هل كان ضروريا تقديم صحفي للمحاكمة في حالة اعتقال، هل كان ضروريا أن يصدر البلاغ الذي صدر عن النيابة العامة في حقه، وهل كان ضروريا أن يوضع قانون الصحافة جانبا ويلجأ إلى القانون الجنائي؟ لا أعرف، على وجه الدقة، سبب هذا الإصرار على الحبس. إذا كانت التهم المعلنة هي السبب، فإنها لا تستوجب الاعتقال، كان ممكنا تقديم رشيد نيني طليقا إلى العدالة، وتجنيب بلادنا هذه المعركة الخاسرة، لأن كل معركة ضد الصحافة هي معركة خاسرة، كان ممكنا أن يستمر رشيد نيني في كتابة عموده انتصارا لآرائه أو دفاعا عن نفسه، لأن الكتابة هي أفضل قفص يقف فيه الصحفي للقيام بهذه المهمة. وكان ممكنا أن ترد الصحافة بألوانها المختلفة على رشيد نيني وتُسَفِّه آراءه أو تدعمها، وكان يمكن أن يساهم هذا الحوار (الذي لا يمنع القضاء من القيام بدوره كاملا) في توضيح الأمور، لأن التباسا كبيرا نشأ عن هذا الاعتقال لدى الرأي العام، هناك شريحة واسعة تعتقد أن رشيد نيني يقبع في السجن لأنه أعلن حربا على المفسدين وفضحهم بالاسم والملفات والمَبَالِغِ أحيانا، وهناك شريحة أخرى تعتقد أنه يقبع في السجن لأنه تجرأ على أجهزة قوية ورماها بتهم خطيرة تجعل منها أجهزة تشعل الفتن عوض أن تخمدها، وهناك شريحة ترى في التهم المنسوبة إليه إشارة إلى أن نقطة مَّا قَد أفاضت الكأس، فما أكثر مَا حام حول الحمى حتى وصل إلى الخط الذي لم يكن واردا ولا مقبولا أن يصل إليه! وبين الذين يرفعونه إلى مقام بطل المرحلة والذين يُنْزِلونه إلى مرتبة «مشاغب تحت الطلب!»، هناك حقيقة بسيطة هي أن بلادنا على علاقة متوترة وملتبسة بالحرية، لم نستوعب بعد أن الديمقراطية هي أولا وقبل كل شيء «قشابة واسعة»، لا بُد أن تتحمل «المبالغة» و«التجاسر» وحتى الأخطاء القاتلة، ليس لأن حرية التعبير أقدس من حقوق الناس أو أقدس من الحقيقة، ولكن لأن «قانون الصمت» أخطر على الديمقراطية من «الألْسِنة الطويلة». ولم نستوعب بعد أن الحرية لا تقبل التجزيء والكيل بمكيالين، كأن يكون التطاول على شخص أعزل حرية، والتطاول على حوت كبير مسألة فيها نظر! إن ما يجعل الصحافة «حائطا قصيرا» في بلادنا هو أننا اعتبرنا حرية التعبير هي التجلي الوحيد للديمقراطية، فبينما تضع كثير من المؤسسات المعنية بالديمقراطية أيديها في جيوبها وتتفرج على الفساد وإهدار المال العام والتجاوزات والشطط في استعمال السلطة، تمضي الصحافة في حربها المنفردة كأنها تصارع طواحين الهواء. وطبعا، إذا كان جهاز المحاسبة معطلا، فإن جرأة الصحافة (بالخطأ أو الصواب) تصبح «اعتداء سافرا» على الفُرْجة. لو كان القضاء يُصَفِّي بإرادة منه ما تلوكه الألسنة لنعرف المجرم من البريء، لو كانت لجن تقصي الحقائق البرلمانية تصل إلى إعمال المحاسبة وترتيب المسؤوليات، لو كانت تقارير المجلس الأعلى للحسابات حلقة متصلة بحلقات القضاء تبرئةً أو إدانةً، لو كان التصريح بالممتلكات مسطرة تجعل مكاسب المسؤولين تحت أنظار الشعب، لو كان الناس، كل الناس، سواسية أمام القانون ولا مجال للإفلات من العقاب، لو