عندما نقرأ عناوين بعض الصحف والمجلات الصادرة أخيرا حول «اعترافات» الضابط السابق أديب، نتخيل أن أديب قد فضح الذين كانوا يختبئون وراء حربه المعلنة على الفساد في مؤسسة الجيش. ومنذ أن أصدرت مجلة «جون أفريك» في عددها الأخير حوارا مع القبطان السابق أديب، وعنونته هكذا «القبطان السابق أديب يتهم»، وقدمت له قائلة «بعد ست سنوات من إطلاق سراحه، «القبطان الحر» السابق يفضح الوعود الكاذبة للأشخاص الذين استعملوه. في مرماه يوجد إدريس البصري والأمير مولاي هشام»، وبعض الجرائد المغربية تتناوب على ترجمة الحوار، مترجمة معه رغبة بعض الدوائر في إلصاق تهمة الخيانة والتآمر بالجهات التي استعملت القبطان السابق ودفعته إلى مهاجمة المؤسسة العسكرية. والمدهش في هذه الزوبعة القادمة من باريس والتي أثارها القبطان السابق في فنجان بعض هيئات التحرير بالمغرب، هو التأويل والتحريف الذي أعطي لتصريحاته. فالرجل ينفي في كل الحوارات التي أعطى أي استعمال سياسي له من طرف البصري أو الأمير مولاي هشام، وأن ما دفع به إلى كتابة رسالة «يفضح» فيها الراحل إدريس البصري والأمير مولاي هشام، هو عدم وفائهما بوعودهما تجاهه. فما هي هذه الوعود التي قطعها البصري قيد حياته والأمير مولاي هشام على نفسيهما تجاه القبطان السابق أديب، والتي لم يفيا بها إلى اليوم. بالنسبة للبصري فقد وعد القبطان السابق بمساعدة مالية وبالتوسط له عند الاتحاد الأوربي. أما الأمير مولاي هشام فقد وعده بمساعدة مالية قدرها حوالي مائة مليون سنتيم، لكنه لم ير منها سوى الربع. ولهذا قرر أن يخرج عن صمته ليفضح هذا التماطل. بالنسبة للبصري فلا يجب أن يؤاخذه القبطان السابق على عدم وفائه بوعده، لأنه اليوم في دار الحق، والكفن كما يعرف القبطان السابق ليست فيه جيوب. لكن إذا كان الكفن بدون جيوب فإن للقبطان السابق اقتراحا آخر لتحصيل «دينه» من البصري، ولذلك قال في حواره مع إحدى الجرائد أنه ينتظر من ورثة البصري أن يدفعوا إليه المال الذي وعده به فقيدهم. ومن غرائب الصدف أن الجريدة التي يطالب فيها القبطان السابق ورثة البصري بتسديد ديون والدهم تنشر ملفا خاصا تشرح فيه كيف تصفى ثروة إدريس البصري. لذلك يبدو أن القبطان السابق يريد أن يستفيد من هذه «التصفية» قبل فوات الأوان. أما بالنسبة للأمير مولاي هشام، فالقبطان السابق غاضب عليه لأنه لم يدفع له سوى ربع المبلغ الذي وعده بمساعدته به. وبسبب ذلك يوجد اليوم على حافة الإفلاس، بعد أن تعذر عليه الحصول على عمل في مجال الاتصالات الذي درسه بباريس. عندما نتأمل تصريحات وحوارات القبطان السابق أديب، نشفق فعلا على الرجل. وعندما نرى التحريفات والتأويلات التي أعطاها بعض الذين تعودوا كراء أقلامهم، نشفق عليهم أيضا. فالقبطان السابق الذي ارتبط اسمه بأشهر عملية فضح للفساد داخل الجيش في عهد محمد السادس، والقبطان الذي انتهى مرميا في السجن بسبب جرأته وشهامة موقفه، لا يطلب اليوم في منفاه الاختياري بباريس أكثر من مساعدة مالية. أكثر من ذلك، إنه يطالب ممن وعدوه بالمال أن ينفذوا وعودهم. نعرف أن وضعية قبطان سابق عاش تجربة الاعتقال وهاجر إلى فرنسا ودرس وحصل على دبلوم لم ينفعه في الحصول على وظيفة، هي وضعية معقدة وصعبة. وهي وضعية تشبه كثيرا وضعية الآلاف من الأطر المغربية المهاجرة في أوربا وكندا وأمريكا. الله يحسن العون. ونعرف أن كثيرا من الناس قد يوهمون البعض بإمكانية مساعدتهم في فترة من فترات حياتهم الحرجة. لكن هذا لا يعني أن كل من وضع يده في جيبه ولم يعثر على ما يسدد به ثمن القهوة سيخرج على الناس في الجرائد لكي يفضح أصحاب الحسنات الذين اقترحوا مساعدته ماديا ذات وقت ولم يفعلوا. ولعل الخطير في الأمر هو هذا الاستغلال السياسي لغضب القبطان السابق من طرف الجهات التي تريد توريط البصري والأمير مولاي هشام في تحريك خيوط «حركة الضباط الأحرار» و تفجير القبطان أديب لفضيحة الفساد في الجيش على صفحات الصحافة الأجنبية. ورغم أن القبطان السابق يقول بعظمة لسانه بأنه «ليس هناك أي حساب سياسي وراء رسالته» (حواره مع جون أفريك، عدد 2485)، إلا أن الدافع الرئيسي لمطالبته بالمال الذي وعدوه به هو حالته الاجتماعية المزرية، فإن مقدمة حوار «جون أفريك» وافتتاحية «أوجوردوي لوماروك» ومقالة «نعيم كمال» المطولة، كلها تتهم القبطان السابق بكونه كان مستعملا في مؤامرة مدبرة كانت تستهدف الملك محمد السادس بعد توليه الحكم، من طرف إدريس البصري وابن عمه الأمير مولاي هشام. والهدف المعلن من هذه القراءات المحرفة لرسالة القبطان السابق هو سحب المصداقية عن الخطوة الجريئة والشجاعة التي قام بها القبطان أديب عندما فضح اليوتنان كولونيل سارق الوقود من الثكنة وأرسله إلى السجن بسنة حبسا، في الفترة التي كان فيها محمد السادس لازال وليا للعهد. ثم بعد سحب المصداقية عن خطوته الموالية عندما فضح الرشوة التي تنخر الجيش في جريدة «لوموند» الفرنسية عندما تولى الملك محمد السادس مقاليد الحكم، فانتهى هو هذه المرة في السجن مكان العسكريين المرتشين الذين فضحهم. لسنا هنا في معرض الدفاع لا عن البصري وورثته ولا عن الأمير مولاي هشام. وإذا كانت هناك حسابات سياسية وعائلية بين ورثة البصري ومولاي هشام والعائلة الملكية، فهذه أمور تتعلق بهم، والقضاء هو المخول الوحيد بتوجيه الاتهام بالخيانة والتآمر والتواطؤ على الملك، وليس الصحافيون أو أشباههم. ما أثارني شخصيا في هذه الزوبعة الصغيرة، هو أن هناك رغبة في تبييض واقع فاسد تعيشه المؤسسة العسكرية، سبق للقبطان أديب أن فضحه وذهب بسببه إلى السجن. فالذين يريدون إيهام الرأي العام بأن القبطان أديب لم يقم بفضح الفساد والرشوة داخل الجيش سوى استجابة لمخطط محبوك الغاية منه زعزعة استقرار العرش، فكأنما يريدون إقناع هذا الرأي العام بأن الفساد والرشوة داخل الجيش ليست سوى أوهام من اختلاق مخيلة قبطان متآمر يوجد في خدمة مخطط يسعى لإحراج الملك الشاب وزعزعة الاستقرار داخل مملكته، أي أن كل ما قاله القبطان أديب لم يكن في نهاية المطاف سوى تصفية حسابات سياسية لا غير. وهذا هو الخطير بنظري في التناول الإعلامي المحرف لرسالة القبطان السابق، هذا التحريف الذي يبحث لكي يوقظ أشباح الماضي ودس الملح في الجرح المفتوح للعلاقة بين الملك وابن عمه الأمير الأحمر (وخا ماشي شي حمورية نيت). وما يجب أن يعرفه «عمال النظافة» هؤلاء الذين يريدون تلميع صورة المؤسسة العسكرية، هو أنه بعد ست سنوات من إطلاق سراح القبطان أديب، زادت الرشوة داخل الجيش، ولم تتناقص. مثلما زادت نسبة الرشوة والفساد في سائر القطاعات الأخرى. ومنظمة «ترانسبارينسي» المغرب يمكنها أن تفيدكم في هذا المجال أحسن مني. لذلك فالنقاش الحقيقي الذي طرحته معركة القبطان أديب قبل ست سنوات عندما فضح الفساد داخل المؤسسة العسكرية لا زالت صلاحيته لم تنته، بل إن هذا النقاش أصبح اليوم أكثر أهمية وحيوية من أي وقت مضى، لأنه يمس إحدى أهم دعائم الاستقرار السياسي والاجتماعي في المغرب. لذلك فالسؤال الحقيقي ليس هو من حرك القبطان أديب لكي يفضح الفساد داخل الجيش، وإنما السؤال هو هل هذا الفساد داخل الجيش موجود أم غير موجود. هذا هو السؤال، أما الباقي فكله تفاصيل. على القبطان السابق أن يكف عن البكاء والعويل في الجرائد والمجلات لمجرد أن أشخاصا وعدوه بالمال ولم يفوا بوعودهم. إذا كان أديب يريد الحصول على المال فما عليه سوى أن يشمر عن ساعديه ويشتغل أينما وجد مثلما يصنع كل الرجال عندما تضربهم الحيطان. عوض التذرع بالوعود من أجل استجداء المال السهل. إن شخصا واجه مؤسسة شرسة مثل مؤسسة الجيش، ودفع ثمن جرأته وشجاعته من حريته، لا يستحق هذه النهاية المأساوية لمعركته. مؤسف فعلا.