إن طرح مسألة إصلاح مؤسسات الدولة التي كانت مسؤولة عن انتهاكات الماضي، في مراحل التحول السياسي لبعض الدول، يعتبر من بين أكبر التحديات التي واجهتها هذه الدول، وذلك لأن مجال الإصلاحات المؤسساتية شاسع ومعقد بشكل كبير، فالعلاقات داخل أجهزة الدولة لا تسمح بإجراء تشخيص بسيط للإصلاحات، إذ إن إصلاح أجهزة أمن الدولة يستلزم إصلاح الجيش والشرطة والقضاء والجمارك وأجهزة المخابرات، والقطاعات العديدة الأخرى ذات الصلة. وهكذا فإن محاولة تغيير البنيات المؤسساتية والحساسيات داخل هيئة ما سينعكس على العديد من الهيئات الأخرى، ولا تكون التفاعلات القائمة بينها دائما واضحة بشكل مباشر للعيان. في المغرب، جاء تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة بعدة توصيات تهم إصلاح جهاز الأمن والقضاء، وذلك لعدة اعتبارات، أولها أن أجهزة الأمن كانت مسؤولة بصفة مباشرة عن انتهاكات الماضي عن طريق التعذيب والاختطاف والاعتقال والقتل، وكل هذه الجرائم كانت ترتكب تحت جنح الظلام، بحيث يتم تبديد وإتلاف كل وسائل الإثبات والإدانة. وتتوزع المسؤوليات على عدة مؤسسات يصعب ضبطها. من جهة أخرى، أعتبر أن جهاز القضاء كان مسؤولا كذلك عن هذه الانتهاكات لأنه سكت عنها، وذهب أبعد من ذلك حين أقدم على إصدار أحكام جائرة على مواطنين أبرياء يحاول النظام المغربي الآن ترضيتهم وجبر أضرارهم عن طريق التعويض المادي. كما أن هناك جريمة أخرى ترتكب في حق الشعب المغربي وفي حق تاريخ هذا البلد وهي عدم تحديد المسؤوليات الفردية والمؤسساتية في تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة، مما يجعل ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان يظل مفتوحا على كل الاحتمالات. إن الأهداف من تبني استراتيجية إصلاح أجهزة الأمن هي: أولا، إعادة الثقة إلى المواطنين في هذه الأجهزة، وثانيا، ترسيخ ثقافة عدم الإفلات من العقاب. وهناك عدة تجارب دولية نجحت في إصلاح أجهزتها الأمنية عن طريق برنامج يسمى «Vetting» -التطهير والتقويم- كان يؤطره المركز الدولي للعدالة الانتقالية في كل من تشيكوسلوفاكيا وإيرلندا والبوسنة. المغرب مطالب كذلك بهذه الإصلاحات لأن الجميع كان يعتقد أن الدولة قد قطعت مع انتهاكات الماضي، إلا أن أحداث 16 ماي في الدارالبيضاء أعادت أساليب الاختطاف والتعذيب. والغريب في الأمر أن القضاء قد سار في نفس تعليمات الماضي، حيث أصدر أحكاما جائرة على عدة مواطنين، وأقول هذا بحكم تتبعي لأغلب محاكمات «الإسلاميين»، إذ صدرت الأحكام طبقا لتوجيهات ومذكرات الأجهزة الأمنية بالرغم من عدم وجود وسائل الإثبات والإدانة القطعية. لقد أضحى مطلب إصلاح أجهزة الأمن والقضاء من الأولويات الأساسية وكضمانة أساسية لعدم تكرار الانتهاكات في المستقبل عن طريق المراقبة الفعالة والموضوعية لهذه الأجهزة، وذلك بخلق مؤسسات جديدة لبلوغ هذه الغاية، بما في ذلك هيئات مراقبة مدنية ولجنة وطنية مستقلة لحقوق الإنسان ومؤسسات عليا لتدقيق الحسابات ومكتب للتظلمات (لاستقبال الشكايات ضد مسؤولي الدولة والتحقيق بشأنها) ومكاتب متخصصة في محاربة الفساد. ولن يتأتى هذا إلا بإشراك الفاعلين الأساسيين (الشرطة، الجيش، القضاء) عن طريق تعليمهم وإعادة تكوينهم للتمكن من إجراءات سياسية جديدة تحترم حقوق الإنسان، زيادة على تطبيق وعقلنة بنيات إدارية وتواصلية وتدبيرية لتشجيع الشفافية ومراقبة مساطر التوظيف لتشجيع قوات الشرطة والقضاء النزيهين على ممارسة وظائفهم بكل استقلالية. لا بد من التنبيه إلى أنه ليس من مصلحة الدولة الآن أن توقف مسلسل الإصلاحات الذي بدأته بأكبر ورش في التاريخ المعاصر للدولة عن طريق تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة والتوصيات الهامة التي صدرت في تقريرها الختامي، لأن النتائج ستكون عكسية على مستقبل وصورة المغرب على الصعيد الدولي، وقد بدا ذلك جليا في الانتقادات التي أصبحت توجه إلى المغرب من قبل عدة منظمات دولية تتهمه بخرق حقوق الإنسان وممارسة التعذيب والاختطاف وعدم استقلال القضاء والعبث الذي أصبحت تسير به أجهزة الدولة في غياب كل مساءلة على سوء التدبير والتسيير. وهنا يجب التأكيد على ضرورة إعادة الشرعية إلى المؤسسات ونبذ الاستبداد، لأن تاريخ الشعوب بني عليها وعلى مصداقيتها وما زال يجني ثمارها إلى الآن، كما أن الاستثمار الحقيقي يجب أن يكون في العنصر البشري كقاطرة أساسية للتنمية، وذلك بترسيخ قيم دولة المواطنة على حساب دولة الرعايا. لقد بعثت حركة 20 فبراير رسالة إلى من يهمه الأمر، مفادها أن مغرب ما بعد 20 فبراير لم يعد يقبل بالتراجع إلى الوراء في ظل ربيع الثورة العربية والبروسترويكا (إعادة البناء)المغربية، وذلك من خلال التنديد بكل التجاوزات التي يتعرض لها المواطنون والمطالبة بإغلاق كل مراكز الاحتجازالتي تمارس التعذيب، وعلى رأسها معتقل تمارة سيئ الذكر، كما رفعت الحركة شعار إعادة النظر في أجهزة المخابرات المغربية ومحاكمة كل المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان. الدولة مطالبة بإعادة تأهيل أجهزتها حتى تصبح لدينا مخابرات مواطنة وجيش مواطن وقضاء مواطن، مهمتهم الأساسية السهر على احترام سلامة المواطنين وصيانة كرامتهم وإعادة الثقة في جميع المؤسسات وجعل القضاء والقانون هو السلطة العليا للبلاد. وأخيرا، أود أن أشير إلى أن هذه الإصلاحات لا يمكن أن تنجح إلا في إطار إصلاح شمولي يضمن إقرار دستور ديمقراطي ينسجم مع مبادئ وقيم ومعايير حقوق الإنسان الكونية، وكذلك مصادقة المغرب على سائر المواثيق والعهود والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، والمصادقة على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، واحترام سيادة القانون في الممارسة على كافة المستويات ونهج أسلوب المساءلة وعدم الإفلات من العقاب لمنتهكي حقوق الإنسان كيفما كانت مراكزهم ومبرراتهم. باحث جامعي