات كالصحة والتعليم)، وعلاقته بواقع النقابات والمشهد الاجتماعي المغربي عامة، وذلك من خلال مقال لعضو اللجنة الإدارية للاتحاد الوطني للشغل بالمغرب محمد رماش، وتصريحات لكل من المنسق الوطني للجنة ملف أساتذة الإعدادي الذين لم يسبق لهم أن كانوا معلمين أحمد حرباشي، ونائب الكاتب العام للاتحاد النقابي للموظفين (الاتحاد المغربي للشغل) محمد هاكش، وعضو المكتب الوطني للجامعة الوطنية لموظفي التعليم سعيد مندريس (الاتحاد الوطني للشغل)، كما نورد جدول يظهر حالة بعض اللجن الفئوية الموجودة في الساحة وكذا أبرز مطالبها. أعد الملف: محمد بنكاسم يتحدث محمد رماش عضو اللجنة الإدارية للاتحاد الوطني للشغل بالمغرب عن ظاهرة نشوء لجن فئوية، سيما في المجال التعليمي، وقد اختارت لنفسها النضال المستقل عن المركزيات النقابية الأكثر تمثيلية للموظفين والعمال والأجراء بعدما انتقدت أداء هذه الأخيرة، ونظرت بعين السخط لنتائج جولات الحوار الاجتماعي الذي جمعتها بالحكومة. ويحاول المسؤول النقابي في هذا المقال شرح أسباب الظاهرة ارتباطا بتحول النقابات من آلية للضغط وللإضراب إلى آلية التفاوض والحوار، وما يقتضيه ذلك من تقديم تنازلات وتبعية في بعض الأحيان لحسابات سياسية، ويخلص في الأخير إلى نتيجة مفادها أن ما يجري يدعو النقابات إلى إعادة النظر في أوراقها وترتيب أولوياتها، وتجديد استراتيجياتها النضالية. النقابيون بين الصالح والطالح العمل النقابي عمل نبيل وشريف إذا اتسم بالقواعد الشرعية والأخلاقية، وهو في الوقت ذاته عمل مشبوه ومذموم إذا اتسم بأمراض عدة كالانتهازية والوصولية وانعدام الديمقراطية بين هياكله. كما يمكن اعتبار النقابي عضوا نشيطا في ساحتنا الاجتماعية، يستمع بحدس الخبير ويحاور بنفس المحارب، ويحاول أن يحقق المطالب بنفس السخي الكريم، وهو المدافع عن الحقوق والمكتسبات كالجندي الشاكي للسلاح، المدافع عن التخوم، الحارس للحدود، القريب من نبض الشارع وأهله، المساهم المنتج في اقتصاد بلده، لا المشاغب المحترف في فنون العراقيل وتثبيط العزائم. ذلك ولا شك هو العمل النقابي أو الرسالة النقابية، أو هكذا من المفترض أن تكون. لكن وللأسف علقت في أذهان الكثير أن النقابة هي الصدام والإضراب والاضطراب والاعتصام، ومنطق القوة وغلظة الصوت، وشدة التصرف واحمرار العيون وانتفاخ الأوداج. فالقاعدة عند هؤلاء هي رفع كلمة لا دائما والاستثناء هو كلمة نعم. أما النقابي الحكيم في تصرفه ومواقفه، المحاور الفذ في حججه بلباقة وسلوك متخلق، والذي يميز القضايا والمطالب بميزان الترجيحات بين المصالح والمفاسد، بين ما يجب تحقيقه الآن وما يمكن تأجيله لغد وفق مقاربة اجتماعية واقتصادية... فهذا النموذج عند الكثير أو البعض من الكل، يعتبر منبطحا ومهرولا، رجل لا يتقن فنون العمل النقابي إلا ما كان من بيع وشراء ومتاجرة في القضايا والمشاكل، رجل يحب أن يفرغ نفسه وجهده من ساحة النضال والعراك، رجل لا يحب أن يقف في منتصف الطريق، بل لا بد أن يتطرق إلى أقصى طرف فيه. فالنقابي عند هؤلاء يجب أن يركن إلى اللاءات، بحيث يظل متشبثا بسقف مطالبه دون تنازل واقعي وموضوعي يذكر، أي أن يظل في صف المعارضة الدائمة ولو طارت معزة. النضال الفئوي: النشوء هذا ما يمكن رصده في الآونة الأخيرة، حيث أصبحنا نشاهد تحركات موازية لهيآت ولجن ذات صبغة مطلبية في إطار فئوي، متجاوزة بالتالي ما تحقق عبر المركزيات النقابية ذات التمثيلية المعتبرة من خلال صناديق الاقتراع. إننا