لا مبالغة في القول: إن الطريقة التي تمت من خلالها مواجهة العدو في حرب يونيو وما نجم عنها من نتائج قد قصمت ظهر المشروع النهضوي العربي، الذي تحول إلى مشروع مضاد للنهضة وللعرب، منذ قرر التعايش مع نتائجها أو الانصياع لها، رغبة من حاكميه في الحفاظ على كراسيهم في شروط هزيمة شاملة ومذلة أمام الخارج، اعتقدوا أنها لن تطيح بهم وستكون دون نتائج سلبية عليهم إن هم تمكنوا من موازنتها وامتصاص آثارها عبر سياسات تقوم على القمع والتجويع والقضاء على أي أثر للحرية والمشاركة داخل بلدانهم. ومع أننا كتبنا كثيرا عن الحرب، على جانبيها العربي والإسرائيلي، فإن كتاباتنا دأبت على ذكر وتكرار وقائع وحقائق الهزيمة المزدوجة: أمام العدو وأمام الذات، بعد أن غمس الكتاب ريشتها في حبر التشاؤم واليأس، وجعلوا همهم استنهاض همم العرب، ليس كي يردوا على الهزيمة قط وإنما كذلك على النظم التي سببتها وقبلتها وتعايشت معها واحتمت بالعدو تحت مسميات شتى غطت حالتين من السلام: إحداهما تعاقدية والأخرى فعلية تحولت بمرور الزمن إلى أمر واقع لا يجد أحد في نفسه الجرأة على التصدي له أو الخروج منه، بينما يتواصل الانهيار العربي في كافة المجالات الداخلية والقومية والإقليمية والدولية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية... إلخ، ويداخل المواطنين العرب الشك في قدرتهم على الخروج من مأزقهم المضاعف، ويتعرضون إلى أنماط شتى من الابتزاز، تركز تارة على الخارج باعتباره المسؤول عن كل ما يعانونه من شرور وكوارث، وأخرى على الداخل «المتأخر والمنقسم على ذاته» والمسؤول بالتالي عن قعود حكوماته وعجزها عن التصدي الناجع لمخاطر الخارج وللاحتلال. مع مرور الزمن وطول فترة الهزيمة، دخل العرب في زمن تكراري ممل، لا جديد فيه غير مفردات جديدة تضاف يوميا إلى حال التردي الشامل، في ما يسمى كلاميا «المعركة» مع الخارج التي كانت تتحول في كل مجال إلى معركة ضد الداخل. لكن ثورة الشعب الأخيرة، التي اعتبرت النظام العربي بحق الحلقة الضعيفة التي تقيد أيدينا وتقتل نفوسنا، أحيت لدينا الأمل في الخروج من هذه الأجواء وردت إلينا إيماننا بأن حريتنا المستعادة هي بداية تحررنا من الاحتجاز القاتل، الذي فرضه الخارج علينا بمعونة أنظمتنا، أو فرضته أنظمتنا بمعونة الخارج، لا فرق، بعد أن أعادتنا إلى زمن يشبه عصر الاستعمار القديم، إن لم يكن أسوأ منه في جوانب معينة، منها أنه لم ينجح في منعنا من مقاومته، بينما استسلم للأمر العربي القائم وسلم مصيره إلى أجانب أعداء في آن معا. بالثورة العربية الشعبية الراهنة، نبدو كمن كسر أخيرا قيد الداخل الذي يكبل إرادتنا ويزهق أرواحنا، وبقي علينا قيد الخارج الذي كثف تدخلاته في شؤوننا بعد انتفاضتنا، حماية لنظام هنا وإنقاذا لرئيس هناك، طمعا في نفط هنا ودفعا لمخاطر هنالك، علنا نبقى أسرى العلاقة التي قامت بين النظام وبينه أو نجددها في شروط جديدة تعطيه الحق في تقييد حريتنا والحد من قدرتنا على تأسيس وجودنا بأيدينا، لصالحنا وضد، هو الذي يضطهدنا ويسرق ثرواتنا ويتدخل في شؤوننا، حماية لإسرائيل بين أهداف أخرى، التي يريدون منعنا من رؤية التحالف القائم بينه وبينها، ومنعنا بالتالي من خوض معركة ضدها هم طرف فيها، والحيلولة بيننا وبين تعبئة طاقات عربية موحدة بوسعها ليس فقط تحرير أراضينا المحتلة في الجولان ولبنان، بل كذلك في فلسطين، التي كان ضياعها أس بلائنا وسببا رئيسيا في تأخرنا، ويعتبر تحريرها، في وعينا كما في الواقع، أساس نهوض أمتنا من العدم السياسي، الذي يفرض عليها منذ قرون، ويراد لها أن تبقى غارقة فيه أبد الدهر. نشأت بعد عام 1948، سنة الكارثة الفلسطينية التي اعتبرت معيارا لجدية التحرر العربي وأكدت هشاشته وسطحيته، وكان أحد أهدافها قطع الطريق عليه وإبقاؤه ضمن سياقات ضيقة وبرانية، تطاول سطح الحياة العربية الخارجي دون أن تبلغ أعماقها، خاصة على صعيد دور الشعب المجتمعي والسياسي. واليوم، وبعد أن لعبت فلسطين طيلة نيف وأربعين عاما دور رافعة تحاول الحد من التدهور العربي، جاء دور