في حي «الحافة» بطنجة وداخل زقاق ضيق، يوجد منزل عبد اللطيف الزهراني، الجاني الذي ارتكب جريمة قتل في حق طالب مغربي بمقهى «الحافة» قبل نحو شهر، والذي وضع حدا لحياته مؤخرا بقطع شرايينه، بعد أن طاردته الإشاعات طويلا حول إمكانية تورطه في تفجيرات مقهى «أركانة» بمراكش. أمتار قليلة تفصل المقهى الذي وقعت فيه الجريمة عن بيت الجاني، الذي انتحر بدل أن يسلم نفسه إلى الشرطة. أزقة الحي المتداخلة والتي لها أكثر من اتجاه ساعدت الجاني بشكل كبير على الفرار بعد ارتكابه لجريمة القتل، ولم يفلح أحد في إلقاء القبض عليه، وحتى الشرطة نفسها ظلت عاجزة عن الإمساك به، فهذا الحي عبارة عن متاهة بأزقته الضيقة التي لا يعرف أحد إلى أين تقود. داخل منزل تبلغ مساحته 30 مترا مربعا، على أبعد تقدير، كان الجاني يقطن رفقة أمه وزوجته وإخوته. المظهر الخارجي للمنزل يوحي بأن هذه الأسرة تعيش ظروفا اجتماعية واقتصادية قاسية، بالإضافة إلى البيئة التي كان يعيش وسطها، والتي ساهمت بشكل كبير في تغيير سلوك الجاني وتحوله إلى قاتل. بعد انتحار الجاني، يبدو أن الأسرة غادرت ذلك البيت والتحقت بأقربائها، على اعتبار أن ذلك المنزل سيظل دائما يحمل ذكريات حزينة وسيئة للغاية. في إحدى غرف هذا البيت الصغير انتحر الجاني أمام أنظار عائلته وبطريقة مازوشية عندما قطع شرايين يده وتطاير الدم في كل مكان. كان يريد التخلص من نفسه قبل أن تقتحم الشرطة غرفته وتعتقله حيا. أحد المقربين من الجاني قال إنه سبق له أن زار أسرته عندما كان هاربا من قبضة الأمن، ولم ينتبه له أحد، إلى درجة أنه باغت أهله عندما دخل عليهم وأحدث حالة من الفزع والخوف لديهم، لأنهم كانوا يعتقدون بأن الشرطة تطارده. ويبدو أن زيارته الأولى التي مرت بسلام شجعته على القيام بزيارة أخرى، وهي الزيارة التي انتهت بشكل كارثي. ويضيف المصدر نفسه أن الشرطة علمت بخبر وصوله إلى المنزل في المرة الأخيرة، فقامت بنشر عناصرها المتخفية بزي مدني داخل الحي، كما أبلغت أسرته بأن تخبر الأمن عندما يصل إلى المنزل من أجل تسهيل مهمة القبض عليه. قصة الاعتقال كانت الساعة تشير إلى منتصف ليلة السبت الماضي، عندما زار «ع. الزهراني» منزل والدته، معتقدا أن زيارتها في ساعة متأخرة من الليل لن تشكل عليه أي خطورة، لكن حصل عكس ذلك، وتسببت زيارته لمنزل والدته في ارتكابه لجريمة قتل أخرى، وهذه المرة ارتكبها ضد نفسه، بطريقة ربما شبيهة بالطريقة التي قتل بها ضحيته الأولى بمقهى «الحافة». فعند الساعة الواحدة ليلا توصلت عناصر الأمن بإخبارية، قيل إنها من أخت الجاني، تفيد بأن عبد اللطيف دخل إلى المنزل وأنه يوجد داخل غرفته. بسرعة بالغة، توجهت عناصر الأمن إلى حي «الحافة»، وهي تدرك جيدا أن كل شيء ممكن الحدوث، ومن بين الاحتمالات إمكانية إطلاق النار على الجاني إن هو أبدى مقاومة عنيفة عند محاولة اعتقاله. ولم تمض سوى دقائق معدودة لدخول الزهراني إلى المنزل حتى داهمته قوات الأمن، وأغلقت جميع الطرق المؤدية إليه، تفاديا لأي هروب محتمل. وبدت عناصر الأمن وكأنها حضرت بشكل جيد لعملية اعتقال الجاني، الذي دام هروبه أزيد من ثلاثة أسابيع، وبحثت الدوريات الأمنية عنه طويلا ولم تجده وكأن الأرض انشقت وابتلعته. ويقول أحد المقربين من الجاني إن عبد اللطيف ربما أحس بأن شيئا غير عادٍ يحصل خارج المنزل، وعندما سمع الباب يطرق بدأ يصرخ، ويبحث عن سكينه الذي قتل به ضحيته الأولى بمقهى الحافة، وبدون تردد شرع في قطع شرايين يده