تراجع «عيسى» إلى الوراء ووضع يده على الجانب الأيسر من صدره بعد أن أحس بآلام حادة تعتصر قلبه الذي كان يلفظ ما بداخله. رفع أصابعه إلى مستوى عينيه ليتفحص السائل الدافئ الذي بلل يده قبل أن يصيبه دُوار برأسه، أحس بالأرض تُسحَب من تحت قدميه وثقل جسده على ساقيه وخفتت دقات قلبه ثم سقط جثة هامدة. سقط «عيسى» أرضا أمام عيني وجتة الشابة وشقيقيها محمد وخالد. وقف الثلاثة مشدوهين من وقع الصدمة وهول الواقعة، يتفحصون «عيسى» الذي كان دون حراك وينظرون إلى بعضهم البعض. كان أحد الشقيقين ينظر إلى المُدْية التي كانت بِيَدِ شقيقه وهي تتقاطر دماء ثم ينظر مرة أخرى إلى الخدوش الخفيفة على معصمه، ومرة ثالثة إلى صدر جثة زوج شقيقته الممددة على زليج فناء البيت المتواضع. لم يكن أحد من الثلاثة يعي ما وقع وكيف وقع اللهم هول المصيبة. انسحب الشقيقان قبل أن تطلق الزوجة صرخات دوَّت في الحي، فبدأ الجيران في التوافد على المنزل والتدخل في محاولة لإنقاذ الجار المُحتضر دون أن يحاولوا فهم مجريات الحادث ولا أسبابه... حملت سيارة الإسعاف التابعة للوقاية المدنية «عيسى» إلى المستشفى الإقليمي بتاوريرت قبل أن تتبعها سيارة عناصر الشرطة القضائية لمعاينة الضحية، لكن هذا الأخير كان قد لفظ أنفاسه الأخيرة متأثرا بجرحه الغائر فور وصوله إلى المستشفى... عادت عناصر الشرطة إلى بيت الهالك لتفتح تحقيقا في النازلة مع الزوجة وأقاربها. خلاف عائلي دائم كان «عيسى»، قيد حياته، شابا في الخامسة والعشرين من عمره، متوسط القامة، أبيض البشرة، قوي البنية. كان حديث العهد بالزواج ورغم ذلك كان يحاول أن يقوم بمسؤولياته الأسرية في حدود إمكانياته المتوسطة والأرباح المتواضعة التي كان يجنيها من بيع الدجاج. كان قبل أن يقرر الارتباط بفاطمة ويبني عش الزوجية، يدخر كل درهم ويتجنب الجلوس في المقاهي ولعب الورق وسهر الليالي. وكانت الزوجة التي اختارها من أسرة يعرفها جيدا بتقاليدها المحافظة، نعم الزوجة. وكانت هي أيضا تعرفه جيدا، بحكم العلاقات التي كانت تربط الأسرتين القريبتين. أقسمت العروس على أن تساهم في تمتين أركان البيت وتخدمه وتربي الأبناء خير تربية ولو في ظروف متواضعة، حيث إن رأس مال الفقير هي القناعة. استمرت الحياة السهلة إلى حين ولم تدم طويلا، حيث دَبَّ خلاف بين فاطمة وزوجها عيسى. وكان كُل منهما يرى ذلك طبيعيا وعاديا بين شخصين اختلفت تربيتهما وتنافرت طباعهما. كانا يتركان ذلك للزمان الذي يزاوج القلوب ويكيف العقول. لكنه لم يقع لا هذا ولا ذاك، إذ تراجع الحب أمام النفور والود أمام الحقد والخير أمام الشر، وسادت لغة الشتم والسب والقذف. لم يعد أحدهما يطيق الحياة مع الآخر. كان عيسى يعنف الزوجة كلما استشاط غضبا أو وجد سببا لذلك، ولم تكن لها القدرة على المقاومة إلا أن تشتكي أمره للأسرة عَلَّها تدفع عنها ما أصابها. كانت أسرة الزوجة تتجنب الطلاق الذي كان يعد «عيبا» و»عارا» بالنسبة إلى الأسر المحافظة، وكانت تحاول أن تهادن وتأمل في العثور على حل غير «أبغض الحلال عند