أمام شكل جديد يقوم على حصر المطالب في دوائر صغرى، في غياب نظرة شمولية وحدوية تنظر للقطاع ككل. حتى وإن تحدثنا عن الخصوصيات، فلا بد أن تكون ضمن وحدة متراصة وهدف عام. إن ما يمكن تسميته بالجيوب النقابية أو جيوب المقاومة أو العقوق النقابي إن صح التعبير، أصبح ظاهرة تسعى من خلال مواقفها صياغة العمل النقابي على شاكلة جديدة؛ لذا أصبح من الضرورة بما كان مد الجسور معها من خلال حوار مسؤول وجاد يراعي الخصوصية، ومشروعية المطلب النقابي في حوار هادئ ومتزن، فهذا التمادي في عدم الإنصات والتواصل سيجعلنا جميعا كمركزيات وفئات مختلفة في منأى عن تحقيق الهدف المنشود. فالمركزيات قد تبدأ في فقد قواعدها كالصحة: (هيأة الأطباء)، والتعليم: (أساتذة الإعدادي الذين لم يسبق لهم أن كانوا معلمين) على وجه الخصوص. كما أن هذه الفئات ستكون حتما جسما بلا رأس، لأن توقيع الاتفاق من خلال الحوار الاجتماعي أو القطاعي لا يكون إلا مع ذوي التمثيلية للأجراء والموظفين والعمال. اعتقد أن الفجوة ما زالت صغيرة يجب تداركها، ومحاصرتها بالإنصات وتجاوز المزايدات، وعدم الاغترار بقوة العدد والتكتل من جهة، ومشروعية التمثيلية من جهة ثانية. إن مثل هذا الشرود أو العقوق أو العصيان النقابي سيجعل عملنا عبارة عن فسيفساء وبلقنة تغيب فيها النظرة العميقة لمستقبل العمل النقابي ككل، كما قد ينبني عليها تفلت من مستويات عدة تعيق سير المرفق العمومي، خاصة في بعض القطاعات الأساسية كالتعليم، مثال: الأساتذة الذين لم يسبق لهم أن كانوا معلمين. الأساتذة الذين سبق لهم أن كانوا معلمين. المعلمون العرضيون الذين سويت وضعيتهم المادية، والآخرون الذين لم تسوى وضعيتهم. المعلمون حاملو الإجازة. المعلمون العاملون بمراكز تكوين المعلمين والمعلمات. الأعوان (وهم الفئة الأكثر تضررا). المفتشون بمختلف فئاتهم. باقي الأطر الإدارية المشتركة. ومن يدري فهذه الفئوية قد تلد فئات أخرى من قبيل التخصصات كأساتذة الرياضيات، والعلوم الطبيعية، والعربية والتربية الإسلاميةب وما يستتبع ذلك من مطالب مختلفة. إضافة إلى باقي الفئات الأخرى كأساتذة التعليم الثانوي التأهيلي، فيصبح بالتالي لكل فئة برنامجها ولجانها ونضالاتها ومواقفها. وهذا ما يدفعنا إلى طرح السؤال التالي: كيف يكون مصير أجيالنا وأبنائنا؟ وما هو مستقبل تعليمنا ونقاباتنا وأمننا العام والخاص؟ المركزيات النقابية واللجن الفئوية إن مثل هذه القضايا والمشاكل لا تعالج بالضغط، أو التجاهل من لدن الحكومة أو المركزيات النقابية، بل لا بد من تحديد المطالب وتحيينها، وحل المشكل النقابي داخليا أولا بين المركزيات وهاته الفئات، وإعادة الاعتبار للعمل النقابي المسؤول. إن الخروج من بوادر أزمة باتت شبه محققة في العمل النقابي أصبحت مطلبا ملحا قبل الملف المطلبي لباقي القطاعات، بل أصبحت مسؤولية أي فرد فرد أيا كان موقعه، وكيفما كانت مواقفه وانتماءاته. إن الحكومة بحواراتها المتعددة قد تكرس هذا الوضع من خلال فتح حوار اجتماعي وآخر قطاعي وثالث فئوي. فما جدوى ذلك في إطار الحديث عن التمثيلية النقابية؟ هل المشروعية للحوار تكون من خلال صناديق الاقتراع، وتحقيق تمثيلية قانونية أم من خلال الضغط الممنهج المشروع تارة والمتسرع تارة أخرى؟! إن الانتقال من آلية الضغط والإضراب إلى آلية التفاوض والحوار، وفي غياب الذاكرة الجماعية والضمير الجمعي في بعض الأحيان جعل البعض لا يكترث بنتائج الحوار الأخير الموقع بتاريخ 28 يناير 2004 من لدن الحكومة في شخص وزير المالية والخوصصة ووزير الداخلية ووزير التربية الوطنية والشباب، والمركزيات النقابية: الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، والاتحاد المغربي للشغل، والاتحاد العام للشغالين بالمغرب، والفيدرالية الديمقراطية للشغل. وهذا ما زكاه تأخير دفع المستحقات الملتزم بها من طرف الحكومة، في الوقت الذي نتحدث فيه عن زيادات لم نحتاج فيها إلى جولات وتفاوضات عسيرة كما هو الشأن بالنسبة إلى الزيادة المخصصة للبرلمانيين. ومن جهة أخرى، فإننا لا نبالغ إذا قلنا إن المتفاوض النقابي يملك من المؤهلات، ويكتنز ترسانة من المعطيات الدقيقة ما لا توجد عند جل القواعد المنتفضة صاحبة المطالب، وهذا يتطلب: تواصل حقيقي وفاعل ودائم قبل وأثناء الحوار بين القواعد والقيادات النقابية. استثمار إعلامي مرئي ومكتوب ومسموع خلال أطوار الحوار. ضرورة اعتماد المركزيات النقابية على خبراء لهم دراية بالقانون الإداري والمالي. ضرورة حصول النقابات على المعطيات الكاملة قبل التفاوض قصد تحليلها. ضرورة تحديد جدولة زمنية لفترات الحوار لإعطاء فسحة سانحة لاتخاذ القرار المناسب. ضرورة رجوع المركزيات إلى هياكلها التنظيمية العليا أو الدنيا أثناء إمضاء القرارات النهائية. ضرورة التزام الحكومة بجدول زمني واضح وصريح التنفيذ. عقد جموع عامة لشرح المواقف والحيثيات المرتبطة بالحوار ونتائجه. إن نجاح الحوار الاجتماعي أو القطاعي رهين بجدية المتفاوضين ومدى رغبة الجميع الصادقة في إيجاد الحلول الممكنة، والتسلح بالرؤية الشمولية للواقع من جميع جوانبه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية... وامتلاك المعطيات الدقيقة والواقعية، والبحث عن النقاط المشتركة الأساسية، والتزام الجميع حكومة ونقابة وقواعد ببنود الاتفاق، وترجمة شعار السلم الاجتماعي إلى واقع ملموس يتعايش فيه الجميع. إعادة النظر في العمل النقابي إن ما يلاحظ في الساحة في ظل المدونة الجديدة للشغل، وبعض الأنظمة الأساسية لقطاعات معينة كالتعليم يتطلب إعادة صياغة جديدة للعمل النقابي على قواعد شرعية وقانونية وأخلاقية، حتى نعيد الاعتبار لهذا الميدان النبيل، وهذا يتطلب لقاءات تكوينية ودورات توعوية لا تقتصر على المطالب المادية فحسب، وإنما تشمل جوانب أخرى كالتعريف بالواجبات، إضافة إلى المطالب المعنوية والاجتماعية، والتي يصب مجملها في إعادة الاعتبار للشغيلة عموما أيا كان موقعها، وكيفما كان انتماؤها. وعلى المستوى الداخلي، فلا بد من دمقرطة الهياكل التنظيمية والقرارات المتخذة، وتجديد التصورات ودقة الأهداف، وتفعيل آليات الحوار والتواصل بضمير مهني أخلاقي يرشف من بحر أخلاقياتنا الأصيلة كنكران الذات، وإيثار المصلحة العامة على المصلحة الذاتية، وتقوية البناء الداخلي للنقابة. إن ما يقع من تفتت وتفلت نقابي يفرض على المركزيات إعادة أوراقها وترتيب أولوياتها، وتجديد استراتيجياتها النضالية، وإلا ستصبح غدا رأسا بلا جسم. كما أن هذه الفئات إن لم تواجه نقدا ذاتيا صريحا لمواقفها، وآفاق عملها في ظل عمل نقابي وحدوي جاد ومسؤول، ستصبح كذلك جسما بلا رأس. فقبل رفع سقف المطالب من خلال ملفنا المطلبي لا بد من المطالبة بتصحيح البيت الداخلي للمركزيات النقابية. فلا خير فيهم إن لم يقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها. محمد رماش عضو المكتب الوطني للجامعة الوطنية لموظفي التعليم عضو اللجنة الإدارية للاتحاد الوطني للشغل بالمغرب