اليسرى. في هذه الأثناء فتحت أخت الجاني الباب لعناصر الأمن، الذين فوجئوا بأن الجاني يحمل سكينا حادا أصاب به يده اليسرى، لكنهم فوجؤوا أكثر عندما وجه الجاني، بشكل سريع، طعنات قاتلة إلى بطنه، وتسبب ذلك في إصابته بنزيف حاد. المصدر ذاته يقول إن مجموعة من الجيران تجمعوا أمام الباب عندما سمعوا الصراخ ينبعث من داخل منزل الزهراني، ليكتشفوا أن عملية قتل أخرى ارتكبت في حيهم، لكن هذه المرة ارتكبها الجاني ضد نفسه. في هذه الأثناء، تم استدعاء سيارة الإسعاف التي هرعت إلى عين المكان ونقلت الجاني إلى مستشفى محمد الخامس، لكن ذلك لم يكن كافيا من أجل إنقاذ حياته، فقد توفي قبل أن تصل سيارة الإسعاف إلى المستشفى، لينتهي بذلك لغز جريمة «الحافة» دون تفكيكه. «كان المشهد مأساويا للغاية في تلك الليلة داخل منزل الزهراني»، يقول أحد أصدقاء الجاني، ذلك أنه اختار قتل نفسه أمام أنظار أمه وإخوته وزوجته، التي قيل إنها كانت أيضا حاضرة داخل المنزل. وتقول مصادر أمنية إن الجميع فوجئ بقتل الجاني نفسه بهذه الطريقة، التي بدا فيها وكأنه يجهز على ضحية أخرى، من خلال استعماله للسكين التي بقر بها بطنه، وتسبب ذلك في حالة من الذعر داخل المنزل. ولم يكن أحد يتوقع أن تكون نهاية الجاني بهذه الطريقة المرعبة، ربما حتى هو نفسه الذي جاء في زيارة مفاجئة إلى المنزل، كانت ربما ستستغرق دقائق معدودات ويعود إلى مكان هروبه، لكن عناصر الأمن كانت هذه المرة أسرع من الجاني، ولم تكن لتدع فرصة القبض على المجرم تضيع. فصول من حياة الجاني بعد ارتكاب عبد اللطيف لجريمة قتل بمقهى «الحافة»، ذهب الجميع إلى كون هذا الرجل يعاني من اضطرابات نفسية وعقلية، غير أن أصدقاءه صرحوا ل«المساء» بأن عبد اللطيف لم يكن يوما يعاني من مرض عقلي، وبأن ظروفه الاجتماعية هي التي ساهمت بشكل كبير في ارتكابه لجريمة القتل. «ع. الزهراني» من مواليد 1977، سافر إلى اسبانيا خلال سنة 2005 عن طريق الهجرة السرية، أمضى حوالي سنتين داخل هذا البلد، وتمكن من الحصول على أوراق الإقامة، لكن تفجيرات مدريد سنة 2007 شكلت منعطفا حاسما في حياته، فقد اتهمته السلطات الأمنية الإسبانية بالتورط في هذه التفجيرات، واعتقلته لمدة 6 أشهر وسحبت منه أوراق الإقامة، قبل أن تقرر نقله إلى بلده، وفي سجن «الزاكي» بمدينة سلا، أكمل الزهراني عقوبته الحبسية المتمثلة في ثلاث سنوات. ويقول صديق مقرب من الجاني إن ملامح عبد اللطيف تغيرت بشكل كبير لما خرج من السجن وعاد إلى أهله بمدينة طنجة، ويضيف «كان شخصا معروفا بسوء سلوكه داخل الحي وكان يتناول المخدرات قبل أن يهاجر إلى إسبانيا»، قبل أن يستطرد «لقد عاد من السجن ملتحيا ومتدينا ولا يتحدث مع أصدقائه إلا في المواضيع التي لها صلة بالتدين». يروي المقربون منه أنه كان يقرأ كثيرا الروايات البوليسية عندما كان شابا في العشرينات، وكان يتشاجر كثيرا مع شباب الحي، حتى إن جسمه يحمل ندوبا كثيرة جراء الضربات التي تلقاها بالأسلحة البيضاء في جميع أنحاء جسمه. ويحكي أحد أصدقائه ل«المساء» أنه ذات يوم، عندما كان يستمع إلى خطبة الجمعة، قام وغادر المسجد لما كان الإمام يتحدث عن طاعة الحاكم وولي الأمر، وأثار بسلوكه هذا المصلين الذين وجهوا أنظارهم إليه، لأن خروجه من المسجد لم يكن متوقعا، سيما وأنه كان يجلس في الصفوف الأولى. وسبق للجاني، الذي توقف عن الدراسة في السنة الثالثة من السلك الإعدادي، أن دخل إلى السجن المحلي بطنجة قبل أن يهاجر إلى إسبانيا، وذلك