الله». لكن لم يكن يُرى في الأفق بصيص من الأمل. تحول البيت إلى جحيم وأبطاله إلى أعداء يحملون في نفوسهم من البغض ما لا يُتصوَّر.. تدخل وعراك وجريمة كان الشقيقان ينتظران عودة «عيسى» إلى البيت مساء يوم الخميس لتأنيب صهرهما، ومطالبته بالكف عن تعنيف شقيقتهما التي لم تعد تطيق الحياة تحت سقف واحد إلى جانب زوجها. كان الثلاثة يحاولون العثور على طريقة للتفاهم وإيجاد أرضية للتحاور. كان الأشقاء يرغبون في إطفاء النيران التي تلهب عش شقيقتهما دون الدخول في صراع مع زوجها، مقتنعين بأن ذلك لن يجدي أبدا والعكس سيؤججها. كان السكوت يخيم على البيت والحزن يعلو الوجوه وكان الثلاثة جالسين على إحدى الأرائك التقليدية. استفاق الأشقاء على وقع خطوات أقدام وصوت انفتاح الباب. قام الجميع وتأهبوا للدخول في حديث وحوار الأصهار، لكن ما إن وقع نظر البعض على نظر البعض الآخر حتى احمرت الأعين وانتفخت الأوداج وانطلقت الألسن وتشابكت الأيدي وتدافعت الأجساد. تعطلت الكلمات وتبادلوا اللكمات. لم يدر أحد الشقيقين كيف عثر على سكين وتسلح به ودخل المعركة وفي لحظة أنهاها قبل أن يستفيق على صرخة صهره «عيسى». محاصرة واعتقال وعدالة تلقت عناصر الأمن الإقليمي بتاوريرت، مساء يوم ربيعي من شهر مارس في حدود الساعة التاسعة والنصف، خبر وجود شخص بالمستشفى الإقليمي بتاوريرت بعد تلقيه طعنة في القفص الصدري يوجد على إثرها في حالة خطيرة. وعلى الفور، انتقلت المصالح ذاتها إلى المستشفى لمعاينة الواقعة، لكن الضحية كان قد فارق الحياة متأثرا بجراحه البليغة في الصدر ناحية القلب تسببت فيها آلة حادة. وبعد فتح تحقيق في الجريمة اتضح أن الهالك، وهو من مواليد 1981 وبائع الدجاج، كان على نزاع مع زوجته، مساء نفس اليوم، بحي «موجنيبة» بتاوريرت وحضر شقيقا الزوجة، الأول من مواليد 1987 يشتغل كهربائيا والثاني قاصر من مواليد 1989 للدفاع عن أختهما قبل أن يدخل الثلاثة في عراك أدى إلى مقتل الزوج. وفي الحين تمت محاصرة بيت الجانيين إلى أن تم القبض عليهما وإنجاز المسطرة القانونية في شأنهما قبل إحالتهما على محكمة الاستئناف بوجدة من أجل الضرب والجرح بالسلاح الأبيض المفضي إلى الموت في حق الضحية زوج شقيقتهما، كما عاين أطوار الواقعة وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بتاوريرت وعناصر الأمن من الشرطة القضائية بالإضافة إلى حشد كبير من المواطنين. طلاق أبدي ووري جثمان «عيسى» التراب ووضع في بيته الأخير بعد أن طلق الحياة الدنيا مرغما وطلق الزوجة مكرها في عز شبابه، كما طلقت «العروس» حياة الزوجية وهجرت بيتها وذكرياتها الأليمة. واقتيد الشقيقان إلى بيت مظلم من نوع آخر بعد أن فقدا حياة الحرية مثقلين بجثة صهرهما دفاعا عن شقيقة «مقهورة» كان لا بد من مساندتها ومؤازرتها... زرعت الواقعة الحقد والكراهية بين أسرتين فقدتا الحب والحنان بعد أن فقدتا الأكباد... وبقيت عناصر الأمن مرابطة بالحي ليلة الجريمة تفاديا لنشوب نزاع بين أفراد الأسرتين المتصاهرتين اللتين تحولتا إلى عَدُوَّتيْن.