كان كل ذلك وغيره، لاكتفت الصحافة بدورها الطبيعي، ولما أصبحت حنجرة وحيدة تصيح في واد، ولما أصبحت هي النشاز عوض أن تكون نغمة مُتَّسِقة في عزف جماعي. رشيد نيني تعبير فصيح عن هذا الوضع، بطلٌ رغما عنه، في بلد دفع الصحافة دفعا إلى أن تتحول إلى سيف دونكيشوتي عوض أن تساهم في بناء ديمقراطية لا تُخْتَزل في حرية الكلام. إن الخروج من هذه العلاقة الملتبسة يقتضي شيئا أعمق من الدفاع عن حرية الصحافة، فلا صحافة حرة في ديمقراطية معطوبة، ربما كان ضروريا أن يدفع البعض من حريتهم ثمن هذا الوهم، ليدركوا أن بناء صروح صحفية لا يمكن أن يتم على كثبان من رمال، وهذا يستلزم من الجسم الصحفي نفسه أن يتساءل عن الأدوار المنوطة به في وضع سياسي مثل وضعنا، وأن يتساءل بعمق عن مضمون الاستقلالية، وعمّاذا، وعن أية جهة. قبل أكثر من سنة، نشرت مقالا في الاتحاد الاشتراكي عن إشكالية العلاقة بين الصحافة والأجهزة، وقد ذهبت فيه إلى أن هذه العلاقة ضرورية ومفهومة في كل ديمقراطيات العالم، فمن مهام الأجهزة أن تهيئ الرأي العام -عبر الصحافة- لقرارات سياسية كبيرة، ومن مهامها أن تنور الرأي العام -ودائما عبر الصحافة- بتطورات مؤكدة أو محتملة لقضية من قضاياه الكبرى، ليست في الأمر عَمَالةٌ ولا استرزاق أن يتعاون الصحفي مع الأجهزة، متى ما كان ذلك خدمة للمصلحة العليا للبلاد. لكن هذه العلاقة لا تكون سليمة إلا في أنظمة تخضع فيها الحكامة الأمنية للمراقبة الشعبية، وإلا فإن انزلاقات خطيرة قد تنشأ عن ذلك، ليس أقلها تصفية الحسابات الشخصية وتغذية معارك النفوذ والسلطة. لماذا أُذكِّر بذلك في هذا السياق بالذات؟ لأنني قرأت تصريحا لمحام من هيئة الدفاع عن رشيد نيني، يقول: «في هذه القضية هناك جزء من الدولة يصفي حسابه مع جزء آخر من الدولة». وقد أفزعني هذا الكلام، لأنه يقول ببساطة -على احتمال أنه مبني على أساس- إن جهاتٍ مَّا تلعب لعبا خطيرا لا يعلم إلا الله عواقبه الوخيمة. وإذا صح ذلك؟ من الأحق بالمحاكمة؟! نعم، هناك حاجة ماسة إلى شيء أعمق من الدفاع عن حرية معزولة ننتشي بها حتى توقظنا صفعة مفاجئة، ماهي الفائدة من الجدل حول قانون الصحافة، أو القانون الجنائي، أو قانون مكافحة الإرهاب، إذا ظل الغموض يكتنف علاقة الصحافة بالسلطة، فلا يعرف أحد متى تكون صديقة أو حليفة أو متواطئة أو محرضة أو عدوا لدودا؟! ربما حان الوقت للبحث عن سبل إلى تطبيع هذه العلاقة، حان الوقت لندرك جميعا أن بلادنا في حاجة إلى صحافة قوية مثلما هي في حاجة إلى أحزاب قوية وإلى مؤسسات قوية، فبهذه القوة المشتركة نستطيع تجنب الماء العكر والذين يصطادون فيه. في كل الأزمات التي حدثت مع الصحافة المُسْتقلة في السنوات الأخيرة، انتهى الجميع دائما إلى الاقتناع بضرورة نزع فتيل هذا التوتر، وإقامة علاقات موضوعية بين الصحافة والدولة، واعتبار الحرية مكسبا لا رجعة فيه، وليس صدفة أن يعلو صوت المطالبة بالإصلاح (إصلاح قانون الصحافة، إصلاح أخلاقيات المهنة، إصلاح الإعلام العمومي) عقب كل أزمة من هذه الأزمات، قبل العودة