العرب ليكونوا رافعة النضال الفلسطيني، وبدأ ينتشر التغيير انطلاقا من هذا الوعي، ومن عمقه الشعبي بالذات، مبشرا بانتهاء العلاقة الجدلية التي قامت بين احتلال فلسطين وسقوط التحرر العربي، وبين وجود العدو على أرضها ووجود حكام يريدون مقايضة الحقوق بما يضمن كراسيهم، وبحلول آلية مغايرة، معاكسة، محلها تربط الصعود العربي بتحرر فلسطين والتقدم الداخلي هنا بالتراجع الصهيوني هناك، لتجعل في مدى منظور من حياة الكيان الغاصب في وطننا جحيما لا يطاق، ستنعكس آثاره الخانقة على كل مستوطن فيه ومهاجر إليه، إن نحن نجحنا في تفعيل واستغلال فارق القوة بيننا وبينه، الذي كان مجمدا ومشلولا في ظل أنظمة الهزيمة والاستبداد، ويجب أن يعمل من الآن فصاعدا ضمن توجه عملي يرى في تحرر فلسطين معيار أي تحرر عربي، وفي أي تحرر عربي مقدمة لتحرر فلسطين، فيطلق العنان لقدراتنا البشرية والمادية التي لا تقاس ولا يمكن أن تقاس بها قدرات الكيان القزم، مهما عملقوه ونفخوه. لا مفر من حدوث هذا، كي لا تنتكس الثورة الجديدة وتزول وتحل محلها ثورة ناقصة أو مضادة أو ملفقة، ونعود إلى أوضاع أشد سوءا بكثير من تلك التي شرعنا نخرج منها للتو: بتضحيات تشبه تضحيات الحروب الضارية، التي تدور بين أعداء. كي يحدث هذا، يجب أن تكون حرية مواطننا رأسمالنا، ومبادرته أرضية انطلاقتنا، وكرامته هدف مسعانا، ودولته المدنية حاضنة عدالتنا ومساواتنا، وأن نعرف كيف نفيد من حريته وكرامته بما هما إطار لا غنى عنه لأي تقدم، خاصة في مجال الصراع مع عدو تتدفق عليه موارد هائلة، لكنها ستعجز عن مجاراة ما لدينا من طاقات وقدرات، أهمها قاطبة حريتنا المستعادة، التي سيمتلكها من الآن فصاعدا عربي عادي هو إنسان/مواطن، حر ومنتج، وجوده رهاننا الرئيسي، في زمن سيقترن فيه كل شيء بإرادته كمواطن أمة موحدة، هي سيدة أمرها وصاحبة مصيرها، والفضاء الهائل الذي يحتضننا جميعا، وستمكننا وحدتها من احتضان وتحرير فلسطين التاريخية التي لن نقبل يوما بديلا لها: السيدة، الحرة، العربية، قلبنا وقلب تاريخنا وحضارتنا، بل وقلب العالم. هذا الوعي المركب والمتقدم بدأ ينتشر في أرض العرب وبين مواطنيهم. إن انتشاره هو الذي يفسر هذه اليقظة الروحية الهائلة التي تجتاح تونس ومصر، والتي جعلت مؤتمر حزب العمال الشيوعي التونسي يهتف طويلا خلال مؤتمره الأخير «الشعب يريد تحرير فلسطين»، في حين هتف ميدان التحرير يوم زاره وزير الدفاع المشير طنطاوي بصوت واحد «فلسطين، فلسطين»، فكان هتافُه ردَّه على من قالوا إن الثورة لم تحدد موقفا من فلسطين، كما أعلن الثوار قبل أسابيع قليلة عن مسيرة إلى غزة فأدى إعلانهم إلى فتح معبر رفح بصورة دائمة، حسب اعتراف عضو في المجلس العسكري، علما بأن قضية فلسطين تستعيد أكثر فأكثر اهتمام وحماسة شباب العالم العربي عامة ومصر خاصة، وتعود من الهوامش إلى حيث يجب أن تكون: في القلب من جميع قضايانا، حيث هي قضية داخلية يتوقف مصيرنا كله عليها، وليست خلافا برانيا مع عدو خارجي، تتم تسويته كما يسوى خلاف حول نزاع حدودي. يزيد من ثقتنا بأن الأمور تذهب في هذا المسار ما نراه من يقظة فلسطينية شبابية، لعبت دورا مهما في المصالحة الوطنية بين «فتح» و«حماس»، ورأت فيها جزءا من معركة تحرير الوطن المحتل، وهذه رؤية استراتيجية تتفق مع رؤية الثورة الشبابية في بقية البلدان العربية، وتعد بأن تسهم في تحويل الشأن العربي إلى شأن فلسطيني صميم، والشأن الفلسطيني إلى شأن عربي حاسم، وبأن تشغل هذه الجدلية وتتمسك بمفرداتها طيلة الفترة التي سيتطلبها تحرير فلسطين: الذي سيستعيد موقعه في نفوسنا قبل أن يستعيده ومن أجل أن يستعيده في الواقع. قال أجدادنا الحكماء: إن الحرب أولها كلام. ولا بد أن يقول أحفادهم: إن أولها أفعال. ومن الضروري أن يبدؤوا أفعالهم ما دام العدو يستعد للحرب، كما قال بالأمس (يقصد يوم 5/6) رئيس أركان جيشه، وما دمنا نرى نحن فيها قدرنا الذي لا يجوز أن نهرب منه، عندما يحين أوانه في يوم قد لا يكون بعيدا! ليس يونيو هذا العام ما كان عليه طيلة قرابة خمسين عاما مضت!