أطلب من القراء التسامي والتحرر، وإن لساعة قليلة من الكراهية والتشهير المتبادل اللذين يسيطران بيننا وبين سورية منذ استقلال الدولتين قبل 60 70 سنة. الكراهية، وإن كانت مبررة، تجعل الفهم صعبا، ومن المهم أن نفهم ماذا يحصل لدى الجار. المثقفون السوريون، الذين يتركزون في معظمهم في حلب وبعضهم في دمشق، يحبون بشار الأسد، كلهم تقريبا. في نظرهم (وأشدد: في نظرهم) بشار لا يسعى إلى الأبهة، ليس رجل حرب وليس نزّاعا غير مكبوح الجماح نحو الاستمتاع. ويشهد على ذلك طريقه إلى القمة، فقد اختار أن يكون طبيب عيون.. اختيار قيمي. لم يذهب إلى الجيش، الذي يمكن أن يرفعه إلى رتبة جنرال، مثل معظم أبناء طائفته العلوية. جاء إلى الحكم خلافا لإرادته، كنتيجة لحادث طريق قُتل فيه أخوه الكبير. ليست لديه عقلية عسكرية، تتميز بها قيادة الطائفة العلوية. الجيش والحكم لم يكونا من أماني ابن الحاكم كلي القدرة. وقد برز في عناده لأن يكون طبيب عيون. أنا شخصيا عندي موقف خاص من أطباء العيون، ولكن هذا ليس موضوعنا. المثقفون السوريون، الذين يتشكلون من السنة والعلويين والدروز، يتذكرون له كل هذا ويقدرون حكمته وتواضعه النسبي. يحبون زوجته الحسناء والذكية (ومن مثلنا يعرف أن لهذا أيضا أهميته)، ناهيك عن كونهم ممتنين لكون التعليم الأكاديمي هو على حساب الدولة، منذ عهد الأب. لهذا السبب، فإن طبقة المثقفين السوريين واسعة جدا بالنسبة إلى عدد السكان مقارنة بما في كل الدول العربية. في نظرهم (!) بشار الأسد ليس مجنونا على الموضة مثل القذافي، ليس مفعما بالكراهية مثل أحمدي نجاد، ليس طماعا مثل رئيسي تونس واليمن ولا يتزلف للأمريكيين (وللصهاينة) مثل مبارك، ليس دكتاتورا عدوانيا مثل صدام حسين. باتريك سيل، كاتب سيرة عائلة الأسد، يحرص على أن يسمي حكمه بالحكم المطلق. في نظر طبقة المثقفين، فإن العلمانية المؤكدة لدى بشار هي ضمانة ضد الإسلام الأصولي، الذي مكانه في البلدان المحيطة بسورية وفي وسط سورية أيضا في مدينتي حماة وحمص حيث يسيطر التزمت الإسلامي. وجدير بالذكر أنه في حماة وحمص يعيش نحو مائة ألف من أنسال الإخوان المسلمين الذين ذبحهم حافظ الأسد الأب. هناك تثور الجماهير هذه الأيام. وهم يتجرؤون على رفع الرأس في أعقاب الحورانيين الذين يكرهون كل مثقف حلبي أو دمشقي. حلب هي «تل أبيب» سورية. حماة وحمص هما بني باراك ومائة شعاريم. الحورانيون في درعا ومحيطها متدنون وفقراء أكثر من العمال الأجانب في جنوب تل أبيب. مليونا علوي وصلوا إلى القمة، عبر الجيش والمخابرات، ولن يتخلوا عن مكانتهم السلطوية. سقوطهم هو سقوط إلى الهوة، سقوط من مرتبة الحكام المحترمين والأغنياء إلى مرتبة الكفار هو أمر لا يمكن احتماله. هذا أدى إلى المذبحة الجماهيرية التي نفذها في حينه الأسد الأب، وهذا يدفع اليوم ابنه إلى استخدام الجيش بيد من حديد، وليس بيد طبيب عيون. الجينات فعلت فعلها. كما أن الجماعات التي خلفها الأب لابنه فعلت فعلها. الدبابات تسحق، الجيش يطلق النار على المتظاهرين. للأسد يوجد أخ وأبناء عم كثيرون، عقليتهم العسكرية سيئة السمعة. تأثيرهم عليه مسنود بإعجابه لأبيه. وهم لن يسمحوا له بالسقوط، حاليا. الثورة العربية في بدايتها فقط. لا يوجد حاكم أو حكم محصن منها. ولكن طالما يتدفق آلاف الطلاب والمحاضرين في الجامعة الفاخرة في حلب نحو البوابات والمختبرات، طالما قيادة الجيش بيد الضباط العلويين ولا توجد جموع للجنود تفر منه، وطالما الاضطرابات يديرها الحورانيون والإخوان المسلمون فإن بشار الأسد سيواصل «الحكم المطلق» الذي بدأه أبوه. وجدير بالذكر أن الأسد الأب كان أول من ثبت حكما مستقرا في سورية بعد سنوات طويلة من الانقلابات، مرة كل سنة أو نصف سنة. فهل سورية تختلف عن جيرانها؟ هل الأسد جيد، ذكي وقوي أكثر من باقي الحكام العرب؟ الأيام ستروي. لسنا نحن وحدنا من ندهش ونقلق. أوباما، صاحب الرؤيا الهاذية عن الديمقراطية في كل الدول العربية، يتلعثم حين يصل إلى سورية. وهو يفرض عقوبات وهمية ويطالب بإصلاحات يبدو أن الأسد سيتبناها وينقذ نفسه بواسطتها من مصير جيرانه، ربما. بالطبع، توجد للأسد معارضة وحوله توجد اضطرابات، ولكن ليس بالحجم المادي أو الروحي في ميدان التحرير.