بعد حوالي ثلاثة أشهر من الخطاب الملكي يوم 9 مارس الماضي وتعيين اللجنة الخاصة بالتعديلات الدستورية التي أسندت إلى عبد اللطيف المنوني، أصبحت المعالم الكبرى للدستور الجديد الذي سيحكم المغرب خلال السنوات المقبلة شبه واضحة، بعد أن تدوولت مجموعة من التعديلات الهامة إثر اللقاء الأخير الذي جمع المنوني والمستشار الملكي محمد معتصم، رئيس لجنة المتابعة، بزعماء الأحزاب السياسية. وتظهر التعديلات التي تسربت حتى الآن -وهي في المجمل تمثل أهم ما تضمنه مشروع الدستور الجديد- أن القانون الأسمى لتنظيم الدولة والمؤسسات قد حقق طفرة من شأنها أن تسهم في دفع المسلسل الديمقراطي نحو التقدم والترسخ، وأن تفتح مجالا أوسع لتطوير الممارسة السياسية والعملية الديمقراطية في البلاد، وتطلق دينامية كبرى للإصلاح السياسي. ويمكن القول بأن المغرب حقق في ثلاثة أشهر ما كان مطلوبا أن ينهض بالقيام به طيلة سنوات مضت، على الأقل كما تشهد بذلك المعطيات الأولية حول الدستور، وإن كان هذا الأخير في نسخته الجديدة يحتاج إلى مناخ سياسي جديد لتنزيله ونخبة سياسية قادرة على مسايرته والقطع مع ممارسات الماضي البائدة. فقد أجمعت جل الآراء والمواقف، التي عبر عنها مسؤولو الهيئات السياسية وغير السياسية، على أن المشروع الجديد يشكل «ثورة» في المغرب الحالي، ويضع المغرب في قلب التحولات الراهنة، وظهر من خلال التعديلات الأولية المسربة أن الأمر لا يتعلق فعلا بتعديلات على دستور قديم بقدر ما يتعلق بوثيقة دستورية جديدة شكلا ومضمونا. وشهدت مؤسسة البرلمان تطورا شاملا قفز بصلاحياته واختصاصاتها إلى مجالات أوسع، تماشيا مع مطالب الأحزاب السياسية والهيئات النقابية في مذكراتها إلى اللجنة، ومع الحاجة إلى تقوية المؤسسة التشريعية في البلاد والرقي بممارستها وسلطتها الرقابية على السلطة الحكومية. وفي هذا الإطار أضاف مشروع الدستور الجديد أزيد من ثلاثين اختصاصا إلى مجلس النواب، لتصل مجالات اختصاصه إلى أربعين مجالا تقريبا، إذ خول المشروع الجديد للبرلمان المغربي السلطة شبه الحصرية في التشريع وأغلق الباب أمام أي إمكانية أخرى للتشريع خارجه، ومن جملة الاختصاصات الجديدة التي أصبحت مناطة به إصدار العفو الشامل، والمصادقة على جميع الاتفاقيات الدولية، سواء تلك التي تكلف خزينة الدولة أو سواها، كما أصبح من اختصاصه النظر في التقطيع الانتخابي، مع التنصيص على ضرورة مشاركة المعارضة في ترؤس اللجان الدائمة في البرلمان، وأن تترأس المعارضة لجنتين برلمانيتين على الأقل. وبعد أن كان حل البرلمان حكرا على المؤسسة الملكية في دستور 1999 أصبحت هذه الصلاحية بيد رئيس الوزراء (الوزير الأول في دستور 2011) الذي منح له الحق في التقدم بطلب حل البرلمان. وبهدف تقوية المراقبة البرلمانية على الحكومة نص المشروع الجديد على ضرورة أن يحضر الوزير الأول أمام مجلس النواب مرة في الشهر، كما سيكون مطالبا بتقديم الحصيلة أمام البرلمان عدة مرات خلال ولايته. وأعطى المشروع للبرلمان حق مساءلة وزير أو أكثر داخل مجلس النواب دون أن يصل الأمر حد إسقاطه أو إسقاطهم من الحكومة، وفي اتجاه دعم سلطة التشريع وتقويتها أتاح المشروع إمكانية التقدم باقتراحات قوانين حتى بالنسبة لجمعيات المجتمع المدني في إطار مسطرة سينظمها القانون، كما نص المشروع بصريح العبارة على منع الترحال السياسي وتنظيم عملية الحضور في جلسات البرلمان واجتماعات لجانه النيابية مع ترتيب الجزاء على المخالفين. ومن التغييرات الهامة التي جاء بها المشروع أيضا إمكانية عقد دورة استثنائية بطلب من ثلث الأعضاء فقط، وتكوين لجان لتقصي الحقائق بطلب من الثلث أيضا، بعدما كانت هذه الإمكانية في دستور 1996 رهينة بغالبية الأعضاء. ومن التعديلات الهامة التي وردت في المشروع الجديد كذلك ما يتعلق بالحصانة البرلمانية، التي كانت في السابق وسيلة للتجاوز والتهرب من سيف القانون، إذ تم حصر الحصانة البرلمانية في التعبير عن المواقف السياسية بالنسبة للبرلماني ولم تعد حصانة مطلقة دون تقييد، كما في المادة 39 من دستور 1996.