بعدما اغتصب فتاة قاصرا وقضى بسبب ذلك عقوبة حبسية، قبل أن يخرج ويفكر بعدها في كيفية الهجرة نحو إسبانيا. عاش عبد اللطيف الزهراني وسط أسرة فقيرة وغير مستقرة، فهو كان دائما، وفق شهادة أصدقائه، يتشاجر مع إخوته وأمه، وكانت علاقته بإخوته يطبعها الصراع المستمر، ورغم أنه تزوج قبل 6 أشهر، فإن سلوكه لم يتغير نحو إخوته. معطيات جديدة حول الجريمة في الوقت الذي كان الجميع يعتقد أن الجاني ارتكب جريمته بطريقة عشوائية، فإن أحد المقربين منه أكد ل«المساء» أن الزهراني كان يدرك جيدا هدفه والأشخاص الذين كان يرغب في استهدافهم. وأضاف المصدر نفسه أنه لما دخل إلى المقهى قال: «آخوتي العرب أنا ماعندي معاكم والو.. المشكلة ديالي مع النصارى الكفار». وكان الجاني متوجها وبيده السكين نحو طالبة إسبانية كانت جالسة إلى جانب الضحية حسن الزياني، لكن الزياني حاول دفعه حتى لا يصيبها بأذى، فاختار الجاني أن يبدأ به ويقتله حتى يتمكن من الوصول إلى الفتاة الإسبانية. غير أن الجاني لم يتمكن من ذلك رغم أنه أصاب اثنين من رفاق الضحية، أحدهما فرنسي والآخر مغربي، الذي أصيب إصابة بليغة، فيما نجحت الإسبانية في الفرار من الجاني، الذي بدوره هرب لما كثر الصراخ وتجمع زوار المقهى حول الضحية. القتيل كان طالبا بالمعهد العالي للترجمة، وهو متحدر من مدينة الرباط، وموته شكل صدمة حقيقية بين زملائه في المعهد، الذين نظموا وقفة احتجاجية أمام ولاية طنجة، طالبوا فيها بتوفير الأمن، خصوصا أن معهدهم صار مأوى لمنحرفين كثيرين يستغلون عزلة المكان لتهديد الطلبة والتحرش بهم. شائعات حول الجاني تزامن وقوع جريمة القتل بمقهى «الحافة» مع تردد إشاعة قوية داخل المدينة تتعلق بوجود «سفاح» يقتل النساء وأن عدد الضحايا وصل إلى 10 وأن السفاح يبحث عن نساء أخريات داخل الأحياء وبين الأزقة حتى يضيفهن إلى قائمة ضحاياه. أصحاب هذه الإشاعة لفقوا التهمة إلى الجاني عبد اللطيف الزهراني، رغم أن ضحيته ليست امرأة وإنما رجل، ومع ذلك قالوا إنه «السفاح» الذي يقتل النساء. ومما زاد من قوة هذه الإشاعة هو أن الجاني ظل لفترة طويلة هاربا من قبضة الأمن، وهي فرصة استغلها أصحاب الإشاعة ليقولوا للناس إن الشرطة لم تستطع القبض على السفاح، لأنه شخص مرعب وملثم ويصعب إلقاء القبض عليه. ورغم أن والي المدينة، محمد حصاد، أعلن أن هذا السفاح هو مجرد إشاعة كاذبة، فإن لا أحد صدق الوالي واستمرت الإشاعة إلى أن سمع الناس بأن السفاح انتحر. الغريب أن هذه الإشاعة اختفت بمجرد انتشار خبر انتحار الزهراني، وكأنه بالفعل هو من كان يقتل النساء، في حين أن الجاني لم يكن هو «السفاح» الذي يعتقده السكان، وأن ذلك مجرد إشاعة لم يعرف من كان وراء تسريبها وسط السكان وداخل المؤسسات التعليمية. بعد وقوع التفجير الذي هز مقهى «أركانة» بمدينة مراكش، ترددت إشاعة أخرى، وهذه المرة كانت أقرب إلى التصديق من الإشاعة السابقة، وهي أن الجاني هو من قام بتفجير هذا المقهى. وقد وضعت المصالح الأمنية مجموعة من الفرضيات حول الأشخاص المحتمل تورطهم في هذه الجريمة، منها مجرم مقهى «الحافة»، الذي قدم المحققون صورته إلى شاهد عيان هولندي، الذي رأى الشخص الذي قام بتفجير المقهى. لكن بمجرد أن توصلت مصالح الأمن إلى الفاعل الحقيقي واثنين من المتورطين معه، تم نفي هذه الفرضية، وتأكد رسميا أن مجرم «الحافة» لا علاقة له بما وقع في مراكش، وأن الرجل كان يعاني من مشاكله مع نفسه أكثر مما يعاني من مشاكله مع الآخرين.